أزمة الصحافة في إيران.. شهادات صادمة عن مهنة البحث عن المتاعب

يعيش الصحفيون المحترفون في إيران هذه الأيام أزمة خانقة متعددة الأبعاد، فمن الناحية النفسية والمالية والاجتماعية، وبعد أن كانوا صوت المجتمع في نقل مشاكله، وجدوا أنفسهم عاجزين عن التعبير عن معاناتهم الشخصية، فكثير منهم يعاني من الاكتئاب، والإرهاق، وفقدان الأمل، وقد دفعتهم ضغوط العمل المتواصلة، إلى جانب تدني الرواتب، وتشديد الرقابة، وتوالي الأخبار الكئيبة، إلى العزلة والابتعاد عن المهنة. بعضهم ترك العمل تماما، ليس لعجز مهني، بل بسبب الإرهاق النفسي العميق والاشمئزاز من فساد الوسط الإعلامي وانهيار استقلاليته.

شهادات صادمة

مأساة هؤلاء الصحفيين بدأت تُكشف تدريجيا بعد وفاة مفاجئة وغامضة للصحفية الشهيرة نزهت أمير آباديان، الصحافية بجريدة شرق الإصلاحية في 16 مايو/أيار 2025، ما دفع عددا من الصحفيين للبوح بمعاناتهم لأول مرة، وكان الصحفي البارز أكبر منتجبی كان من دعا إلى الحديث عن الاكتئاب وآثاره بين الصحفيين، لتتحول دعوته إلى شرارة كشفت حجم المأساة، فقد استجاب عددا من الصحفيين وكتبوا شهادات مؤلمة عن معاناتهم، محطّمين بذلك الصمت المهني الذي خنقهم لسنوات.

نزهت امیرآبادیان؛ صدای پرسش‌گر سیاست خاموش شد

من بين هذه الشهادات، برزت كلمات الصحفية السابقة مهسا جزيني، التي وصفت الاكتئاب بالكلب الأبيض الذي ينهش أرواح الصحفيين، فقد اعترفت مهسا بأنها لم تعد قادرة على الاستمرار، فهجرت الصحافة ولجأت إلى الترجمة، بحثا عن مهرب من اليأس، وأشارت إلى جراح خفية يحملها الصحفيون الذين قاتلوا سنوات من أجل قول الحقيقة، ثم تركوا المهنة بسبب الإحباط.

بدورها عبرت الصحفية إميلي أمرائي، الصحفية والمترجمة من جيل ما بعد الثورة، عن فقدانها لحماسة البدايات، فتقول: “استذكرت أيام التحرير التي كانت مليئة بالضحك والحيوية، ثم قارنَتها بالحاضر المليء بالصمت والتعب، إن كل ما تبقّى من تلك الأيام هو الإرهاق والفراغ”، كذلك فقد روت كيف أن زملاءها فقدوا الدافع ذاته، وأصبحوا يعانون من الشيخوخة النفسية المبكرة.

أما الصحفية زهرا جعفرزاده، الصحفية المختصة بالشؤون الاجتماعية، فذهبت أبعد في وصف المأساة، قائلة إنها رأت نفسها في قاع بئر، تفكر في الموت، وكانت أفكارها الانتحارية تدفعها نحو النهاية، حتى إن طبيبها وصف لها مضادا للاكتئاب، ففي كلماتها المختزلة، ظهرت مأساة الإنسان الذي كان راويا لأوجاع الآخرين، ثم أصبح عاجزا عن تحمل وجعه.

A collage of women wearing headscarves

AI-generated content may be incorrect.

وعن الصحفية مرضیه حسيني، المراسلة في إحدى الصحف المحلية، فقد روت تجربتها مع الغيبوبة، وكيف أوصلها الاكتئاب إلى مشارف الموت، كانت تكتب وتنقل الحقائق، لكنها اليوم حبيسة المنزل، تنهار تحت وطأة الكوابيس، أما شقایق آرمان، فوصفت حالتها بلغة رمزية تعبّر عن الانكسار الداخلي، وقالت إنها كانت تفكر في إنهاء حياتها بهدوء، مثل شخصيات خيالية تبحث عن مخرج من الألم.

ما هي الظروف التي يواجهها صحفيو إيران؟

رصد التقرير السنوي الصادر عن الاتحاد الدولي للصحفيين تصاعدا خطيرا في وتيرة القمع ضد الإعلاميين في إيران خلال العام 2024، حيث أكد استمرار السلطات في ممارسة التضييق على حرية الصحافة ضمن مناخ من الخوف والاستهداف المنهجي.

فوقفا للتقرير، بلغ عدد الصحفيين المعتقلين خلال العام، 27 صحفيا وناشطا إعلاميا، بعضهم ما زال رهن الاحتجاز رغم إعلان العفو العام، كما صدرت أحكام بالسجن على أكثر من 21 صحفيا بمجموع عقوبات تجاوز 60 عاما، أغلبها بتهم الدعاية ضد النظام أو العمل ضد أمن الدولة، هذه الأحكام، وفق التقرير، مثلت جانبا فقط من حجم القمع، إذ أن هناك حالات لم يعلنن عنها رسميا.

A group of people looking at a table of newspapers

AI-generated content may be incorrect.

كذلك، فقد ذكر التقرير أن السلطة القضائية في إيران قد توسعت في إصدار عقوبات غير تقليدية تكميلية بحق الصحفيين، وصلت إلى جلد علني، منع من العمل، حظر السفر، أو حتى النفي. من بين الأسماء البارزة التي شملتها هذه العقوبات الناز محمدي، نجين باقري، مهدي نيك‌ عهد، حسين يزدي، مصطفى جعفري، ومرضيه محمودي، وبعضهم أُجبر على حضور دورات في إدارة السلوك أو حُرم من التواصل مع الصحفيين الأجانب.

كذلك، فقد شهد العام تصاعدا في استدعاءات الصحفيين إلى النيابات العامة، والتي غالبا ما تنتهي بالاعتقال أو فرض كفالات باهظة. كذلك، طالت إجراءات التوقيف والتعليق عددا من الصحف والمجلات مثل انتخاب، اعتماد، سازندكي، جهان صنعت، صبح اقتصاد، ومجلة فردای اقتصاد، التي تعرض عدد من صحفييها للاعتقال، فيما تعددت الأسباب بين أوامر قضائية، ضغوط أمنية، أو مشكلات نشر.

أزمات ممتدة خلقت واقعا معقدا

يشير الوضع المضطرب لواقع الصحافة في إيران إلى أزمة عميقة، فرغم وجود صحفيين بارعين، إلا أن الفوضى والارتباك اللذين يسيطران على المؤسسات الإعلامية من صحف ووكالات أنباء قد أثرت سلبا على أداء هؤلاء الصحفيين، فالوضع الاقتصادي للمؤسسات الصحفية متدهور بشدة، كما تصاعدت الضغوط المباشرة وغير المباشرة عليها خلال السنوات الأخيرة، ومع تكرار الاعتقالات والسياسات الخاطئة ضد الإعلام طيلة العقدين الماضيين، تراجعت مرجعية الإعلام الإيراني بشكل لافت، حتى خرجت الوسائل الإعلامية المحلية من دائرة اهتمام الجمهور.

ومع غياب الجمهور، تقلص المجال المهني للصحفي، مهما كان ملتزما، فالأزمات لا تقتصر فقط على المؤسسات، بل تنعكس على حقوق الصحفيين أنفسهم، وأبرزها حق الوصول الحر إلى المعلومات، الذي شهد تقييدا حادا في السنوات الأخيرة، حيث باتت الدوائر الحكومية تمنع الصحفيين من الوصول للأخبار. إلى جانب ذلك، انعدم الشعور بالأمن المهني، إذ يُلاحق الصحفيون بسبب تعارض أعمالهم المهنية مع مصالح القوى النافذة، رغم أن من حقهم ألّا يتعرضوا لأي أذى أثناء أدائهم لمهامهم.

أما على الصعيد المعيشي، فالأوضاع مأساوية. باستثناء عدد محدود من الوسائل الإعلامية المرتبطة بمؤسسات رسمية، لا تستطيع معظم الصحف ووكالات الأنباء توفير ظروف عمل لائقة. فالرواتب متدنية، وكثير من الصحفيين لا يتمتعون بالتأمين أو الحماية من الطرد التعسفي.