- شروق حسن
- 32 Views
في أولى ليالي الجمعة التي تلت الانفجار المدوي في ميناء رجائي، لم تعد مدينة بندر عباس كما كانت. في تقرير مطوّل نشرته صحيفة اعتماد يوم 4 مايو/أيار 2025، تتجسّد تفاصيل ما بعد الكارثة، من شهادات سكان محليين نجوا بأجسادهم لا بذاكرتهم، إلى مشاهد الدمار التي مزّقت روح المدينة.
قالت صحيفة اعتماد إنه عند غروب يوم الخميس، كان رجل من شيراز واقفا في زاوية شرفة منزله، يطلّ من الطابق الثالث على الشارع الخالي.
كان هذا الرجل يعيش في بندر عباس منذ 12 عاما، وقد أصبح على دراية تامة بطباع السكان المحليين في المدينة إلى الحد الذي يسمح له بالحديث عن عاداتهم في الحداد. قال: “بندر عباس لا تشبه أي مكان آخر في إيران، حتى عزاء أهلها لا يشبه عزاء أي قبيلة”.

بحسب تقرير صحيفة اعتماد، يوم الخميس 1 مايو/أيار 2025، وهو أول ليلة جمعة بعد انفجار ميناء رجائي، بدت أحوال بندر عباس ووجوه أهلها كأنها غطاء أسود وقد تناثرت عليها بقع حمراء هنا وهناك؛ بعض العائلات التي استلمت جثامين أحبّائها، قصدت منذ العصر المقبرة الوحيدة في المدينة لتبكي عند القبور الجديدة. جدران كثير من الأزقة كُسيت بالسواد، وصدحت أصوات النحيب من داخل البيوت.
أولئك الذين لا يزال أحباؤهم مفقودين، كانوا يتأرجحون بين الضحك والبكاء، يتنقلون بين مفترق الأمل واليأس، ليعودوا في النهاية خالي الوفاض.
سكان حي “600 دستگاه” أقاموا مجلس فاتحة، وجماعة أخرى توجّهت إلى “زير پرچم”؛ تلك الساحة المحيطة بذلك العمود العالي الذي يُرفع عليه العلم في مناسبات الفرح والاحتفالات، لكن هذه المرة، ارتدى العلم نفسه ثوب الحداد، الرجل الشيرازي قال إن المدينة مخنوقة بالبكاء. وقال إنه طوال 12 سنة، لم يرَ عيون بندر عباس تغرورق بالدموع كما هي الآن.
تلكَ الأيام.. ما عادت المدينة تعرفُ للفرحِ طعما
تابعت الصحيفة أن الخوف استقرّ في جسد بندر عباس، سواء أولئك الذين كانوا يوم الحادث على بعد 30 أو 35 كيلومترا من موقع الانفجار ولم يسمعوا سوى دويه، أو جيران النار والدخان، جميعهم قضوا ليالٍ مليئة بالكوابيس خلال هذا الأسبوع.
وأضافت أن حميد، صاحب محل ميكانيك يبعد كيلومترا واحدا فقط عن ميناء رجائي وقريب من قرية «خونسرخ»، يحكي القصة.
قرية خونسرخ تبعد 5 كيلومترات عن الميناء، وهي أول منطقة سكنية في هذه المنطقة الصناعية النائية، ويعتمد رزق أهلها وتجارها على أرصفة الميناء أو على رواتب العاملين فيه.
بعد ساعات من الانفجار، عندما امتلأت بيوت ومحلات خونسرخ بالدخان الأسود والهواء الملوث، ترك السكان منازلهم ومحالهم وكل ما يملكونه وفرّوا إلى أقاربهم في مناطق أبعد، حفاظا على أرواحهم.
يقول حميد: “مع موجة الانفجار، تحطمت نوافذ كل البيوت والمحلات، وسُحقت الأسقف كأنها أوراق ، وتطاير الناس في الهواء كما يُقذف الحجر من المقلاع، ثم اصطدموا بالجدران بقوة”.
التأثير النفسي للانفجار على المدينة وسكانها
استمرت الصحيفة في السردِ أن حميد، شاب يبلغ من العمر 27 عاما، يقول إنّ دويّ الانفجار، ومشهد فرار ذلك العدد الكبير من الناس الهاربين من الموت، وكلّ ما رآه في الساعات التالية في المستشفى- من رجال ونساء مصابين، وأذرع وأرجل مكسورة، وأجساد محروقة، وعيون فقِدت بسبب شظايا الزجاج التي اخترقت أعماقها- كلّ ذلك خلّف رعبا عميقا في نفسه لدرجة أنّ قلبه يخفق بعنف الآن لمجرد سماعه صوت زمور سيارة.
وتابع أن «سكان بندر عباس كانوا دوما أهل فرح، لم تكن هناك أي علامة على الحزن في هذه المدينة، لكنّ هذه الأيام، تغيّر وجه المدينة، تغيّرت حال الشاطئ والسوق والشوارع، المدينة حزينة، أهل بندر لم يعودوا كما كانوا قبل أسبوعين، وأنا أيضا لم أعد نفس الشخص الذي كنت عليه قبل الانفجار».
يقول حميد إنّه كان يعرف أحد ضحايا الانفجار فقط، وهو هادي، سائق شاحنة من محافظة فارس، كان يأتي إلى الميناء، ويبقى يومين ريثما يتمّ تفريغ الحمولة، وكان يسلّم شاحنته لحميد ليفحصها ويصلح أي عطل في المحرّك.
يتابع حميد: «كان هادي داخل الكابينة عند وقوع الانفجار، ولم يُتح له حتى أن يخرج منها. احترق وهو جالس في مقعده».
أما مرتضى، وهو موظّف في الجمارك، فقد قُذف بجسده إلى جدار الشركة بسبب موجة الانفجار، وفي ظهيرة يوم الأحد كان فاقدا للتوازن في المشي والكلام.
المدينة بعد الكارثة: دمار وحزن شامل
وتابعت الصحيفة أن «كلّ شيء مدمّر… مدمَّر بشدة. الحريق خمد، لكن لا تزال بعض الحاويات تحترق من الداخل، عمليات التفريغ والتحميل تجري الآن بوتيرة بطيئة جدا، الكثير من الحاويات احترقت بالكامل”.
الأطباء في المدينة قلقون على حال السكان؛ الناس الذين ينهون يومهم بأسئلة بلا أجوبة، ويبدؤون ليلهم بكوابيس الانفجار، ويمضون نهارهم وليلتهم في الحزن على من رحلوا، سواء كانوا معروفين أو غرباء، في أول يومين بعد الانفجار، كانت صفوف التبرّع بالدم طويلة لدرجة أنّ عدد أسرّة التبرع ارتفع من 8 إلى 30 سريرا.
وأضافت الصحيفة أنه ما زالت عشرات الصيدليات والعيادات والمراكز الطبية تعلن عن تقديمها أدوات تضميد الجروح، والمراهم المضادة للحروق، والمعقمات، والكمامات، والكشوفات القلبية والعصبية والعظمية، مجانا دون أي رسوم، وكذلك تقديم العلاج المجاني للكسور والجروح، وقد امتدت موجة التعاطف والعلاج، سواء الجسدي أو النفسي، إلى عشرات الكيلومترات خارج بندر عباس.
في هذا السياق، أعلنت ويدا زنكيآبادي، الأخصائية في علم النفس السريري والمقيمة في إحدى مدن محافظة كرمان، عبر صفحتها على إنستغرام منذ بداية الأسبوع الماضي، أن «جلسات الاستشارة النفسية ستكون مجانية لجميع المواطنين المقيمين في بندرعباس حتى نهاية هذا العام».
صدمة جماعية
أضافت الصحيفة أن السيدة الأخصائية النفسية، التي كانت تزور بندر عباس مرتين أو ثلاث مرات في السنة، وتحمل في ذاكرتها صورة دائمة للمدينة الساحلية ككائن حيّ لا ينام ودائم الفرح، تعبّر اليوم بكلمات موجعة عن واقع جديد يخيّم على المدينة وسكانها:
«هؤلاء الناس، سيظلون لفترة طويلة يعيشون في دوامة الحزن والقلق والخوف من التعرّض للأذى. هناك خوف من الحوادث، من الانفجارات، من أن تكون أماكن عملهم غير آمنة، ومن عدم وجود ضمانات كافية لحمايتهم في مواقع عملهم”.
يقول أطباء بندر عباس إنهم خلال هذه الأيام ارتدوا قناع الطمأنينة، محاولين من خلال كلماتهم المليئة بالأمل أن يخفّفوا من حدّة الحزن والخوف لدى جيرانهم وأصدقائهم وأسرهم، رغم إدراكهم بأن حزن هذه المدينة هذه المرّة، من نوع آخر.
يصف أحد العاملين في جامعة العلوم الطبية بهرمزغان، في حديث لـ«اعتماد»، طبيعة هذا الحزن الجديد، ويتحدث عن هواء مشبّع بالدخان، لا يزال يحمل رائحة غريبة غير مألوفة، وعن أشخاص ما زالوا يبحثون بلا كلل عن مفقوديهم، وعن عائلات لا تملك حتى قبورا تبكي عندها.
«حال الناس ليس جيدا، كثيرون أصبحوا في حداد، كثيرون لديهم مفقودون، ولا يزالون يبحثون عن أحبّائهم، كثيرون لم يروا جثث أحبّائهم، لأن الانفجار حوّلهم إلى رماد وأشلاء محترقة، ولم يبقَ من أجسادهم ما يمكن دفنه”.
أضاف: ” اليوم، اتصل بي أحد الأشخاص وطلب مني أن أبحث عن والده في منظومة حالات الإدخال إلى المستشفيات على مستوى البلاد، وهو لا يعلم حتى الآن إن كان والده حيا أم ميتا، كثيرون تكبّدوا خسائر مالية”.
وتابعت الصحيفة بالقول، إنه الآن بات الجميع يعلم أن انفجار ظهر 26 أبريل/نيسان 2025 في ميناء رجائي، شكّل خطا بارزا في سجل أحوال بندرعباس، وسيظل الشاطئ والشوارع والأزقة في هذه المدينة التي كانت تعجّ ليل نهار بضجيج الحياة، يتنفسون تحت ظل الصمت والحِداد لزمن طويل.
لقد وصلت أصداء هذه الحالة حتى كيلومترات بعيدة عن بندر عباس، بل حتى إلى مدينة جيرفت في المحافظة المجاورة.
الحياة في الميناء
حسين درويشي، معلّم في مدرسة ثانوية للبنين في بندر عباس؛ مدرسة تقع في آخر شوارع المدينة، في حي 2000، الأقرب إلى الرصيف في منطقة عمالية يعمل أغلب سكانها في الميناء.
درويشي، الذي يقيم في جيرفت ويأتي إلى بندر للتدريس، كان يتأمل صور ما قبل ظهر 26 أبريل/نيسان 2025 في المدينة، وكان مكظوما ظهر الجمعة، متسائلا كيف سيقف صباح السبت أمام طلاب مفجوعين بانفجار مروّع.
وتابع أنه «في بندر، لا تكون غريبا أبدا، اقتصاد المدينة نشِط ودائم الحركة، لأنها مدينة ذات طابع صناعي، عندما تذهب إلى سوق المدينة أو السوق الساحلية، ترى كل أنواع المهن الصغيرة، وعجلة الحياة تدور”.
وتابع بالقول: “في الليل، حين أذهب إلى السوق الساحلية أو سوق الليل، أرى طلابي وهم يعملون في الورش، وفي بيع الفلافل، وفي محلات الأقمشة، وفي الكهرباء، أو بين الباعة المتجولين، أو حتى في الميناء، في قسم تفريغ البضائع، بجانب الحاويات والشاحنات، حتى بعد منتصف الليل، وهم بالطبع لا يجدون وقتا للدراسة، وينامون في الصف المدرسي”.
أضاف: “طلابي هؤلاء، لا ذنب لهم، فـ90 بالمئة منهم أبناء عمال، وآباؤهم لا يملكون القدرة على تغطية نفقات المعيشة، وهؤلاء الأبناء مضطرون لتأمين جزء من دخل الأسرة”.
وقال: “من أصل 40 طالبا في صفي، يعمل 35 منهم بعد المدرسة في سوق العمل، ولا يمكنك أن تقول لهؤلاء الأطفال إنه عليهم أن يدرسوا بدلا من العمل”.
وتابع أن “هؤلاء الأطفال، يقنعونك بواقع حياتهم، بأنهم مضطرون إلى العمل، لفترة من الزمن، كنت أشتري لهم القهوة، وأقدّمها لهم صباحا في الصف كي يطردوا النعاس، لأتمكّن من إعطاء الدرس، لكن دون جدوى، لأن الحقيقة كانت أن هؤلاء الأطفال لا يملكون وقتا للدراسة”.