- يارا حلمي
- 8 Views
كتب: سيد نيما موسوي
كانت حرب إيران والعراق، إضافة إلى كونها حدثا جيوسياسيا حول المنافسات الإقليمية في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة، تحمل في الوقت نفسه بُعدا ثقافيا وفنيا مهما.
في مجال السينما، أُنتجت أفلام كثيرة في إيران والعراق تناولت الحرب، وكانت تندرج ضمن إطار الدعاية والإعلام الحربي، وربما يمكن اعتبار فيلم “الحدود الملتهبة” من إخراج صاحب حداد أهم فيلم عراقي مرتبط بالدعاية خلال حرب إيران والعراق.
يتناول الفيلم حياة أحد العسكريين العراقيين في الحرب مع إيران، وشارك في بطولته الممثل العراقي “سامي قفطان”، وقد جرى تصوير جزء مهم من هذا الفيلم مباشرة في المناطق الحدودية بين إيران والعراق، وذلك في ذروة المعارك.

بالتزامن مع حرب إيران والعراق، نشأت في إيران فئة سينمائية جديدة تُعرف بسينما “الدفاع المقدس”، والعديد من المخرجين الذين كانوا ينشطون قبل ثورة عام 1979، استعانوا بمفاهيم مثل التضحية والشهادة، ليقدموا هذه المرة أسلوبا جديدا في السينما.
كان إيرج قادري، قبل الثورة من رموز السينما الهابطة المعروفة باسم “فيلمسازي”، اقترب عبر إخراج فيلم “البرزخيون” من الأدبيات الشعبية للمجتمع في إطار السينما الحربية
أما صموئيل خاشيكيان، المخرج المسيحي الإيراني، الذي كان يشتهر قبل الثورة بإخراج الأفلام الجنائية، فأظهر وجها جديدا له في الإخراج من خلال تقديم فيلم “النسور” الذي تناول خدمات سلاح الجو الإيراني خلال الحرب.
إضافة إلى ذلك، وخلال عقد الثمانينيات، برز إلى جانب المخرجين القدامى جيل جديد من المخرجين الدينيين الذين كانوا ينشطون ضمن مجموعة تُعرف بـ”الحوزة الفنية”.
ومن أبرز هؤلاء المخرجين في الحوزة الفنية: إبراهيم حاتمي كيا، وكمال تبريزي، ومحسن مخملباف، ورسول ملاقلي بور، وشهريار بحراني وغيرهم، الذين أنتجوا في فترة شبابهم أفلاما خالدة تناولت حرب إيران والعراق من أبعاد عسكرية بل واجتماعية أيضا.
في صفوف المخرجين الدينيين، ظهر أيضا صانع أفلام وثائقية شاب يُدعى “مرتضى آويني”، ويُمكن اعتبار آويني أهم موثق للحرب الإيرانية العراقية، وُلد عام 1947 في طهران، وكان يدرس في كلية الفنون الجميلة بجامعة طهران، وكانت له اهتمامات فلسفية خاصة منذ شبابه.
وتفيد الروايات بأنّه قبل الثورة كان مولعا بالموسيقى الروك، والرسم، وحركة الهيبيين(حركة شبابية تدعو إلى السلام والتمرد ضد القيم الاجتماعية) في الغرب. تأثرت اهتماماته الفلسفية بأفكار هربرت ماركوزه، أحد أعلام مدرسة فرانكفورت، وكذلك بأفكار آلدوس هكسلي، الذي يُعرف بفيلسوف الهيبيين.
ومن بين الفلاسفة الإيرانيين، تأثر بآراء أحمد فرديد؛ الفيلسوف الشفوي الإيراني خلال عقود الستينيات حتى الثمانينيات، والذي كان له تأثير كبير على التيارات الفكرية والثقافية في إيران.
وكان فرديد شارحا لأفكار هايدغر ونيتشه وابن عربي، وتخرج في حلقته الفكرية عدد كبير من الفلاسفة، وتمكن آويني، باعتباره شابا من الولوج إلى مجالس فرديد، وتأثر بشدة بأفكاره.
ويبدو أن تحوله الفكري من شاب ذي ميول هيبية إلى شخص مهتم بالتصوف الإسلامي قد جرى تحت تأثير آراء أحمد فرديد، وتشير بعض الروايات إلى أن التحولات الفكرية التي طرأت على آويني تزامنت مع اندلاع ثورة عام 1979، مما أتاح له أن يضع موهبته الفنية في خدمة الثورة بعد التغيرات الفكرية التي طرأت عليه.
ومن أوائل أفلامه الوثائقية بعد الثورة كان فيلم “بشاكرد” (الطالب)، الذي يُعد من أقوى الوثائقيات الإيرانية من الناحية الفنية، وقد تناول فيلم “بشاكرد” معاناة منطقة بشاكرد الواقعة في جنوب إيران.
وهي منطقة عانت من الفقر بسبب موجات الجفاف المتعاقبة، فيما كانت مؤسسات مثل “جهاد البناء” تسعى في الثمانينيات، بالتوازي مع الحرب، إلى تنمية المناطق الريفية الفقيرة في إيران.
عقب “بشاكرد”، أخرج آويني وثائقيا جديدا بعنوان “خان گزیدهها” (أصحاب الخانات)، وهو عمل تناول مظاهر الفقر في إقليم بلوشستان الإيراني، آنذاك، كانت بلوشستان تُعد من أفقر مناطق إيران، وكانت تواجه تحديا كبيرا بسبب الجفاف.

كان هذا الوثائقي واقعيا إلى حد بعيد، قُدم من دون موسيقى تصويرية، فجاءت قسوة الفقر في بلوشستان كالسوط الذي يُلهب ذهن المتلقي، إلا أن أهم أعمال آويني الوثائقية كان فيلم “رواية الفتح”، الذي يُعد بلا شك من أبرز الأفلام الوثائقية الحربية على مستوى العالم.
جرى إنتاج “رواية الفتح” على مدى نحو ثلاث سنوات، وتضمن خمسة فصول أُنتجت بين عامي 1985 و1988، وفي هذا العمل، تجاوز آويني السرد العسكري التقليدي ليقدم سردا إنسانيا عن المقاتلين الإيرانيين.
في الواقع، رغم أن وثائقي آويني تناول موضوعا عسكريا، فإنه اتبع منطقا إنسانيا بحتا، بعيدا عن النزعة العسكرية، وكان يوثق مشاركة الناس العاديين في الحرب، إلى درجة أن أعماله الوثائقية نالت شهرة عالمية.
ويعتقد بعض النقاد أن فيلم “إنقاذ الجندي رايان”، الذي يُعد علامة فارقة في تاريخ سينما الحرب في هوليوود، قد تأثر بفيلم “رواية الفتح” لآويني، بل إن فرقة “بينك فلويد”، فرقة الروك البريطانية الشهيرة، عرضت في الكواليس الخلفية لحفلها الذي أقيم في براغ(التشيك) عام 2011 صور لمرتضى آويني.
بعد “رواية الفتح”، أنجز آويني عدة أفلام وثائقية أخرى، فأخرج الفيلم الوثائقي “أمريكا – الخداع” الذي تناول موضوع الفقر والجوع في الولايات المتحدة، وكذلك الفيلم الوثائقي “نسيم الحياة” الذي بحث في تأثيرات ثورة عام 1979 على المجتمع اللبناني وتكوّن مقاومة حزب الله.
إضافة إلى ذلك، كان آويني من المساهمين في إنتاج الوثائقي “الخنجر وشقائق النعمان”، الذي تناول الحرب بين الصرب والمسلمين في البوسنة خلال أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، علما أن إخراج “الخنجر وشقائق النعمان” تولاه نادر طالب زاده، أحد أصدقاء آويني، وجرى تصوير هذه الأفلام الوثائقية الثلاثة خارج إيران، وتم إنتاجها خلال الفترة الممتدة بين عامي 1988 و1992.
إلى جانب عمله في صناعة الأفلام الوثائقية، كان لآويني نشاط ملحوظ في مجال الكتابة، مما يجعله يُصنف كمثقف اجتماعي استخدم وسائل متعددة مثل الأفلام الوثائقية والكتب والمجلات وغيرها لإيصال رسائله، بالإضافة إلى الأعمال الوثائقية، نُشرت له عدة مؤلفات.
ويعد كتابه “مرآة السحر” الذي يقع في ثلاثة مجلدات يُمثل خلاصة أفكاره في مجالات السينما والإعلام ونقد الأفلام، إلى جانب ذلك، تناول في كتابه “التنمية وأسس الحضارة الغربية” وجهات نظره حول مسألة التنمية، ومن خلال خلفيته كشاب كان ينهل من كتب الفلسفة، كما انتقد برامج التنمية التي طُبقت في الجمهورية الإيرانية.
في النهاية، توفي آويني عام 1994 في منطقة فكه بمحافظة خوزستان، في أثناء تصوير فيلم وثائقي عن تحرير مدينة خرمشهر، إثر انفجار لغم أرضي، وكان من أبرز سمات آويني، التي ظلت بارزة حتى اليوم، عمق مطالعاته الذي انعكس بوضوح على مجمل أعماله.
كان آويني قارئا نهما حتى قبل الثورة، وهذا ما مكنه من أن يحول عدسة الكاميرا إلى لوحة فنية تحتضن كل شيء، وبلغ ولعه بالنزعة الواقعية حدا لم يعد يرى السينما وسيلة مناسبة لتقديم المحتوى، ولذلك طور قالب الفيلم الوثائقي في إيران.
هذا الميل الواقعي دفعه في وثائقي “رواية الفتح”، الذي يُعد عمله الأهم، إلى الركض مع الكاميرا في الخطوط الأمامية جنبا إلى جنب مع الجنود، وهو جهد استثنائي يُمنح تقديرا كبيرا لما تطلبه من شجاعة وإبداع.
إلى جانب ذلك، كان آويني يتجاوز حدود المخرج التقليدي؛ إذ كان مثقفا وأسس تقليدا فكريا جديدا لجيل الشباب الثوري لا يزال قائما حتى اليوم، تقليد جمع بين تعاليم العارف الإسلامي ابن عربي، والمدارس النقدية الأوروبية، والفينومينولوجيا الألمانية، إلى جانب الأفكار السياسية للإمام الخميني.
والجدير بالذكر أن عشرات من صانعي الأفلام الوثائقية والمفكرين الاجتماعيين تبلوروا في محيط آويني، وكل منهم مدين له بطريقة أو بأخرى وسيبقى كذلك.