السعفة الذهبية في “كان”.. قراءة متعددة الأبعاد لصدى السينما الإيرانية عالميا

كتبت: الصحفية الإيرانية سارا حسني زادة

في ختام الدورة الثامنة والسبعين من مهرجان كان السينمائي، شدّت لحظة خاصةٌ أنظار الحاضرين؛ إذ ظهرت صورة المخرج الإيراني البارز جعفر بناهي على شاشة قاعة “لوميير”، تلتها رسالة صوتية مسجلة له قال فيها: “هذا الفيلم لم يُصنع للاحتجاج، بل من أجل الحقيقة”.

الفيلم الجديد لـ بناهي، الذي أُنجز في ظروف استثنائية وخارج الأطر الرسمية للإنتاج، نال جائزة السعفة الذهبية. جائزة لا تُعدّ، في نظر كثيرين، تكريما فنيا محضا، بل تعكس في عمقها أبعادا اجتماعية وثقافية بل وحتى سياسية. اختيار هذا الفيلم، إلى جانب أعمال إيرانية أخرى شاركت في المهرجان، أعاد تسليط الضوء على كيفية تقديم صورة إيران في المحافل السينمائية الدولية.

وفي الداخل الإيراني، تنوّعت ردود الأفعال تجاه هذا النجاح؛ فبينما رأى فيه البعض دليلا على قوة السينما الإيرانية وتأثيرها العالمي، اعتبره آخرون استمرارا لنمط تُروَّج فيه سرديات محددة عن إيران، تركّز على الأزمات والتحديات. هذا التباين في التقييم يعكس جدلا أوسع حول علاقة السينما الإيرانية بالمؤسسات الثقافية الدولية.

مهرجان كان ومعايير الاختيار

يُعدّ مهرجان كان السينمائي واحدا من أعرق وأهم المهرجانات السينمائية في العالم، وقد استضاف منذ زمن طويل أعمال عدد من أبرز المخرجين الإيرانيين. فمن عباس كيارستمي وجعفر بناهي إلى محمد رسول‌أف وأصغر فرهادي، غالبا ما خضعت الأفلام الإيرانية المشاركة في هذا المهرجان لقراءات ضمن أطر محددة.

في هذا السياق، يقول برويز موسوي، أستاذ علم اجتماع الثقافة بجامعة طهران، في حوار معنا: “إذا تضمن الفيلم رموزا للمقاومة أو الديناميكية أو التقدم، تقل احتمالية أن يلقى صدى في مهرجان كان. الأعمال التي تتماشى مع الصورة النمطية السائدة عن الشرق الأوسط هي التي تنال اهتماما أكبر في المهرجانات”.

ويضيف علي رضا مؤمني، طالب الإخراج السينمائي في جامعة الفنون: “نتعلم في الجامعة أن السرد يجب أن يكون صادقا، لكن أحيانا أشعر أن العمل لا يُلتفت إليه إلا إذا كان أكثر سوادا وتشاؤما. هذا يُربكني ويجعلني في حيرة”.

ومع ذلك، فهذه التحليلات لا تخلو من وجهات نظر مغايرة. إذ يرى بعض النقاد أن المهرجانات تسعى إلى تنوع في السرد، وأن الأفلام ذات الطابع النقدي تُقدّر لشجاعتها ووجهات نظرها المختلفة، وليس بالضرورة بسبب خلفياتها السياسية.

نظرة إلى فيلم “حادث بسيط”

يُعد فيلم “حادث بسيط” أحدث أعمال المخرج الإيراني جعفر بناهي، ويروي قصة تلاقي عدد من المصائر بشكل مفاجئ إثر حادث سير على إحدى الطرق. وقد نال الفيلم استحسان العديد من النقاد الأوروبيين، في حين اعتبره البعض داخل إيران مثالا آخر على النمط المعتاد في تصوير المجتمع الإيراني من خلال التركيز على الأزمات الاجتماعية.

زهرا كريمي، ممرضة في الخامسة والأربعين من كرمان، تقول:
“شاهدت فيلم جعفر بناهي. كان موضوعه مؤلما لكنه واقعي. ومع ذلك، أتمنى أن يُصنع فيلم يُظهر الأمل، عن نساء مثلنا يعملن ليلا ونهارا في المستشفيات”.

أما مرضية نادري، معلمة متقاعدة من طهران، فتقول تعليقا على نجاح الفيلم: “صحيح أن هناك مشكلات في المجتمع، لكن لماذا دائما يتم تصوير هذا الجانب فقط؟ لماذا لا تُسلّط الأضواء على أفلام تتناول تقدّم النساء في المجالات العلمية أو الابتكارات الصناعية؟”

سمية سادات نوري، ربة منزل من قم، تضيف: “لم أشاهد هذه الأفلام على التلفزيون، لكنني سمعت عنها. عندما تتحدث ابنتي عن الهجرة، تقول إن العالم كله يظن أن إيران فقط معاناة”.

وفي السياق ذاته، يشتكي مخرجون مثل مهدي سرمدي، المختص في أفلام الأطفال، من تجاهل المهرجانات الكبرى للأعمال غير السياسية، قائلا: “أنتجنا فيلما عن تكنولوجيا الروبوتات فاز بجائزة محلية، لكن لم يوافق أي مهرجان غربي على حتى مشاهدته. بينما فيلم عن زواج القاصرات قُبل بسرعة في عدة مهرجانات”.

تُبرز هذه الآراء جدلا مستمرا حول الصورة التي تُقدَّم عن إيران في السينما العالمية، والميول الانتقائية التي يراها البعض منحازة نحو تصوير الأزمات بدلا من النجاحات.

التنوّع في انعكاس السينما الإيرانية

إلى جانب جعفر بناهي، برز في السنوات الأخيرة مخرجون آخرون مثل سعيد روستايي الذين حققوا حضورا لافتا في مهرجان كان. فيلمان من أعماله، “إخوة ليلى” و”المرأة والطفل”، تناولا قضايا أسرية وضغوطا اقتصادية، واستقطبا اهتماما واسعا داخل المهرجان وخارجه.

بهرام شريفي، سائق تاكسي من مشهد، يعلّق بالقول: “نحن لا ننكر أن في إيران صعوبات، لكنها ليست كل الحكاية. السينما يجب أن تعكس الواقع بكل وجوهه. التركيز على السلبيات فقط يُتعب الناس”.

يحكي “إخوة ليلى” قصة عائلة تكافح من أجل البقاء وسط ظروف اقتصادية واجتماعية خانقة، في حين يرصد “المرأة والطفل” كفاح امرأة أرملة تتحمل مسؤوليات العمل والأسرة. وعلى الرغم من إشادة النقاد بهذين العملين وبأداء نجومهما، مثل ترانة علي ‌دوستي ونويد محمد زادة، فإنّ الجدل لم يغِب عنهما في الداخل؛ إذ رأى بعض النقاد الإيرانيين أنهما يكرران نمطا أحاديا في تصوير المجتمع الإيراني.

تقول ناهيد آقا زاده، معلمة أدب: “السعفة الذهبية جائزة كبيرة، لكن هل ينبغي للسينما الإيرانية أن تُغيّر روايتها من أجل الجوائز؟ أعتقد أن المهرجانات غالبا ما تفضل ما ينسجم مع رؤيتها المسبقة”.

ومع ذلك، هناك من يعتبر هذه النوعية من الأفلام ضرورة واقعية تُسهم في خلق حوار صادق مع العالم. فهي تطرح قضايا اجتماعية عميقة، غالبا ما تُهمَل في الخطابات الرسمية.

يقول ماني حقيقت ‌طلب، مخرج وثائقي مستقل: “أنجزت فيلما عن حياة العشائر، بكل ما فيها من مشقة وجمال، لكن لم أتلقّ حتى ردا واحدا من المهرجانات. يبدو أنه إن لم يكن هناك ضحية واضحة في الرواية، فلن يكون هناك اهتمام”.

وتضيف ليلى فراهاني، محللة إعلامية: “من منظور إعلامي، تُشكّل هذه الأفلام جزءا كبيرا من صورة إيران في أعين العالم. لذلك علينا أن نحرص على أن تعكس السينما التنوع الحقيقي للمجتمع الإيراني، لا أن تختصره في زاوية واحدة فقط”.

الفجوة بين الجمهور المحلي والعالمي

من أبرز المواضيع المثارة حول الأفلام الإيرانية الناجحة في المهرجانات الدولية هو الفارق الواضح بين الإقبال العالمي عليها وضعف التفاعل المحلي معها. فكثير من هذه الأفلام تواجه قيودا في العرض داخل إيران، وحتى إذا عُرضت، فإنها لا تلقى ترحيبا واسعا لدى الجمهور العام.

يقول حامد توسلي، ناشط اجتماعي: “هذه المهرجانات تبحث عن قضايا إنسانية، والمهم أن يكون السرد صادقا، سواء كان مؤلما أو مفرحا. لا يمكن أن نطالب الفنان بأن يصنع فيلما دعائيا”.

وترى ليلى شفيعي، أستاذة الدراسات الثقافية، أن هذه الفجوة تعود إلى “الاختلاف في السياق الثقافي وطبيعة النظرة إلى القضايا الاجتماعية. فالمهرجانات تسعى إلى اكتشاف أصوات مختلفة، قد لا تتماشى دائما مع ذوق الجمهور المحلي أو تجربته اليومية”.

في المقابل، هناك من ينظر إلى اختيارات المهرجانات بعين الريبة، معتبرين أنها تأتي أحيانا ضمن توجهات ناعمة لإعادة إنتاج رؤية معينة حول بعض البلدان، من خلال تسليط الضوء على زوايا محددة فقط من واقعها.

إن نجاح فيلم جعفر بناهي في مهرجان كان يمكن قراءته من زوايا متعددة. فمن جهة، يُعد هذا النجاح دليلا على مكانة السينما الإيرانية في الساحة العالمية، ومن جهة أخرى، فإن الجدل المثار لا يتعلق فقط بمضمون الفيلم، بل أيضا بسياق اختياره ضمن مؤسسات ثقافية عالمية.

لتحقيق صورة أكثر توازنا عن إيران في السينما العالمية، تبدو الحاجة ملحة لتوسيع نطاق السرد وتنوعه، بحيث يشمل لا التحديات والمآسي فحسب، بل أيضا جوانب التقدّم، والثقافة الثرية، والمبادرات الاجتماعية. مثل هذا التنوّع من شأنه أن يعمّق الفهم العالمي للمجتمع الإيراني، ويعزز فرص حوار أكثر تفاعلا وبنّاء بين السينما الإيرانية وجمهورها الدولي.