- يارا حلمي
- 8 Views
كتب: أمير عباس هدايت
في صباح يوم 10 أبريل/نيسان 1999، حينما كانت طهران لا تزال تغط في سُبات عطلة نهاية الأسبوع، اغتيل الفريق علي صیاد الشيرازي، الرجل الذي وقف لسنوات طويلة في الصفوف الأمامية خلال حرب إيران والعراق، أمام منزله في أحد أحياء شرق العاصمة.
اقترب منه الجاني، وهو شاب يرتدي زي عامل نظافة، فناداه باسمه، ثم ردّ على ابتسامته الصباحية بوابل من الرصاص.كان هذا الاستشهاد نهاية حياة رجل، رآه الكثيرون في إيران تجسيدا لـ”الجندي المؤمن”.
غير أن مقتل صیاد شيرازي مثّل بداية جديدة لإعادة قراءة سيرته وطرح سؤال جوهري: ما الذي جعل من قائد عسكري هدفا لجماعة إرهابية مثل مجاهدي خلق؟
الجواب يكمن في مزيج فريد: الانضباط العسكري، والإيمان الديني، والالتزام المطلق بالثورة الإسلامية.

ميلاد قائد
وُلد علي صیاد الشيرازي في 15 يونيو/حزيران 1944 في قرية كبود قنبد التابعة لمدينة دركز بمحافظة خراسان رضوي. كان والده ضابطا في الجيش، وهو المسار ذاته الذي اختاره علي في سن مبكرة. بسبب مهنة والده، تنقّلت العائلة بين عدة مدن، مما جعل علي صیاد شيرازي يقضي طفولته ودراسته في مدن مشهد، جرجان، وشاهرود، وآمل، وقنبد.
أنهى دراسته الثانوية، وشارك عام 1964 في امتحان القبول بكلية الضباط للقوات البرية، وتم قبوله. وفي عام 1967 تخرّج برتبة ملازم ثانٍ في سلاح المدفعية، بعد أن أتم بنجاح دورات تدريبية في فنون الكوماندوس والقفز المظلي.
في عام 1971، انتقل إلى طهران لدراسة اللغة الإنجليزية، وفي عام 1973، نظرا إلى كفاءته العسكرية، أُوفد إلى الولايات المتحدة لاستكمال تخصصاته في سلاح المدفعية، حيث التحق بدورة في الأرصاد الباليستية.
أتمّ هذه الدورة متفوقا على جميع زملائه من الضباط الإيرانيين والأمريكيين، وعند عودته، حظي بتكريم خاص من قائد القوات البرية آنذاك.
بفضل مهاراته الفائقة، نُقل في عام 1974 إلى مركز تدريب المدفعية في أصفهان، حيث واصل أداء المهام العسكرية بنجاح لافت، وتولى تدريس مواد مثل الأرصاد الباليستية للمدفعية، ورسم الخرائط، وقراءة الخرائط، واللغة الإنجليزية، وذلك برتبة نقيب.
تقدّم صیاد شيرازي بسرعة في المجال العسكري، لكن ما ميّزه عن أقرانه كان شغفه بالدراسات الدينية ومشاركته النشطة في الجلسات الدينية السرية خلال فترة قمع نظام الشاه.

في مطلع السبعينيات، وتحديدا خلال عامي 1970 و1971، خاض علي صیاد الشيرازي أولى تجاربه الجدية في المجالين الديني والسياسي. فقد بدأ خطواته الأولى نحو فهم أجواء الكفاح ضد نظام الشاه عبر تواصله مع مجموعات دينية منظمة.
ووفقا لما يرويه في مذكراته، فقد شارك أثناء دراسته للغة الإنجليزية في طهران في جلسات دينية سرية معارضة للنظام، كما شرع قبل سفره إلى الولايات المتحدة بدراسة مقالات إسلامية باللغة الإنجليزية كانت تصدر من مدينة قم.
وبعد عودته من الولايات المتحدة واستقراره في أصفهان، واصل جهوده التعليمية، حيث كان يقيم جلسات لتدريس اللغة الإنجليزية إلى جانب الدروس الدينية والقرآنية. وبفضل إتقانه للغة الإنجليزية، بادر صیاد الشيرازي إلى تعليمها لطلاب الحوزة العلمية. ويقول في مذكراته:
“بعد فترة قصيرة، أصبحت أعقد أسبوعيا ما لا يقل عن ثماني جلسات، كانت إحداها أو اثنتان منها مخصصة لتعليم اللغة الإنجليزية لطلبة الحوزة. وكان يحضرها طلاب شباب. كما كنا نعقد جلسات بالعربية مع بعض الأصدقاء العاملين في مجال المعارف الإسلامية، نتلقى خلالها دروسا في تفسير القرآن، ونراجع معا ترجمات القرآن إلى اللغة الإنجليزية”.

ونظرا لانتمائه لعائلة دينية، حرص صیاد الشيرازي خلال خدمته في جيش الشاه على الحفاظ على هويته الروحية والإسلامية، وكان يسعى جاهدا لترسيخ هذه القيم بين زملائه العسكريين. ويقول في إحدى مذكراته:
“كان نسيج الجيش يشكل أرضية خصبة للثورة الإسلامية. فقد كان الجنود الإلزاميون ينتمون إلى الشعب، ولم يكن هناك ما يستطيع أن يبدل فطرتهم أو يفسد أرواحهم. أما الضباط، لاسيما صغار الرتب والشباب منهم، فلم تكن السياسات الطاغوتية قد تسللت إلى أعماقهم، ولم تؤثر على نقاء سريرتهم”.
الثورة والاختيار
مع انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، كان علي صیاد الشيرازي، الذي كان حينها برتبة رائد، من بين الضباط الذين التحقوا بالثورة. وقد اضطلع بدور نشط في منع انهيار الجيش، وسلك منذ البداية طريقا شاقا ومزدوجا، جمع فيه بين الولاء للمؤسسة العسكرية وحماية الوطن.
في الأشهر الأولى عقب الثورة، كانت الجماعات الإرهابية تعتبر الجيش رمزا للنظام السابق. ومع ذلك، كان الإمام الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية، يصرّ على ضرورة الحفاظ على الجيش مع تطهيره من الداخل. وفي خضم هذا الاضطراب، لم يكتفِ صیاد شيرازي بالبقاء ضمن صفوف الجيش، بل أصبح من الشخصيات المحورية في مسار أسلمته وإعادة بنائه.
الحرب والامتحان
مع اندلاع الحرب بين إيران والعراق في سبتمبر 1980، توجّه صیاد الشيرازي إلى جبهات القتال، وهو لا يزال برتبة عقيد. سرعان ما تولى قيادة العمليات في غرب البلاد، ولعب دورا حاسما في فك حصار مدينة باوة، كما قاد عمليات كبيرة مثل “ثامن الأئمة” و”طريق القدس”.
وفي يونيو 1981، تم تعيينه قائدا للقوات البرية للجيش الإيراني. رغم وجود خلافات بين المؤسستين العسكريتين آنذاك، كان صیاد شيرازي أول قائد عسكري يباشر تعاونا ميدانيا عمليا مع قوات الحرس الثوري، وهو تعاون مهّد لاحقا لتشكيل بنية عسكرية موحدة، تجلّت في عمليات كبرى مثل “والفجر 8″ و”كربلاء 5”.
وفي إحدى رسائل علي خامنئي، الذي كان حينها رئيسا للجمهورية عام 1986، إلى الإمام الخميني، جاء وصف صیاد الشيرازي بالقول: “يجب اعتبار صیاد الشيرازي من أكثر قادة الحرب إخلاصا؛ لا يسعى وراء الشهرة ولا المكاسب، بل كانت غايته الوحيدة تحقيق نصر الإسلام.”

التقوى في ثوب الجندية
وسط ميادين الألغام والمدفعية والدبابات، كان علي صیاد شيرازي يبني حياته على أساس التقوى. على خلاف كثير من كبار الضباط حول العالم، عاش حياة بسيطة في منزل متواضع، ولم يكن يترك صلاة الليل أبدا.
يقول ابنه مهدي في مقابلة: «كان والدي عندما يستعد للذهاب إلى الجبهة، يسلّم والدتي وصيته، ويقول لها: إذا لم أعد، فلا تقلقي، لقد وهبت حياتي لله”.
أما رفيق دربه، الشهيد أحمد كاظمي، فيروي: «لولا صیاد، لما حققت العديد من عملياتنا نتائجها. لقد كان يعلّمنا التكتيك، ويمنحنا الروح، ويغمرنا بالإيمان”.
وبعد نهاية الحرب عام 1988، ورغم العروض المتكررة لتولي مناصب سياسية رفيعة، اختار صیاد الشيرازي البقاء في الزي العسكري.
وفي عام 1989، وبعد تولي علي خامنئي منصب المرشد الأعلى، عُيّن صیاد شيرازي نائبا لرئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، وهو منصب مكّنه من أداء دور استراتيجي في إعادة تصميم البنية الدفاعية لإيران بعد الحرب.
هدف للاغتيال
في تسعينيات القرن الماضي، انتقل العديد من قادة الحرب إلى مواقع سياسية أو اقتصادية أو دبلوماسية، بينما ظل الصیاد شيرازي يتوجه يوميا بسيارته الشخصية إلى مقر هيئة الأركان، مما أثار دهشة من حوله لبساطته وتواضعه.
وفي هذه المرحلة، استهدفته منظمة مجاهدي خلق، التي كانت قد لجأت إلى العراق بعد تحالفها مع جيش صدام خلال الحرب. بالنسبة لهم، لم يكن صیاد مجرد قائد عسكري، بل كان رمزا لوحدة الجيش والحرس الثوري وروح الإسلام الثوري التي صمدت أمام المؤامرات الداخلية والخارجية.
وفي بيانها عقب اغتياله، أعلنت المنظمة صراحة أن سبب تنفيذ العملية كان «دوره في قمع أعضائها أثناء الحرب وما بعدها». غير أن كثيرين في إيران اعتبروا هذا الاغتيال نتاجا لحقد دفين تجاه إنجازات صیاد شيرازي في تثبيت دعائم الجيش الإسلامي للثورة.

الشهادة والإرث
في يوم تشييع جثمان علي صیاد الشيرازي، غصّت شوارع طهران بجماهير غفيرة، لم تكن تودع مجرد عسكري، بل كانت تبكي نموذجا للإيمان والتضحية. ووري جثمانه الثرى في مقبرة بهشت زهراء، في القطعة 29، إلى جانب رفاقه من القادة الشهداء.
وفي رسالة تعزيته، قال المرشد علي خامنئي: “كان عسكريا مؤمنا، وجنديا ملتزما بولايـة الفقيه، ومجاهدا متعلقا بالقيم. فقدانه يشكل خسارة عظيمة للوطن وللقوات المسلحة”.
شهادة أسطورة وبداية حكاية
بعد مرور خمسة وعشرين عاما على استشهاد علي صیاد الشيرازي، لا يزال اسمه يُذكر بكل إجلال بين طلاب الكلية العسكرية الإيرانية. وقد خُصصت له قاعة باسمه في الجامعة العسكرية، وأُنتجت أفلام توثّق سيرته، وتستحضر شهادات رفاقه صورة تجمع بين البساطة والشجاعة والإيمان.
وفي كل عام، تحتفل إيران بذكرى الشهيد صیاد شيرازي تكريما لإرثه الخالد. وفي عصرٍ تحوّلت فيه الجيوش حول العالم إلى مؤسسات تكنولوجية وسياسية بحتة، تبقى سيرة صیاد الشيرازي تذكيرا حيا بأن روح الإيمان، حتى وسط أزيز المعارك، قادرة على رسم ملامح مستقبل أمة بأكملها.