- ربيع السعدني
- 81 Views
كتب: ربيع السعدني
في مدينة قم المقدسة، حيث يتردد صدى الثورة والعلم، وُلد محسن فخري زادة في 15 سبتمبر/أيلول 1957، ليصبح أحد أبرز رموز الطموح الإيراني.
لُقّب بـ”أبو القنبلة النووية”، وأحيانا أخرى لقب “أوبنهايمر إيران“، وأحيانا أخرى لقب “عبد القادر خان إيران”، ووصفته صحيفة وول ستريت جورنال بأنه “معلم القنبلة الذرية في طهران”، واعتبره بنيامين نتنياهو “العقل المدبر وراء البرنامج النووي الإيراني”، ليس فقط لصناعته سلاحا، بل لأن عقله كان يحمل قدرة على إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة باعتباره رمزا للجهود العلمية الإيرانية في مواجهة التحديات والضغوط الدولية التي تخضع لها طهران منذ قيام الثورة عام 1979.
عالم نووي، ضابط عسكري، وشاعر أديب، عاش فخري زادة في الظل بعيدا عن الأضواء، لكنه كان تحت مجهر الاستخبارات العالمية، حياته قصة صراع بين العلم والسياسة، الطموح والمخاطر، انتهت باغتياله في عملية هزت العالم لتوقف مسيرة رجلٍ جمع بين العلم والإيمان، وتحدى العقوبات ليصنع إرثا خالدا لإيران.
ولادة في مهد الثورة
وُلِد فخري زادة في مدينة قم، ونشأ في أسرة متواضعة، حيث غُرس فيه حب العلم والدفاع عن الوطن منذ الصغر مع اندلاع الثورة عام 1979، التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي، كان فخري زادة شابا في مقتبل العمر، ملتهبا بالحماس فانضم إلى الحرس الثوري الإيراني بداية تأسيسه، حيث أظهر تفانيا وذكاء جعلاه يرتقي في الرتب العسكرية بسرعة، ليصل إلى رتبة لواء.
خلال رحلة إلى كوريا الشمالية مع حسن طهراني مقدم، نجح في تأسيس برنامج الصواريخ الإيراني بالتعاون مع كوريا الشمالية وليبيا، وكان رئيس مركز أبحاث الفيزياء وعالما بارزا في وزارة الدفاع ودعم القوات المسلحة، ولهذا السبب أدرج اسمه في قائمة العقوبات الإيرانية التي أصدرها مجلس الأمن الدولي في عام 2007، تحت عنوان “عالم كبير في وزارة الدفاع والمدير السابق لمركز أبحاث الفيزياء (PHRC)”.

ولم يقتصر طموحه على الميدان العسكري، بل كان يدرك أن القوة الحقيقية تكمن في العلم، فصار أستاذا في الأدب، لقد كتب الشعر في شبابه، ولم يكن اهتمامه بالأدب يقتصر على قراءة الشعر فحسب، بل كان عميقا في الأدب.
وإضافة إلى ذلك، اهتم فخري زاده أيضا بدمج العلوم وكان هو نفسه خبيرا في تفسير القرآن الكريم، كان يتحدث لساعات عن آية أو كلمة في كتاب الله ثم “يستمع لكلمات من القرآن والحديث ويأخذها إلى المختبر”، والتحق بجامعة الشهيد بهشتي في طهران، حيث حصل على بكالوريوس في الفيزياء النووية عام 1987، ثم أكمل دراسته العليا في جامعة أصفهان، ليحصل على الماجستير والدكتوراه في الهندسة النووية والإشعاع النووي، هكذا، بدأت رحلته العلمية، حيث كان يرى في الطاقة النووية مفتاح استقلال إيران.
مهندس الطموح النووي
في أواخر الثمانينيات، بدأ فخري زادة دوره كشخصية محورية في البرنامج النووي الإيراني، أشرف على مشروع “عماد” السري، الذي تأسس عام 1989 بهدف البحث في إمكانية تطوير أسلحة نووية، ويهدف إلى تطوير التقنيات النووية للأغراض السلمية، وفقا لتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كان المشروع يركز على دراسة اليورانيوم، المتفجرات، وتعديل الصواريخ لتحمل رؤوس نووية، وباعتباره رئيسا لهذا المشروع، بذل كل جهد ممكن لضمان أن تحقق إيران الاكتفاء الذاتي في المجالات النووية، على الرغم من إعلان إيران إغلاق المشروع عام 2003، زعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 2018 أن فخري زادة واصل العمل سرا على المشروع، مستندا إلى وثائق سرية حصلت عليها إسرائيل.
وتمكن أيضا من إيجاد حلول مختلفة لمواصلة البرنامج النووي الإيراني بهدف مواجهة العقوبات والضغوط الدولية، وكان لجهوده في الحفاظ على استقلال البلاد العلمي في هذا المجال أثر كبير وحرر المشاريع النووية الإيرانية من الضغوط الأجنبية.

كان فخري زادة يتمتع بنفوذ كبير داخل الأوساط العلمية والعسكرية، شغل منصب رئيس منظمة البحث والتطوير في وزارة الدفاع الإيرانية، وكان يُنظر إليه كـ”الرجل الذي يعرف أكثر من أي شخص عن البرنامج النووي الإيراني”، وفقا لكريم سجادبور من مؤسسة كارنيجي، لم يكن مجرد عالم، بل قائدا استراتيجيا يمتلك القدرة على تحويل الأفكار إلى واقع ملموس، سافر إلى دول مثل كوريا الشمالية للحصول على معلومات متقدمة، وكان يمتلك ثلاثة جوازات سفر لتسهيل تحركاته الدولية، وفقا لتقارير استخباراتية.
ومن أبرز إنجازاته تأسيس مجموعة أطلق عليها اسم “الصوتيات” في مجال تسجيل بصمة “الصوت تحت الصوتي” للموجات تحت الصوتية جوانب عسكرية عديدة وفي ذلك الوقت، أدركنا في المعاهدات الدولية أنه تم تركيب محطات في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك إيران، تقوم بمراقبة أصغر الانفجارات، وليس فقط الانفجارات النووية، بل أي نوع من الانفجارات، تعود هذه العملية إلى الموجات تحت الصوتية.
ولفت فخري زاده الانتباه إلى كيفية عمل العدو بطريقة مفاجئة وتم تسجيل أصغر عملية إطلاق صاروخ بواسطة هذه المحطات، وصار أي جهاز يصدر صوتا، حتى الصوت الذي لا نستطيع سماعه، لديه توقيع صوتي (بصمة صوت) وكان أعظم ما فعله هو نقل الصوت من الأرض إلى البحر.

وترأس فخري زاده منظمة الأبحاث والابتكار الدفاعي (سابند) وبذل جهودا حثيثة لتنمية القوة البحثية والعلمية الإيرانية، حتى إن اسمه نُشر في مايو/أيار عام 2013، ضمن خمس شخصيات إيرانية في قائمة أقوى 500 شخصية في العالم من قبل مجلة فورين بوليسي الأمريكية، وكان أول عالم يحصل على وسام الخدمة من الدرجة الثانية من الرئيس الإيراني الأسبق حسن روحاني.
الحياة في الظل
على الرغم من دور فخري زادة الكبير، اختار فخري زادة العيش بعيدا عن الأضواء، حيث عمل أستاذا للفيزياء في جامعة الإمام الحسين بطهران، حيث كان يحاضر ويدرب جيلا جديدا من العلماء، كان يُعرف بين طلابه بالتواضع والذكاء الحاد، لكنه كان لغزا حتى للإيرانيين أنفسهم وقللت وسائل الإعلام الإيرانية من أهميته، ووصفته أحيانا بأنه باحث شارك في تطوير معدات اختبار لـ كوفيد-19، لكن العالم الخارجي كان يراه العقل المدبر وراء طموح إيران النووي.
كما لعب دورا في تأسيس العديد من مراكز الأبحاث في مختلف المجالات الدفاعية والطبية، وأسس وأدار مركز أبحاث الدفاع الإيراني، الذي قام بتطوير أنظمة دفاعية وصاروخية متقدمة، وقد أتاحت هذه المراكز البحثية لإيران اكتساب قدرات كبيرة في المجالات العسكرية والعلمية حظيت بالاعتراف ليس في إيران فحسب، بل على المستوى الدولي أيضا وساهمت في تعزيز القدرات العلمية الإيرانية في مختلف المجالات ومهدت الطريق للعديد من المشاريع العلمية والعسكرية الإيرانية المتقدمة.
وتحت قيادة فخري زادة، أصبح إنتاج اللقاحات المحلية أحد الإنجازات العلمية المهمة لإيران، وقد تم إنتاج هذه اللقاحات، المصممة لمكافحة أمراض مختلفة، وتوزيعها على نطاق واسع في البلاد، مما أدى إلى نجاحات كبيرة في مجال الصحة.

كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تسعى منذ سنوات، للقاء فخري زادة للتحقيق في أنشطته، لكن إيران رفضت دائما، مدعيةً أنه ضابط عسكري لا علاقة له بالبرنامج النووي، هذا الموقف زاد من الغموض حوله، وجعله هدفا للاستخبارات الغربية والإسرائيلية، التي رأته تهديدا بسبب معرفته العميقة وتأثيره.
ولعب فخري زادة دورا هاما في تصميم وتطوير الصواريخ الإيرانية المتقدمة، وتمكن من جلب تقنيات إلى البلاد كانت متاحة في السابق فقط للدول المتقدمة، وقد رفعت هذه الصواريخ، خاصة في مجالات الدفاع الجوي والصواريخ الباليستية، القدرة الدفاعية الإيرانية إلى مستوى مرتفع للغاية.
العقوبات والضغوط الدولية
خلال سنوات نشاط الشهيد فخري زاده، كانت إيران تخضع لعقوبات اقتصادية وعلمية شديدة، فرضت العديد من الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، عقوبات صارمة على الأفراد والكيانات المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، وكان فخري زاده أحد الأشخاص الذين تم إدراج اسمهم على قائمة العقوبات.
وكان الهدف من هذه العقوبات هو وقف التقدم العلمي والدفاعي لإيران، لكنه تمكن من تحييد هذه الضغوط باستخدام القدرات المحلية والاستراتيجيات المبتكرة، ونفذ مشاريع علمية ودفاعية مهمة بشكل مستقل ودون الاعتماد على الدول الأجنبية.
لقد مثلت العقوبات التي فرضت عليه وعلى غيره من العلماء النوويين الإيرانيين، خاصة في أوقات مختلفة، تهديدات خطيرة للتقدم العلمي في البلاد، لكن هذه العقوبات لم تنجح في منع استمرار عملية تطوير وتعزيز القدرات الدفاعية الإيرانية.
اغتيال “أوبنهايمر إيران”
في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، انتهت حياة فخري زادة في كمين دقيق قرب مدينة أبسارد، شرق طهران، على يد عناصر إرهابية إسرائيلية، كان يقود سيارته مع زوجته عائدا من منزله على بحر قزوين، عندما تعرض لهجوم باستخدام رشاش آلي متطور يعمل بالذكاء الاصطناعي، مزود بكاميرات ويتم التحكم به عن بُعد عبر الأقمار الصناعية.

وفقا لتقارير إيرانية وغربية، استهدف السلاح رأس فخري زادة بدقة مذهلة، حيث أطلق 13 رصاصة دون إصابة زوجته التي كانت تجلس بجانبه، وذكرت صحيفة “جويش كرونيكل” الأسبوعية البريطانية أنه عندما مرت سيارة الشهيد فخري زاده بالنقطة المحددة، ضغطت عناصر الموساد على زر إطلاق النار الموجود داخل شاحنة صغيرة وأطلقت النار من مدفع رشاش.
أثارت العملية جدلا واسعا اتهمت إيران إسرائيل بالوقوف وراء الاغتيال، مشيرة إلى أن السلاح يحمل بصمات الموساد، زعمت تقارير أن الرشاش، الذي يزن طنا، تم تهريبه إلى إيران على أجزاء وتجميعه هناك، مع قنبلة مدمجة لتدمير الأدلة، أدانت دول مثل روسيا وسوريا والكويت العملية، واصفة إياها بالإرهابية.
وفي وقت سابق (30 أبريل/نيسان 2018)، ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، اسم محسن فخري زاده ثلاث مرات خلال مؤتمر صحفي في تل أبيب، وقال للصحفيين: “تذكروا هذا الاسم: فخري زاده!”، وأكد نجله حامد: “لقد كان والدي على رأس قائمة اغتيالات النظام الإسرائيلي لمدة 20 عاما، وفي السنوات الأخيرة من حياته أصبحت الظروف الأمنية صعبة، وكنا ننتظر كل يومٍ سماع خبر استشهاده، بحسب شهادة نجله وردا على الاغتيال، أقر البرلمان الإيراني قانونا لتشديد الرقابة على البرنامج النووي، مما زاد التوتر مع الغرب”.
وصية فخري زاده
وفي حفل إحياء ذكرى والده، قدمه حامد فخري زاده باعتباره شهيد القلم، وذكر أن والده كان يدافع عن إنتاج المعرفة والفكر ودخول الشباب في هذا المجال، وكان يعتبر هذا المسار عاملا في فخر إيران ونجاحها.

وأضاف نجل الشهيد فخري زاده أن أفضل وصية تركها لنا والدي نحن أصدقائه وزملائه هي الخدمة الصادقة.
رمز التحدي الإيراني الخالد
اغتيال فخري زادة لم يكن مجرد خسارة لعالم، بل ضربة للبرنامج النووي الإيراني ومع ذلك، أشار خبراء مثل فيبين نارانغ من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى أن إيران طورت قدرات نووية متقدمة، مما يعني أن البرنامج قد لا يعتمد على شخص واحد، لكن فقدان فخري زادة، بمعرفته المؤسسية، كان خسارة لا تُعوض، كما وصفه علي خامنئي بـ”العالم النووي والدفاعي المتميز”.
وأظهر فخري زاده أنه من خلال الإصرار والعزيمة يمكن الانتقال من بلد يفتقر إلى المعرفة والتخلف، إلى بلد يقف فيه علماء العالم العظماء عاجزين أمامه، وكان يُعلّم الشباب طوال حياته أن النجاح لا يوجد في الجامعات الأوروبية والأمريكية، بل إنه يكمن داخل الفرد! لقد عاش فخري زاده ومات مجهولا، لكن اسمه لن يبقى مجهولا في تاريخ الحضارة الإسلامية والإيرانية، وهذا ما جاء في كتاب “أنت الذي لم تعرفني” عن قصة حياة العالم النووي الإيراني الشهيد محسن فخري زاده.
ويروي من خلاله المؤلف سعيد علاميان حياة العالم الشهيد الذي كان رمزا للتحدي الإيراني في مواجهة العقوبات والضغوط الدولية، لقبه “أبو القنبلة النووية” لم يكن إشارة إلى إنتاج سلاح، بل إلى قدرته على دفع إيران نحو الاكتفاء الذاتي النووي، حياته كانت قصة رجل اختار العمل في الظل، لكنه أضاء طريق إيران نحو الطموح العلمي، حتى وإن انتهت رحلته برصاصات غادرة.