- ربيع السعدني
- 25 Views
في يوم المعلم بطهران، حين تتوهج أرواح العلماء كمشاعل في ظلمات الجهل، يتألق اسم مرتضى مطهري كنجمٍ ساطعٍ في سماء الفكر الإسلامي.
لم يكن مطهري مجرد عالم دين أو فيلسوف، بل كان معلما حقيقيا، حمل لواء العقل والإيمان، وزرع بذور الوعي في قلوب جيلٍ قاد ثورة غيرت وجه إيران، كان جسرا بين الفقه التقليدي والحداثة، بين الروحانية الشيعية والنقد الفلسفي، وينبغي إدراجه في قائمة المفكرين الكبار الذين كان لهم تأثير عميق في مجال الفكر الإسلامي.
جذور العلم في فريمان
وُلد مرتضى مطهري في 3 فبراير/شباط 1920 في قرية فريمان بمحافظة خراسان، على بعد 75 كيلومترا من مدينة مشهد المقدسة، حيث كانت رياح الشتاء تحمل أصداء التاريخ الإيراني، نشأ في كنف أسرة متدينة، كان والده، الشيخ محمد حسين مطهري، عالم دينٍ زرع فيه حب القرآن والفقه منذ صغره في سن الخامسة، أظهر شغفا مبكرا بالعلم، إذ التحق بالمدرسة دون علم والديه، في خطوة تكشف عن إرادته القوية.

وبحلول الثانية عشرة، أتقن مطهري أسس العلوم الإسلامية على يد والده، ليبدأ رحلته العلمية في حوزة مشهد، حيث درس في مدرسة عبد الخان لمدة عامين، لكن الظروف العائلية أجبرته على العودة إلى فريمان، حيث قضى فترة درس خلالها كتب التاريخ بنهمٍ، مما شكل وعيه بالقضايا الكبرى مثل وجود الله والفلسفة.
في عام 1937 اتخذ قرارا حاسما بالالتحاق بحوزة قم، قلب العلم الشيعي، حيث استقر في مدرسة الفيضية، وعلى الرغم من الصراع العنيف الذي خاضه رضا خان مع رجال الدين ومعارضة الأصدقاء والأقارب، فقد ذهب إلى الحوزة العلمية لإكمال تعليمه.
هناك، تتلمذ على يد عمالقة الفكر مثل الخميني، الذي وصفه مطهري لاحقا بأنه “وجد فيه ذاته المفقودة”، والعلامة محمد حسين الطباطبائي، الذي علمه الفلسفة والمنطق وأصول التفسير، واستفاد من حضور البروجردي في الفقه والأصول، درس كتبا مثل “كفاية الأصول” و”مكاسب” على يد محقق يزدي (داماد)، مما صقل عقله وجعله فيلسوفا وفقيها استثنائيا.
الصعود:
في الخمسينيات، انتقل مطهري إلى طهران، حيث بدأ مرحلة جديدة كأستاذ في جامعة طهران ومدرسة سبهسالار (جامعة الشهيد مطهري لاحقا)، لم يكتفِ بالتدريس، بل أصبح صوتا فكريا وسياسيا يواجه التحديات الفكرية والاجتماعية في إيران.

كان مرتضى مطهري يرى أن الإسلام ليس مجرد شعائر، بل رؤية شاملة للحياة، قادرة على مواجهة التيارات الحديثة مثل الماركسية والعلمانية وكان يؤمن بحركة إسلامية، وليس بأية حركة، بذل جهودا أيديولوجية كثيرة من أجل أسلمة محتوى الحركة، وحارب بشدة ضد تأسيس حسينية الهداية في عام 1967 وانحرافاتها.
أبرز مناصبه وإسهاماته:
- مؤسس حسينية الإرشاد: في الستينيات، شارك مطهري في تأسيس حسينية الإرشاد، وهي مركز ثقافي وديني لنشر الفكر الإسلامي بين الشباب المتعلم. كانت هذه المؤسسة منصة لمواجهة الأفكار الماركسية والعلمانية، وجذبت نخبة الطلاب والمثقفين.
- عضو مجلس الثورة: في عام 1978، وبعد نفي الخميني إلى باريس، زار مطهري معلمه هناك، وكُلف بتشكيل مجلس الثورة الذي تولى رئاسته، كان هذا المجلس العمود الفقري لتنظيم الثورة داخل إيران، مما جعل مطهري هدفا رئيسيا لأعداء الثورة.
- مُنَظِّر الثورة: كتب مطهري عشرات الكتب والمقالات، مثل “العدل الإلهي”، “نظام حقوق المرأة في الإسلام”، و”خدمات متبادلة بين الإسلام وإيران”، التي شكلت الأساس الفكري لإيران، ركز على إحياء الفكر الديني بأسلوبٍ يناسب الشباب، وكتب مقالا بعنوان “الحاجة إلى الصراحة في القيادة الدينية” ليبرز جاذبية الإسلام.
- مؤسس جمعية رجال الدين المجاهدين: شارك مطهري في تأسيس هذه الجمعية، التي جمعت علماء دينٍ ثوريين دعموا الخميني في مواجهة نظام الشاه (محمد رضا بهلوي).
مواقف بارزة:

- صوت العقل والإيمان: كان مطهري رجل المواقف، يجمع بين الشجاعة الفكرية والالتزام الثوري وتعكس مواقفه رؤيته لإسلامٍ عقلانيٍّ وديناميكي.
- مواجهة الماركسية: في زمنٍ اجتذبت فيه الأفكار الماركسية الشباب الإيراني، وقف مطهري كحصنٍ فكري، وفي كتابيه “نقد الماركسية” و”أسباب التوجه إلى المادية” قدم نقدا فلسفيا عميقا، مؤكدا أن الإسلام يقدم عدالة اجتماعية دون الحاجة إلى الإلحاد، كان دوره حاسما في رد الشباب عن الماركسية نحو الفكر الإسلامي.
- دفاعه عن حقوق المرأة: في كتابه “نظام حقوق المرأة في الإسلام”، رد مطهري على التشويهات الغربية لصورة المرأة المسلمة، مؤكدا أن الإسلام يمنحها كرامة وحقوقا متوازنة، كما تناول قضية الحجاب في كتابه “مسألة الحجاب”، موضحا فلسفته كتعبير عن العفة والكرامة، وليس قيدا.
- نقده للتطرف الديني: رغم تدينه، انتقد مطهري التفسيرات المتشددة للإسلام، داعيا إلى فهمٍ عقلانيٍ يراعي احتياجات العصر هذا الموقف جعله هدفا لجماعات متطرفة مثل فرقان، التي اغتالته لاحقا.
- دعمه للخميني والثورة: كان مطهري من أوائل العلماء الذين دعموا الخميني علنا، حتى في أحلك لحظات المواجهة مع الشاه تعرض للاعتقال والمضايقات، لكنه ظل صلبا، مؤمنا بأن الثورة هي طريق إيران إلى السيادة والاستقلال، خدم مطهري الحركة بشكل كامل ولعب دورا أساسيا في جميع مراحلها خلال فترة إقامة الخميني في باريس، سافر إلى ذلك البلد وناقش مع الإمام القضايا المهمة للثورة، وفي عام 1977، ألقى خطابا في مسجد الأرك بطهران تكريما لمصطفى الخميني، مما عزز دوره كقائد فكري للثورة.
- رفض الأفكار الأجنبية المغلفة بالإسلام: في مقالٍ شهير عام 1977، حذر مطهري من “الأفكار الخارجية تحت راية الإسلام”، مشيرا إلى جماعات متطرفة مثل منظمة مجاهدي خلق وفرقان، التي حاولت تقديم أفكار مادية بزيٍ إسلامي، هذا الموقف عكس وعيه بخطر التلاعب بالدين.
ماذا قالوا عنه؟
وكان من صفاته التنظير الإسلامي، والنضال السياسي، واليقظة ضد الانحرافات، والتوجه المثالي نحو الحوزة العلمية، والاهتمام بالبحث والدراسة، وصلاة الليل وهو ما برز في كتاباته ذات القيمة العلمية الكبيرة لدرجة أن الخميني في رسالة إلى الأمة الإيرانية في مارس/آذار 1979 نصح الشباب بالاستفادة من أعمال وكتب الشهيد مطهري وعدم نسيان هذه الأعمال بسبب المؤامرات غير الإسلامية.

وفي لقاءٍ مع المعلمين عام 1999 قال علي خامنئي أيضا بشأن كتب الشهيد مطهري: “إذا أراد شبابنا وطلابنا ومعلمونا وعمالنا اليوم التعمق في الفكر الإسلامي وإيجاد إجاباتٍ لأسئلتهم، فعليهم الرجوع إلى كتب الشهيد مطهري، وللإمام تعليقٌ على كتب هذا الرجل العظيم يقول: جميعها جيدة ومفيدة”.
كما قال محمد حسيني بهشتي (من أبرز قيادات ووجوه الثورة في إيران) عن رفيقه مرتضى مطهري: “أذكر أنه في عام 1947 عندما كنا في قم كنا نفكر دائما في تنظيم علماء الدين وإثراء هذه المؤسسة الاجتماعية الإسلامية وفي السنوات الأخيرة من حياته، قرر مطهري القيام برحلات منتظمة إلى قم، ومن خلال البدء في مناقشات هادفة للطلاب الأكثر تعليما وفضيلة، متابعة وتطوير حركة نحو الإثراء الفكري للحوزة، وهي حركة كان من الممكن أن تؤدي إلى منظمات أخرى ولكن للأسف فإن هذه الحركة المباركة لم تكتمل باستشهاده”.
نهاية المعلم الشهيد
في ليلة 1 مايو/أيار 1979 وبينما كان مطهري يغادر جلسة فكرية في منزل سحابي بطهران، أطلقت جماعة فرقان المتطرفة رصاصات الغدر عليه، فسقط شهيدا، لكنه ترك إرثا أعمق من الموت.

الخميني، الذي وصفه بـ”ابني العزيز”، أصدر بيانا مؤثرا، قال فيه: “مطهري كان جزءا من وجودي”، وأضاف: “أعلن يوم الحداد العام يوم الخميس 3 مايو/أيار 2019، تخليدا لذكرى شخصية شجاعة ومضحية في سبيل الإسلام والأمة”، استشهاده جعل يوم 1 مايو/أيار يوما للمعلم في إيران، تكريما لمعلم الثورة الذي أضاء الدروب بدمه.
المعلم الذي ألهم أمة
كان مطهري مزيجا نادرا من العالم المتدين، والفيلسوف العقلاني، والثوري الشجاع. يُوصف بأنه كان هادئا في كلامه، عميقا في تفكيره، ودقيقا في نقاشاته، كان يستمع إلى طلابه بعناية، ويحاور خصومه بمنطقٍ لا يُقاوم في عينيه، كان يحمل بريق الإيمان، وفي قلبه، حلم إيران قويةٍ مستقلة.
كتب أكثر من 70 كتابا، نُشرت معظمها بعد استشهاده بجهود طلابه، وغطت مجالات الفلسفة، الفقه، الأخلاق، الاقتصاد، والسياسة، مؤلفاته، مثل “داستان راستان” (حكايات الأتقياء)، التي حازت جائزة اليونسكو عام 1965، و”نهج البلاغة: لمحات”، تُرجمت إلى لغاتٍ عدة، ولا تزال تُلهم أجيالا كان مطهري يؤمن أن العلم بلا أخلاقٍ هو موتٌ للروح، وأن الدين بلا عقلٍ هو انحرافٌ عن الحق.
الإرث:

نورٌ لا ينطفئ
مرتضى مطهري لم يكن مجرد معلم، بل كان مدرسة فكرية حية، كتبه التي نُشرت في أكثر من 60 مجلدا، لا تزال مرجعا أساسيا في الدراسات الإسلامية.
دوره في مواجهة الماركسية، وتأسيس حسينية الإرشاد، وصياغة فكر الثورة جعله رمزا للإسلام العقلاني.
الحياة الشخصية
كان صهر علي لاريجاني، الأمين السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي، مما يعكس نفوذه حتى في الأوساط السياسية، حيث تزوج ابنه الأكبر علي مطهري بنرجس أنصاري (حفيدة الشيخ جواد أنصاري) في عام 1983 ولديه حاليا 4 أطفال هم: مرتضى ورضا وليلى وزهراء، وشقيقته فريدة مطهري هي زوجة علي لاريجاني.

في يوم المعلم، يُحتفى بمطهري ليس فقط كشهيد، بل كمعلمٍ ألهم أمة، تصريحات على منصة إكس في مايو/أيار 2025، مثل تلك التي نشرها @habibiHossein31، تؤكد استمرار تأثيره: “يوم استشهاده هو يوم المعلم، تكريما لمعلمٍ مجاهد بعلمه ودمه”.
شعلةٌ في قلب الثورة
في يوم المعلم، نستحضر مرتضى مطهري، ليس كذكرى عابرة، بل كشعلةٍ لا تنطفئ، من فريمان إلى منابر طهران، حفر اسمه في جدار التاريخ، ليس بحبرٍ فقط، بل بدمٍ وفكر كان معلما لجيلٍ غيّر مصير أمة، وفيلسوفا أعاد صياغة الإسلام كرؤيةٍ حيةٍ للعصر.
في زمنٍ يعصف بالضجيج، يبقى صوت مطهري يرنّ في الضمائر: “أصعب الكفاح هو الكفاح ضد النفاق”، كما قال. فليظل إرثه منارة تهدي الأجيال، وليبقَ يوم المعلم تكريما لروحه التي أضاءت دروب الحرية والعقل”.