- ربيع السعدني
- 60 Views
كتب: ربيع السعدني
في عالم السياسة العسكرية الإيرانية، يبرز اسم اللواء محمد باقري كرمز للقوة والتخطيط الاستراتيجي، قائدٌ عسكريٌ متمرس، ترك بصمته في ساحات الحروب والاستخبارات، وأصبح أحد أعمدة القوات المسلحة الإيرانية.
يمثل اللواء محمد حسين باقري جيلا من القادة الذين لا يؤثرون على مصير القوات المسلحة اليوم فحسب، بل يلعبون أيضا دورا محوريا في تحديد مستقبل عقيدة الدفاع في البلاد منذ انضمامه إلى الحرس الثوري في بدايات الثورة مرورا بتجربته في الحرب العراقية-الإيرانية، وحتى توليه منصب رئيس هيئة الأركان العامة، يجمع باقري بين الخبرة الميدانية والرؤية السياسية، مما جعله شخصية محورية في تشكيل سياسات إيران الدفاعية.
من طهران إلى ساحات القتال
وُلد محمد حسين أفشردي، المعروف باسم محمد باقري، عام 1958 في طهران، لكنه ينحدر من قرية أفشرد في مدينة هريس بمحافظة أذربيجان الشرقية شمال غربي إيران، نشأ في عائلة متواضعة، وأظهر منذ صغره شغفا بالدراسة والعمل المنظم، وفي سن المراهقة، كان طالبا في السنة الأخيرة من المدرسة الثانوية عندما اندلعت الثورة عام 1979، وهي النقطة الفاصلة في حياته.

التحق بالدورات الفنية في جامعة أمير كبير (البوليتكنيك سابقا) بقسم الهندسة الميكانيكية، لكنه سرعان ما تخلى عن الدراسة الأكاديمية لينخرط في العمل العسكري مع الحرس الثوري الإيراني، حصل باقري لاحقا على درجة الدكتوراه في الجغرافيا السياسية من جامعة تربية مدرس، وأصبح عضو هيئة تدريس في جامعة الدفاع الوطني العليا، حيث يُدرّس ويسهم في صياغة الاستراتيجيات العسكرية، هذه الخلفية الأكاديمية، إلى جانب تجربته الميدانية، منحته رؤية فريدة تجمع بين العلم والممارسة العملية.
من الحرب إلى القيادة العليا
بدأت مسيرة باقري العسكرية مع انضمامه إلى الحرس الثوري الإيراني في صيف عام 1980، تزامنا مع اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، شارك في عمليات عسكرية حاسمة، واكتسب خبرة واسعة في الاستخبارات والتخطيط العسكري. وخلال هذه الفترة، تولى باقري قيادة عمليات ضد التمردات الكردية المسلحة في شمال غربي إيران، حيث أظهر مهارة في التعامل مع التحديات الأمنية المعقدة.

في التسعينيات، أُسندت إليه مسؤولية شؤون الاستخبارات في عمليات الحرس الثوري ضد منظمات كردية مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وحزب كوملة، مما عزز مكانته كخبير استخباراتي لاحقا، تولى إدارة مؤسسة “خاتم الأنبياء“، الذراع الهندسية للحرس الثوري، التي تُعدّ واحدة من أكبر الكيانات الاقتصادية في إيران، بإيرادات سنوية تتراوح بين 10 و12 مليار دولار، هذه المؤسسة لعبت دورا محوريا في تمويل عمليات الحرس الثوري ودعم برامج الصواريخ البالستية والنووية.
صاحب الجغرافيا السياسية للقوقاز
نال باقري ثلاثة أوسمة نصر لجهوده في الدفاع المقدس، وميدالية نصر من القائد الأعلى للقوات المسلحة لإسهاماته لاحقا، ألف كتبا حول الجغرافيا السياسية للقوقاز، غرب آسيا، والقانون البحري الدولي في الخليج العربي ومضيق هرمز يُعد عضوا في المركز العلمي للجغرافيا السياسية ومؤسسا للجمعية الجيوسياسية الإيرانية، يتمتع بخبرة واسعة في الشؤون الاستخباراتية والعملياتية.

وتولى مناصب عليا في هيئة الأركان العامة، رُقّي إلى رتبة لواء، وفي يوليو/تموز 2016، عُين رئيسا لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة بأمر من المرشد الإيراني علي خامنئي خلفا للواء حسن فيروز آبادي، في خطوة عكست ثقة القيادة الإيرانية بقدراته الاستراتيجية، منذ ذلك الحين، أصبح باقري أحد أبرز أعضاء “شبكة قيادة الحرس الثوري”، إلى جانب قادة مثل محمد علي جعفري وعلي فدوي، وكان هذا التعيين بمثابة نقطة تحول في مسيرة القوات المسلحة الإيرانية، فمن ناحية، كان باقري يعتبر شخصية ذات دعم عملياتي وتحليلي وأكاديمي.
ومن ناحية أخرى، كان يمثل جيلا من القادة الذين جاءوا من ساحات القتال وهم على دراية بمنطق ومتطلبات الحرب الحديثة، خلال فترة قيادة باقري، طوّرت هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة نهجها من مؤسسة إشرافية بحتة إلى مؤسسة فاعلة في مجالات التنسيق بين القوات، ودراسات مستقبل الدفاع، وتطوير التمارين المشتركة، والتفاعل الإقليمي، وحافظ على علاقات وطيدة مع قادة الحرس الثوري، وتمكّن أيضا من بناء تفاعل فعّال مع قادة الجيش، وترسيخ مفهوم “التواصل الاستراتيجي” بين المؤسسات العسكرية.

ويعد اللواء باقري أحد المصممين الرئيسيين لمفهوم “الدفاع الوقائي” في السياسة العسكرية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولهذا السبب، تم في عهده متابعة وجود القوات المسلحة الإيرانية على جبهة المقاومة، من سوريا إلى العراق ولبنان، بتنظيم أكثر احترافية ونهج أكثر تنسيقا.
وأكد مرارا أهمية تطوير القدرات الصاروخية والبحرية والجوية والدفاعية والحرب الإلكترونية باعتبارها جوانب حيوية للردع الدفاعي للبلاد، وإذا نظرنا إلى تقدم القدرات العسكرية في السنوات الأخيرة فسوف نلاحظ بوضوح فعالية هذا النهج والطريقة في زيادة قدرة القوات المسلحة في جميع المجالات.
صوت القوة الإيرانية
يُعرف اللواء باقري بمواقفه الصلبة التي تعكس سياسة طهران الدفاعية والتوسعية، في عام 2019، وفي خضم التوترات حول مضيق هرمز، أعلن باقري أنه “إذا لم يمر نفطنا عبر مضيق هرمز، فلن يمر نفط الدول الأخرى أيضا”، وهو تصريح أثار قلقا دوليا وأكد دور إيران كقوة إقليمية مؤثرة.

كما أبدى موقفا قويا تجاه العراق، مشيرا إلى أن “بغداد خط أحمر” بالنسبة لإيران، وأن أي تهديد من تنظيم داعش سيواجه تدخلا إيرانيا مباشرا، هذا الموقف عكس التزام إيران بدعم حلفائها في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وفي سياق آخر، أكد باقري في تصريحات في عام 2020 خلال الذكرى الأولى لاغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس، أن “الثأر والانتقام لدم قاسم سليماني لن يُنسيا، وسننتقم له من منفذي وقادة اغتياله”، مشددا على استعداد إيران للرد على أي تهديد وقال: “ما يمنع العدو من مهاجمة إيران هو الردع والقدرات الدفاعية والرد التدميري لإيران”.
وأكد باقري في مناسبات عديدة، حق إيران في الدفاع عن نفسها وتطوير قدراتها العسكرية الذاتية، كما قدّم صورة دبلوماسية لقادة الجيش الإيراني في المحافل الإقليمية والدولية، ما يجعله، العقل المدبر للبنية العسكرية الإيرانية الحديثة، التي تسعى إلى الجمع بين القوة الناعمة والصلبة في استراتيجيتها الدفاعية.
في مرمى العقوبات
لم يسلم اللواء باقري ومؤسساته من العقوبات الدولية، في عام 2010، فرضت الولايات المتحدة عقوبات مالية على الحرس الثوري ومؤسسة “خاتم الأنبياء” بسبب دعمها لبرامج الصواريخ البالستية والنووية الإيرانية، هذه العقوبات استهدفت تجميد الأصول المالية للمؤسسة وتقييد أنشطتها التجارية، مما أثر على إيراداتها الضخمة.

ورغم هذه العقوبات، واصلت المؤسسة عملياتها، مستفيدة من شبكة واسعة تضم أكثر من 812 شركة تابعة، على المستوى الشخصي، لم تُفرض عقوبات مباشرة على باقري نفسه بناءً على المعلومات المتاحة، لكن دوره كقائد لمؤسسات عسكرية كبرى جعله هدفا غير مباشر للضغوط الدولية التي تستهدف الحرس الثوري، هذه العقوبات تعكس التوتر المستمر بين إيران والمجتمع الدولي حول برامجها العسكرية والنووية.
القائد بعيدا عن الأضواء
على عكس دوره العام البارز، يُحافظ باقري على خصوصية حياته الشخصية، هو شقيق حسن باقري، الذي كان نائباً لقائد القوة البرية للحرس الثوري، كان قائدًا خلال فترة الدفاع المقدس التي استمرت ثماني سنوات، وأول رئيس للاستخبارات والعمليات في الحرس الثوري مما يشير إلى أن العائلة لعبت دورا مهما في خدمة النظام الإيراني.
وعن سبب تغيير لقبه من أفشردي (نسبة إلى مسقط رأسه) إلى باقري، قال: “في الشهر الأول من الحرب، ذهبتُ إلى الأهواز وظهرتُ في جبهة خوزستان، ذكّرني أخي بتغيير اسمي إلى حسن باقري في الجبهة لتجنب التعرف عليّ، حاولتُ استخدام اسمي الحقيقي، لكن وجوهنا كانت متشابهة لدرجة أن الجميع أدرك أننا أخوة ونتيجةً لذلك، غيّرتُ اسمي أيضا وأصبح محمد باقري، وحفاظا على هذا الاسم فينا احتراما لأخي”.
رجل التحديات

اللواء محمد باقري ليس مجرد قائد عسكري، بل رمز للصمود الإيراني في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية، من ساحات الحرب العراقية-الإيرانية إلى قيادة هيئة الأركان العامة، شكّل باقري رؤية إيران الدفاعية بمزيج من الخبرة الميدانية والتفكير الاستراتيجي، يمثل جيلا من القادة الذين لا يؤثرون فقط على مصير القوات المسلحة اليوم، بل يلعبون أيضا دورا محوريا في تحديد مستقبل العقيدة الدفاعية للبلاد، في وقت تواجه فيه إيران تهديدات متنوعة ومعقدة ومتعددة الأبعاد، يُمثل وجود شخصية مثل الجنرال باقري على رأس الهيكل العسكري ميزة استراتيجية لطهران من حيث الاستقرار والتنسيق والكفاءة.
مواقفه الحاسمة، سواء في الدفاع عن مضيق هرمز أو دعم الحلفاء في المنطقة، تجعله شخصية محورية في معادلة القوة الإقليمية، ورغم العقوبات التي استهدفت مؤسساته، يواصل باقري دوره كمهندس للقوة العسكرية الإيرانية، متحدياً الضغوط ومؤكدا أن إيران ستبقى لاعبا لا يُستهان به على الساحة الدولية في عالمٍ مضطرب، يظل باقري رجل التحديات، يحمل على عاتقه مهمة صياغة مستقبل إيران العسكري بثبات وعزيمة.