الطبيب الدبلوماسي علي أكبر ولايتي.. رجل لكل العصور (بروفايل)

في قلب طهران النابض، حيث تتزاحم أصوات المدينة وتتشابك خيوط التاريخ مع الحاضر، وُلد علي أكبر ولايتي في 25 يونيو/حزيران ،1945 بقرية رستم آباد في شميران، لعائلة من الطبقة المتوسط، لم يكن علي مجرد طفل عادي، بل كان بذرة لقائد سياسي ودبلوماسي سيترك بصمة لا تُمحى في مسيرة إيران الحديثة. 

كان علي طفلا هادئا ويقضي معظم وقته في قراءة الكتب، في سن التاسعة قرأ كتاب “إسكندر نامه” المكون من 7 مجلدات، ويتناول قصة حياة الإسكندر الأكبر، لكنه ليس مجرد سيرة تاريخية، بل يمزج بين الحقائق التاريخية والأساطير والخيال الشعري، وفي الصف الخامس الابتدائي قرأ هذا الطفل الصغير، كتاب “كليلة ودمنة”، لعبدالله بن المقطع عن مجموعة من الحكايات الأخلاقية والقصص الرمزية التي تُروى على ألسنة الحيوانات، منذ صغره كان لديه اهتمام كبير بكتب التاريخ، لدرجة أنه كان يقضي أحيانا 12 ساعة يوميا في دراسة التاريخ.

طبيب الأطفال الذي تحول إلى مهندس السياسة الخارجية، ومستشار المرشد الذي ظلّ يعمل في الظل لعقود، ينسج خيوط الاستراتيجية الإيرانية بذكاء وحنكة، لرجل جمع بين العلم والسياسة، بين الإنسانية والبراغماتية، ليصبح أحد أعمدة النظام الإيراني.

من رستم آباد إلى دهاليز السياسة

نشأ ولايتي في بيئة متواضعة في قرية رستم آباد، في عائلة كان فيها الابن الوحيد بين خمس شقيقات أخريات، لكن جذوره العائلية كانت مشبعة بالاهتمام بالسياسة، والده، المهتم بالشأن العام، زرع فيه منذ الصغر حب الحوار والتفكير النقدي، أكمل تعليمه الابتدائي والإعدادي في رستم آباد، مسقط رأسه، وتلقى تعليمه الثانوي في مدرسة جم قلهك الثانوية، كان مهتما جدا بالقراءة عندما كان طفلا ومراهقا، وكان يخصص الكثير من وقته لقراءة الكتب، وخاصة كتب التاريخ. بعد حصوله على شهادته في عام 1963، قام بالتدريس في مدرسة القائمية ثم في مدرسة جهان أراي الثانوية في قولهاك حتى عام 1971. 

في سن المراهقة، كان علي أكبر يقود زملاءه في الإعدادية للتظاهر ضد سياسات الشاه، مُظهرا شجاعة مبكرة وروحا ثورية، وتعرف ولايتي على الظروف السياسية بسبب اهتمام والده بالسياسة ثم اتجه إلى الشؤون السياسية وفي مناسبات مختلفة في المدرسة الثانوية، كان يدعو زملاءه في الفصل إلى إغلاق الفصول الدراسية والتظاهر احتجاجا على سياسات الشاه.

ولهذا السبب تم استجوابه عدة مرات من قبل جهاز السافاك الإقليمي (منظمة المخابرات والأمن القومي الإيرانية في عهد الشاه محمد رضا بهلوي وتم حله بعد الثورة الإيرانية)، وفي سن السابعة عشرة تم فتح قضية ضده من قبل جهاز السافاك في طهران.

من الطب إلى الثورة 

وفي عام 1962، وفي سن السابعة عشرة، أصبح عضوا في الجبهة الوطنية الثانية؛ وبالتعاون مع كل من لواساني ولبافي نجاد، والدكتور معتمدي، والدكتور الجزائري، والدكتور خادمي، أعاد إحياء جمعية الأطباء الإسلامية، التي تم تعليقها بعد الدكتور شيباني، وأقام اتصالات منتظمة مع مختلف المجموعات السياسية ورجال الدين التابعين لـ خامنئي. 

هذه الشرارة السياسية لم تُطفئ شغفه بالعلم، بل دفعته للالتحاق بجامعة طهران للعلوم الطبية عام 1964، حيث تخصص في طب الأطفال يقول عن تلك الفترة: “بعد سنوات، في عام 1977، أنهيت دراستي للطب العام واخترت مواصلة دراستي في طب الأطفال، وأحد الأسباب التي جعلتني أختار طب الأطفال هو أن الدكتور الراحل غريب كان في طليعة هذا المجال وأردت أن أكون أحد طلابه، ولذلك خدمناه لمدة ثلاث سنوات كأخصائي”.

لاحقا حصل علي أكبر ولايتي على شهادة الدكتوراه، لم يكتفِ بذلك، بل عبر المحيطات إلى جامعة جونز هوبكنز الأمريكية ليحصل على زمالة في الأمراض المعدية، مُثبتا أن طموحه لا يعرف حدودا، كان ولايتي يرى في الطب رسالة إنسانية، لكنه سرعان ما أدرك أن السياسة هي الدواء الأكبر لأمراض الأمم.

الحياة العائلية 

في عام 1969، عندما كان عمره 24 عاما، تزوج علي أكبر ولايتي من زوجته الأولى مريم خوشنويسان، حفيدة محمد حسين خوشنويسان، أحد أساتذة الخط المشهورين.

وكانت نتيجة هذا الزواج ثلاثة أبناء وبنت واحدة، ولكن للأسف توفيت زوجته في عام 2004 نتيجة عملية جراحية، وفي عام 2007، عندما كان عمره 62 عاما، تزوج ولايتي للمرة الثانية من ليلى عنايت التي ليس لها أي نشاط اجتماعي أو سياسي وهي ربة منزل وبسبب تقدمهما في السن والعجز الجنسي، تمكن الاثنان من إنجاب ابن وابنة بمساعدة العلوم الطبية.

ولكن مع اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، وجد ولايتي نفسه في قلب العاصفة، لم يكن مجرد طبيب يعالج الأطفال، بل أصبح جزءا من حركة تاريخية تهدف إلى إعادة تشكيل إيران، شغفه السياسي الذي بدأ في المدرسة تحول إلى التزام عميق بالثورة. 

أطول حكم لوزير خارجية إيراني

بعد نجاح الثورة، بدأت مسيرته السياسية تأخذ شكلها الحقيقي، علي أكبر ولايتي هو الرجل الذي، على الرغم من أنه لم يكن الأول، لم يفقد نجمه أبدا، تولى رئاسة وزارة الخارجية في 15 ديسمبر/كانون الأول 1988، وهو المنصب الذي سيحتفظ به لأكثر من خمسة عشر عاما، ليصبح أطول وزراء الخارجية عهدا في تاريخ إيران الحديث، عاصر حكومتي حسين موسوي، وهاشمي رفسنجاني، خلال هذه الفترة، واجه ولايتي تحديات جسيمة كانت إيران في خضم حرب طاحنة مع العراق (1980-1988)، وكان على ولايتي أن يقود الدبلوماسية الإيرانية في ظل عزلة دولية وعقوبات اقتصادية. 

وفي مقابلة مع وكالة مهر الإيرانية، وصف ولايتي المفاوضات لإنهاء الحرب بأنها “أصعب فترة في حياته المهنية”، مشيرا إلى تعنت المسؤولين العراقيين الذين حاولوا تحقيق عبر الطاولة ما عجزوا عنه في ساحات القتال لكنه، بحنكته، نجح في إدارة هذه المرحلة الحرجة، مُظهرا قدرة فائقة على الجمع بين الصلابة والمرونة.

مستشار ولا شيء غير ذلك

وفي 1 سبتمبر/أيلول 1997، ترك ولايتي منصب وزير الخارجية بعد 16 عاما، وسلم منصبه إلى كمال خرازي ليصبح مستشارا للشؤون الدولية للمرشد الإيراني علي خامنئي، وهو المنصب الذي يشغله حتى اليوم، بجانب عضوية مجمع تشخيص مصلحة النظام، والمجلس الأعلى للثورة الثقافية.

هذا التحول لم يكن تراجعا، بل كان ترسيخا لدوره كمهندس استراتيجي في السياسة الخارجية الإيرانية ومن مكتبه في طهران، أصبح ولايتي العقل المدبر وراء العديد من التحركات الدبلوماسية التي عززت مكانة إيران في المنطقة، سواء كان ذلك في دعم المقاومة الفلسطينية أو تعزيز العلاقات مع روسيا والصين، كان ولايتي حاضرا دائما، يعمل بهدوء بعيدا عن الأضواء.

في عام 2005، خاض علي أكبر ولايتي تجربة الترشح للرئاسة الإيرانية، لكنه انسحب لدعم أكبر هاشمي رفسنجاني، في خطوة أظهرت ولاءه للنظام واستعداده للتضحية بطموحاته الشخصية من أجل المصلحة العامة، هذه اللحظة عكست جانبا آخر من شخصيته: القدرة على وضع الأولويات فوق الأهداف الفردية.

صوت إيران في العالم

على المستوى الدولي، اشتهر ولايتي بمواقفه الحازمة في تصريحاته، أكد مرارا أن إيران لم تبدأ حربا في تاريخها، لكنها تتعامل بحزم مع أي عدوان، كما أعرب عن رؤية متفائلة بشأن القضية الفلسطينية، مشيرا إلى أن “الاحتلال سيغادر المنطقة في أقل من 25 عاما وسنصلي في القدس قريبا تحت قيادة المرشد الأعلى”.

في قراءة مستقبلية تعكس ثقته بالتغيرات الجيوسياسية في المنطقة، هذه التصريحات لم تكن مجرد كلام دبلوماسي، بل تعكس استراتيجية إيران طويلة الأمد التي يساهم ولايتي في صياغتها.

خارج أروقة السياسة

لم يقتصر دور ولايتي على السياسة والدبلوماسية، بل امتد إلى الأوساط الأكاديمية، كأستاذ بارز في جامعة شهيد بهشتي للعلوم الطبية، ساهم في تدريب أجيال من الأطباء، محافظا على ارتباطه بجذوره العلمية كما أنه يرأس مجلس مؤسسي ومجلس أمناء الجامعة الإسلامية الحرة، مما يعكس التزامه بتطوير التعليم في إيران، ولايتي ليس مجرد سياسي، بل هو مثقف له اهتمامات واسعة، حيث ألّف العديد من الكتب، منها كتاب عن تطورات القضية الفلسطينية، مُظهرا رؤية تحليلية عميقة للقضايا الإقليمية.

ما وراء الدبلوماسية.. ماذا قالوا عنه؟

وفي نفس هذه الفترة صدرت عشرات الكتب المتخصصة، كل منها يحتاج إلى سنوات من البحث، تحت اسم علي أكبر ولايتي حتى أكثر الباحثين وأساتذة التاريخ والأدب تخصصا وإنتاجا لم ينتجوا هذا الكم من الأعمال. 

ولايتي، الذي يهتم بنشر مجموعات متعددة المجلدات، نشر مجموعتي “موسوعة المدنية” و”تقويم التاريخ: ثقافة وحضارة الإسلام وإيران”، ومجموعة “تاريخ العلوم في ثقافة وحضارة الإسلام وإيران” المكونة من أربعة مجلدات، و”الموسوعة الطبية للإسلام وإيران”، ومجموعة “صانعو ثقافة وحضارة الإسلام وأرض إيران” المكونة من عشرات المجلدات، ومجموعة “تاريخ إيران القديم والمعاصر” المكونة من ثلاثة عشر مجلدا.

مذكرات ولايتي

ولكن ربما يكون الكتابان الوحيدان اللذان يستحقان الذكر هما “التاريخ السياسي والعسكري للحرب العراقية الإيرانية” ومذكراته بعنوان “ما وراء الدبلوماسية”، والتي تتضمن تجاربه خلال فترة عمله في وزارة الخارجية. 

وقد تم نشر مذكراته استنادا إلى وثائق إدارية، وبطبيعة الحال، بفضل جهود زملاء ولايتي في وزارة الخارجية، إن حفل إزاحة الستار عن كتاب “ما وراء الدبلوماسية” في معرض الكتاب 14 يونيو/حزيران 2023 والذي أقيم بدون حضور ولايتي، يظهر بوضوحٍ مكانته وحضره عدد من القادة والساسة الإيرانيين البارزين من بينهم كمال خرازي، وعلي أكبر صالحي.

وكان من بين المتحدثين في ندوة التوقيع على المذكرات السياسي والدبلوماسي الإصلاحيين البارز كمال خرازي، وزير الخارجية الإيراني الأسبق، واستذكر إنشاء كلية وزارة الخارجية، التي كانت خطوة مهمة واستراتيجية من علي أكبر ولايتي، قائلا: “كانت فترة ولاية ولايتي وزيرا للخارجية فترة صعبة، خضنا فترة طويلة من الحرب، ثم واجهنا تحديات فترة ما بعد الحرب المفروضة”.

ومن جانبه قال نائب الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر صالحي عن تأثير علي أكبر ولايتي في وزارة الخارجية الإيرانية: “اسم ولايتي مرتبط بوزارة الخارجية، لقد كان نظام عمل الخارجية منظما ومنهجيا عمليا، وكنا نعتبره البوصلة والموجه للسياسة الخارجية وهو المسار الذي سلكناه جميعا – بعضنا أسرع وبعضنا أبطأ”-، وعن كتاب “ما وراء الدبلوماسية”، أوضح علي أكبر صالحي: “لا ينبغي أن نعيد إحياء تجارب الماضي، بل ينبغي أن نكتبها ونسجلها ونتعلم منها الدروس”.

ولايتي.. رجل كل العصور

علي أكبر ولايتي هو تجسيد للتوازن بين العلم والسياسة، بين الإنسانية والبراغماتية من طبيب أطفال إلى وزير خارجية، ثم مستشار المرشد، استطاع ولايتي أن يتنقل بين الأدوار بحنكة نادرة، دوره في الحفاظ على مكانة إيران في ظل التحديات الإقليمية والدولية جعله رمزا للدبلوماسية الإيرانية حتى في لحظات الأزمات، كان ولايتي يحافظ على هدوئه، مُظهرا قدرة فائقة على قراءة المشهد السياسي واتخاذ القرارات الحاسمة.

منذ السنوات الأولى لتأسيس إيران عندما رشحه الرئيس آنذاك علي خامنئي لمنصب رئيس الوزراء ولم يوافق عليه البرلمان، حتى عام 2013، عندما كان مرشحا للانتخابات الرئاسية، لم يتمكن ولايتي قط من الوصول إلى منصب رئيس السلطة التنفيذية، ولكنه بلا شك كان الشخص الأول في الخارجية منذ البداية وحتى الوقت الحاضر، هذا الطبيب الذي لديه اهتمام خاص بنشر كتب التاريخ تحت اسمه، ويشغل العديد من مناصب المسؤولية، ويظهر في البرامج التلفزيونية، هو أحد المستشارين الأكثر ثقة والأقدم والأصدقاء المقربين للزعيم الإيراني خامنئي.

علي أكبر ولايتي القائد السياسي، يتحدث بنفسه عن أهمية الدراسات التاريخية في المسيرة السياسية: “من يريد أن يفهم السياسة جيدا يجب عليه أن يعرف التاريخ، إذا لم يكن التاريخ معروفا، فلن يؤدي الطريق إلى أي مكان”.