الفقيه الثوري علي خامنئي.. رجل الدين والدولة الذي قاد عصر التحول في إيران (بروفايل) 

في مدينة مشهد المقدسة، حيث تتجلى الروحانية الشيعية في ضريح الإمام الرضا، وُلد طفلٌ عام 1939 كان مقدرا له أن يصبح أحد أبرز الشخصيات في تاريخ إيران الحديث.. علي الحسيني خامنئي، الذي سيُعرف لاحقا بـ”المرشد الأعلى”، لم يكن مجرد رجل دين أو سياسي، بل كان رمزا للثورة، قائدا يجمع بين الفقه والسياسة، والثقافة والحكم، في مسيرة حياة تمتد لأكثر من ثمانية عقود. 

عن ظروف معيشة أسرته يقول خامنئي في مذكراته: “كان والدي عالما مشهورا، لكنه كان شديد التدين وانطوائيا، كانت حياتنا صعبة، أتذكر ليالٍ لم يكن فيها عشاء في منزلنا! كانت والدتي تُعِدّ لنا العشاء بجهدٍ كبير، وكان ذلك العشاء خبزا وزبيبا”، قصة المرشد الإيراني تعكس تحولات إيران من الملكية إلى الجمهورية الإسلامية، ومن الاضطرابات الداخلية إلى النفوذ الإقليمي.

جذور في مشهد العلم والدين

وُلد علي خامنئي في 19 أبريل/نيسان 1939، لأسرة متواضعة بمدينة مشهد، ثاني أكبر مدن إيران، والده، جواد الحسيني، كان عالما دينيا معروفا، لكنه عاش حياة زاهدة، بعيدا عن الرفاهية. أما والدته، خديجة ميردامادي، فكانت امرأة تقية تنتمي إلى عائلة دينية عريقة، نشأ في بيئة مشبعة بالعلم والروحانية، حيث كان منزل الأسرة مركزا لتعليم الفقه والحديث. 

يروي خامنئي في مذكراته، أن طفولته كانت بسيطة، تخلو من الترف، لكنها غنية بالقيم الدينية والأخلاقية التي شكلت شخصيته وفي سن مبكرة، أظهر علي شغفا بالتعلم كان يقضي ساعات طويلة في مكتبة والده، يطالع كتب الفقه والتاريخ والأدب. 

تأثر بشخصية والده المتواضعة، لكنه ورث منه أيضا الجرأة في الدفاع عن المبادئ، في مشهد، حيث يزور الملايين ضريح الإمام الرضا سنويا، كان الشاب علي يتنفس هواء الروحانية، مما عزز ارتباطه بالتراث الشيعي العميق.

رحلة العلم بين مشهد وقم ونجف

بدأ خامنئي دراسته الدينية في سن الرابعة، حيث تعلم القرآن الكريم على يد والده، وفي سن العاشرة، التحق بالحوزة العلمية في مشهد، وهناك درس الفقه والأصول على يد علماء بارزين مثل الميرزا محمد هادي الميلاني، لكن طموحه العلمي دفعه إلى الانتقال إلى قم، قبلة العلم الديني في إيران، عام 1957 وهناك تتلمذ على يد كبار العلماء، أبرزهم الحسين البروجردي، الذي كان مرجعا دينيا بارزا، والخميني، الذي سيصبح لاحقا قائد الثورة.

في عام 1962، سافر خامنئي إلى النجف في العراق، حيث درس في الحوزة العلمية العريقة هناك، تعمق في الفقه الشيعي والفلسفة الإسلامية، وتأثر بأفكار العلماء الإصلاحيين وبعد عامين عاد إلى إيران عام 1964، حاملا معه رؤية دينية وسياسية متكاملة، تجمع بين العلم التقليدي والوعي بالتحديات السياسية التي تواجه الأمة الإسلامية.

عقل مفتوح على العالم

في سن مبكرة قرأ خامنئي هذه الكتب الشهيرة مثل “جامع المقدمات” و”السيوطي” و”المغني” على يد أساتذة مدرستي “سليمان خان” و”نواب”، كما أشرف والده على تعليم أبنائه وقرأوا أيضا كتاب “المعالم” في نفس الفترة ثم درس “شرائع الإسلام” و”شرح اللمع” على يد والده، وبعضها على يد “آغا ميرزا ​​مدرس اليزدي”، و”الرسايل والمكاسب” على يد الشيخ هاشم القزويني، وبقية الدورات المتقدمة في الفقه والأصول على يد والده، وأكمل الدورات الإعدادية والمتقدمة في مدة خمس سنوات ونصف غير مسبوقة ومذهلة.

ولم يقتصر اهتمام خامنئي على الفقه والدين، بل كان قارئا نهما للأدب والتاريخ والفلسفة وقرأ في الأدب الفارسي الكلاسيكي، مثل أشعار حافظ وسعدي، وكذلك الأدب العربي والغربي، تأثرا بروايات فيكتور هوغو وتشارلز ديكنز، وكان يرى في الأدب وسيلة لفهم النفس البشرية، كما اطلع على كتابات الفلاسفة الغربيين مثل هيغل وماركس، لكنه ظل متمسكا برؤية إسلامية في تحليل الأفكار.

وفي كتابه الأقرب إلى كونه سيرة ذاتية، وكُتب في الأصل باللغة العربية بعنوان “إن مع الصبر فوزا”، للناقد الأدبي الإيراني الراحل محيط طبطبائي، الذي صدر في نسخة مترجمة إلى الفارسية بعنوان أدبي: “قطرة دم تحولت إلى ياقوتة”، وفي الكتاب، يتذكر المرشد، شغفه بقراءة روايات فارسية وعالمية ويصر على التأثير العميق الذي تركته قراءة الروايات عليه، وعلى رأس القائمة التي طرحها خامنئي 10 روايات تدور حول السرية والتجسس والمؤامرات للروائي مايكل زيفاكو، كاتب كورسيكي – وكاتب فرنسي آخر يدعى موريس لوبلان الذي تتمثل أفضل أعماله في سلسلة روايات “أرسين لوبين”، وألكسندر دوما، كاتب مغامرات آخر من القرن الـ19، صاحب “الفرسان الثلاثة” و”الكونت دي مونت كريستو”.

خامنئي لم يكن مجرد قارئ، بل كان ناقدا أيضا كتب تعليقات على كتب سياسية وفكرية، وحلل قضايا مثل الاستعمار والعدالة الاجتماعية، اهتمامه بالثقافة جعله خطيبا مفوها، قادرا على مخاطبة الشباب بلغة تجمع بين العمق الفكري والبساطة

من الشعر إلى السياسة

كتب خامنئي العديد من المؤلفات، التي تتنوع بين الفقه، التفسير، والسياسة. من أبرز كتبه؛

  • “الإنسان في القرآن”، وهو تفسير تحليلي لبعض الآيات القرآنية.
  • “مستقبل النظام الإسلامي”، الذي يعكس رؤيته للحكم الإسلامي. 
  • كما ترجم كتبا من العربية إلى الفارسية، مثل “المستقبل لهذا الدين” لسيد قطب. 

خامنئي الشاعر

كتاباته تتسم بالوضوح والعمق، وتعكس قدرته على ربط الفكر الديني بالواقع السياسي، بالإضافة إلى ذلك، كتب خامنئي الشعر، وكان يوقّع قصائده باسم “أمين”، شعره يعكس روحانيته وحبه للوطن، وغالبا ما كان يتناول فيه موضوعات الثورة والمقاومة وعلى هامش لقاءه نخبة من الشعراء وأهل الثقافة والأدب الفارسي في ليلة مولد الإمام الحسن المجتبى، وصف خامنئي القصائد التي ألقيت في هذه الجلسة بأنها جيدة وذات جودة عالية بشكل عام، وقال: إن الموجة المتنامية من الشعر، خاصة بين الشباب، واعدة للغاية.

من النضال إلى القيادة

وكانت حياة خامنئي مليئة بالمحطات التاريخية التي شكلت دوره كقائد، في الستينات، انضم إلى الحركة المناهضة لنظام الشاه، متأثرا بالخميني، وانضم إلى النضال السياسي في عام 1962، عندما كان موجودا في قم وبدأت حركة الخميني الثورية والاحتجاجية ضد السياسات المعادية للإسلام والموالية لأمريكا لمحمد رضا شاه بهلوي، فـ تعرض للاعتقال 6 مرات بسبب أنشطته السياسية، وأمضى فترات في السجن والنفي، وفي عام 1979، لعب دورا بارزا في انتصار الثورة، وسقوط حكومة الشاه، حيث كان أحد المقربين من الخميني.

أبرز مناصبه:

بعد الثورة، تولى خامنئي مناصب عليا في طهران، أبرزها:

  • عضوية مجلس الثورة ووزير الدفاع.
  • رئيس الجمهورية بين عامي 1981 و1989.
  • رئيس مجلس الثورة الثقافية عام 1988.
  • رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام عام 1987. 
  • رئيس مجلس مراجعة الدستور عام 1989.

خلال رئاسته، واجه إيران تحديات الحرب العراقية-الإيرانية، وأظهر خامنئي مهارة في إدارة الأزمات، في عام 1981، نجا من محاولة اغتيال أدت إلى إصابة يده اليمنى، مما جعلها شبه مشلولة، لكنه واصل عمله بتصميم وفي عام 1989، وبعد وفاة الخميني، اختير خامنئي ليكون المرشد الأعلى للثورة، وهو المنصب الأعلى داخل النظام الإيراني. 

المرسوم الذي أنقذ الجيش من التبعية لأمريكا

ومن الأسباب الأكبر لارتباط خامنئي بالجيش قراره بإقامة “جهاد الاكتفاء الذاتي”، الذي ساعد الجيش على التخلص من اعتماده الكبير على الولايات المتحدة قبل الثورة، في حين أرادت الحكومة المؤقتة إعادة الأسلحة الأمريكية وحتى الطائرات المقاتلة إلى الولايات المتحدة مقابل المال.

عندما أصبح الزي العسكري فخر رجال الدين!

عندما بدأت الثورة، ظن خامنئي أنه لا يستطيع الذهاب إلى الجبهة مرتديا الجلباب والعمامة، فاستشاروا الشهيد شمران وقالوا له: ما رأيك أن أرتدي الزي العسكري؟ فاستقبله شمران، وذهب حضرة آغا إلى الجبهة بالزي العسكري وحين ذهب إلى الخميني بالزي العسكري لتقديم تقرير الحرب، كان الإمام سعيدا جدا لرؤيته بهذا الزي، وقال: “لقد كان هناك وقت كان يعتبر فيه هذا الزي منافيا للحياء، إذا لبس العالم زيا عسكريا لم تجوز الصلاة خلفه، لكن اليوم يفتخر رجال الدين الإسلامي بارتداء هذا الثوب”.

قائد المقاومة والوحدة

ولعل من أبرز مواقف خامنئي دعمه لـ”محور المقاومة”، وهو تحالف يضم إيران وحزب الله اللبناني وسوريا وفصائل فلسطينية وفي خطاباته، يؤكد دائما على دعم القضية الفلسطينية، ويرى أن المقاومة هي السبيل لمواجهة الهيمنة الغربية، كما اشتهر بمواقفه المناهضة للولايات المتحدة، التي يصفها بـ”الشيطان الأكبر“، لكنه أبدى في بعض المناسبات انفتاحا على الحوار بشرط احترام سيادة إيران.

على الصعيد الداخلي، دعا خامنئي إلى الوحدة الوطنية، وسعى للتوفيق بين التيارات السياسية المختلفة في إيران وفي عام 2009، واجه احتجاجات واسعة بعد الانتخابات الرئاسية، واتخذ موقفا صلبا في دعم النظام، معتبرا أن الاستقرار أولوية قصوى.

إرث رجل في قلب العاصفة

علي خامنئي ليس مجرد مرشد أو قائد، بل هو رمز لعصر مضطرب في تاريخ إيران من طفل نشأ في بيت متواضع إلى قائد يقود أمة في مواجهة تحديات عالمية، تجمع سيرته بين الروحانية والسياسة، والثقافة والنضال، كتاباته ومواقفه تعكس رؤية رجل آمن بأن الدين والدولة يمكن أن يسيرا معا سواء أحببته أو اختلف معه، فإن خامنئي سيظل شخصية محورية في تاريخ إيران، قائدا ترك بصمة لا تُمحى في مسيرة أمته.