- محمد علي
- 102 Views
في عالم السياسة المتشابك، كثيرا ما تنعقد اللقاءات خلف الأبواب المغلقة، وتُرسم السياسات الكبرى من خلال حوارات صامتة في أماكن لا تثير الانتباه، وكانت إسطنبول مؤخرا مسرحا لمثل هذا اللقاء، حيث اجتمع مسؤولون إيرانيون رفيعو المستوى مع ممثلين من ثلاث عواصم أوروبية لطالما كان لها دور ثقيل في موازين الشرق الأوسط.
اللقاء، الذي جرى في قنصلية إيران الجمعة 16 مايو/أيار 2025، أثار موجة من التحليلات المتناقضة، فبين من يراه محاولة لبناء جسور نحو تفاهم أوسع، ومن يعتبره مؤشرا على تصعيد خفي.
هذا التباين يعكس إشكالية أعمق بشأن الدور الذي تلعبه القوى الأوروبية في التفاعلات الإقليمية والدولية، كالمفاوضات التي تجري الآن بين الولايات المتحدة وإيران بشأن القضايا العالقة، وعلى رأسها الملف النووي، والتي وصلت مرحلتها الرابعة. في وقت يقول فيه البعض إن المسارين مختلفان، يؤكد آخرون على أهمية وجود القارة العجوز في صيغة التفاوض النهائي، كما كان الحال عام 2015.
هل تستطيع الترويكا تدعيم موقف إيران أمام المفاوض الأمريكي؟
تفيد التقارير أن للترويكا دورا بارزا في ما يتعلق بإبرام اتفاق نووي بين إيران والولايات المتحدة، فقد صرح طهمورث غلامي، الخبير في الشؤون الأمريكية، في حوار له مع صحيفة “اعتماد”، الأحد 18 مايو/أيار 2025، أن الدول الأوروبية، بوصفها أطرافا في الاتفاق النووي السابق، تلعب دورا حاسما في مفاوضات إيران والولايات المتحدة، ويمكنها أن ترسم مسار التوصل إلى اتفاق أو فشله.
وأضاف أنه، وعلى غرار ملف الحرب في أوكرانيا، حيث حالت معارضة الأوروبيين لشروط الولايات المتحدة وروسيا دون إنهاء النزاع، فإن لأوروبا تأثيرا مماثلا في المفاوضات النووية الإيرانية.

وقد أرجع غلامي ما أسماها “السلوك الأوروبي الحذر” في المفاوضات النووية إلى انتظارهم اتضاح موقف إيران من حرب أوكرانيا ومستقبل تحركاتها في هذا الصدد. كما أن استياء أوروبا من انخراط الولايات المتحدة بشكل منفرد ومن دون تنسيق في المفاوضات الإقليمية والدولية، لا سيما في الملف النووي الإيراني، أدى إلى تراجع الدور الأوروبي في المحادثات، حيث تشير بعض التحليلات إلى أن تقليل أوروبا من حضورها يهدف إلى الضغط على إيران لتكون أكثر مرونة تجاه مطالب الولايات المتحدة.

كذلك، فقد سلط تقرير إعلامي تركي الضوء على الدور المحدود للترويكا الأوروبية (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) في أي اتفاق نووي جديد مع إيران، رغم مساعيها لإعادة تفعيل نفوذها. وعلى الرغم من ذلك، فقد ذكر التقرير أن اللقاء الأخير في إسطنبول بين هذه الدول وطهران، تزامنا مع المحادثات غير المباشرة بين إيران وأمريكا في مسقط، عكس تعقيد المشهد الدبلوماسي. ورغم التصريحات الإيجابية من الجانبين، فإن خبراء يؤكدون أن نفوذ الأوروبيين تراجع منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق عام 2018، وعدم قدرتهم على الالتزام بوعودهم دون دعم أمريكي.

أوروبا.. وسيط أم عائق تفاوضي؟
على الجانب الآخر، فقد تناولت صحيفة “فرهيختجان” الأصولية في تحليلها للمباحثات الأخيرة طبيعة الدور الأوروبي بشيء من التحفظ والريبة. فبدلا من اعتبار الترويكا شريكا دبلوماسيا حقيقيا في التهدئة، رأت الصحيفة أن الأوروبيين يسيرون في اتجاه فرض الضغوط السياسية عبر خلق آليات جديدة يمكن استخدامها ضد إيران في أي لحظة.

وحسبما ورد في تقرير الصحيفة الصادر الأحد 18 مايو/أيار 2025، فإن الوفود الأوروبية طرحت في إسطنبول خطة لتوسيع مفهوم “آلية الزناد”، وهو البند الذي يتيح للدول الموقعة على الاتفاق إعادة فرض العقوبات إذا رأت أن إيران أخلّت بالتزاماتها. فالخطة الجديدة، التي أسمتها بـ”الزناد بلس”، تمنح الأوروبيين صلاحية تنفيذ العقوبات حتى في حال حدوث أي اتفاق جزئي أو مرحلي بين إيران والولايات المتحدة، ما يُعتبر نسفا لمبدأ التفاوض المبني على التفاهم التدريجي والثقة المتبادلة.
وترى الصحيفة أن الأوروبيين لا يسعون لحل حقيقي، بل لإعادة بناء نظام رقابة دائم على إيران، من خارج المفاوضات الأساسية مع واشنطن، وهذا ما دفع الصحيفة لاعتبار الدور الأوروبي لم يعد توافقيا، بل يشكل عقبة مباشرة في مسار استئناف المفاوضات، وخصوصا في ظل التفاهمات الجارية بين طهران وواشنطن في مسقط.
المخاوف الإيرانية لا تتعلق فقط بالآليات القانونية، بل بنوايا الأوروبيين السياسية. فاستنادا إلى معطيات نقلتها الصحيفة، فإن طهران تعتبر أن “الدول الأوروبية تحاول استخدام الورقة النووية كأداة ضغط في سياق أوسع يشمل العلاقات مع واشنطن، وملفات مثل أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية”.
من جانبه، صرح نصرت الله تاجيك، السفير الإيراني السابق لدى الأردن والخبير في العلاقات الدولية، في حديث له مع موقع “خبر أونلاين”، الأحد 18 مايو/أيار 2025، قائلا: “أعتقد أن المفاوضات بين إيران وأوروبا في إسطنبول لن تكون مؤثرة على المفاوضات بين إيران وأمريكا، لأنها لا تمتلك ذلك المستوى من التأثير، والمفاوضات في مسقط هي التي تحظى بالأولوية، وهي القناة الأساسية”.

ويرى تاجيك أن الأوروبيين يحاولون من خلال هذا الاجتماع إرسال رسائل بشأن استمرارهم كطرف في الاتفاق، لكنه يعتقد أن “حوار طهران وواشنطن هو الذي سيقرر مستقبل الملف النووي، وما يحدث في المسارات الأخرى مجرد تفاعلات جانبية”.
ومع ذلك، لا يغفل تاجيك التحديات التي تفرضها المبادرات الأوروبية، لكنه يرفض تضخيم أثرها السياسي، ويضيف: “صحيح أن بعض المواقف الأوروبية متشددة، وقد يكون هدفها الضغط أو الاستعراض، لكن من غير المرجح أن تنجح في التأثير المباشر على قرار طهران أو واشنطن بشأن الاتفاق”. كما حذّر من أن “ترك مساحة التأثير للأوروبيين، واعتبارهم طرفا مكافئا للأمريكيين، قد يضخم من دورهم في غير محله، ويمنحهم أدوات ابتزاز إضافية نحن في غنى عنها”.
فبناء على كل ما تقدم من آراء الخبراء، يتضح أن أوروبا تمارس دورا مزدوجا، فهي من جهة تسعى للحفاظ على بقائها ضمن معادلة التفاوض، ومن جهة أخرى، تستخدم أدواتها القانونية في الاتفاق السابق كأوراق ضغط لإعادة فرض شروطها على طهران، في وقت تبدو فيه الولايات المتحدة أكثر مرونة نسبيا. هذه الازدواجية الأوروبية تنعكس في تركيزها على “الزناد بلس” وتوسيع الرقابة، دون إبداء نية حقيقية لتخفيف العقوبات أو تقديم حوافز اقتصادية، ما يجعل الكثير من الإيرانيين يتعاملون مع الموقف الأوروبي بوصفه عقبة بدل أن يكون فرصة.
إلى أين تتجه الأمور؟
في ضوء هذا التباين في المواقف، يمكن رسم عدة سيناريوهات لمستقبل التفاوض:
- أولها التفاهم بين واشنطن وطهران دون أوروبا، وهو السيناريو الذي يرجحه نصرت الله تاجيك، ويتمثل في اتفاق أمريكي إيراني مباشر أو غير مباشر، تُبلّغ نتائجه للأوروبيين لاحقا دون مشاركتهم في صوغ تفاصيله.

- السيناريو الثاني يتمثل في فشل المسارين معا، وذلك بسبب تدخلات الترويكا ومحاولات فرض آليات رقابية جديدة، ما قد يدفع إيران إلى التصلب في موقفها أو التهديد بالانسحاب من معاهدة عدم الانتشار.
- أما السيناريو الأخير، فهو دمج المسارات، حيث تحاول الولايات المتحدة إرضاء الأوروبيين عبر منحهم موقعا شكليا في الاتفاق، من دون السماح لهم بالتحكم في مفاتيحه السياسية أو الاقتصادية.
في النهاية، تعكس المفاوضات الأخيرة بين إيران ودول الترويكا الأوروبية حالة من الارتباك في ملف التفاوض النووي، إذ تسعى أوروبا لتثبيت حضورها السياسي من خلال طرح شروط أكثر صرامة، في حين ترى طهران أن تلك الشروط تهدف إلى تفريغ أي اتفاق من مضمونه. وبينما يرفض خبراء مثل نصرت الله تاجيك تحميل أوروبا وزنا تفاوضيا أكبر من حجمها، فإن وسائل إعلام إيرانية تحذر من خطورة هذه المواقف الأوروبية، وتراها جزءا من مساعٍ لعرقلة المسار الأمريكي الإيراني في مسقط.
وفي المحصلة، يبقى مصير الاتفاق النووي رهين توازنات معقدة تتجاوز حدود طاولة التفاوض، ومرتبطة بشكل وثيق بصراعات النفوذ والمصالح بين القوى الكبرى، في لحظة حرجة من التاريخ السياسي للمنطقة.