من الفرح إلى الحزن.. “مهرجان كوجه” في بندر عباس

كتب: أمير عباس هدايت

ترجمة: دنيا ياسر نور الدين 

كانت سفينة “غراند فِري” تنساب بهدوء فوق مياه الخليج العربي، أضواؤها الملوّنة تتلألأ في الغروب الذهبي لشهر مايو/أيار، وأنغام الآلات الموسيقية تنبعث عاليا من على سطحها. اجتمع أهالي بندر عباس وسيّاح من مختلف أنحاء إيران للاحتفال بالنسخة الرابعة من مهرجان “كوجه” الثقافي-الفني؛ الحدث الذي بات واحدا من أبرز الرموز الثقافية في جنوب إيران.

لكنّ هذا العام، حمل المهرجان طابعا مختلفا. ففي اليوم الذي سبق انطلاق الاحتفال، دوّى انفجار ضخم في ميناء “الشهيد رجائي” ــ أكبر ميناء تجاري في البلاد ــ وأغرق مدينة بندر عباس في صدمة وحداد. الانفجار الذي وقع صباح السادس والعشرين من أبريل/نيسان 2025، أودى بحياة ما لا يقل عن 57 شخصا وأصاب أكثر من ألف آخرين بجراح؛ غالبيتهم من العمّال والبحّارة المحليين. وبفعل هذه الفاجعة، تحوّل مهرجان كوچه، الذي لطالما كان ساحة للفرح والغناء، إلى منبرٍ للعزاء الجماعي.

انطلق مهرجان كوجه لأول مرة عام 2021، بهدف إحياء الموسيقى المحلية والطقوس والفنون الشعبية في بندر عباس وبوشهر. يقول عبد الصمد دشتي، نائب مدير الشؤون الفنية في دائرة الثقافة والإرشاد الإسلامي بمحافظة بوشهر: “أردنا أن يجتمع الناس بعيدا عن هموم الحياة اليومية، ليضحكوا ويغنوا ويحتفلوا بتراثهم”.

تُقام فعاليات المهرجان على متن سفينة “غراند فِري” وتتنوع بين فقرتين موسيقيتين كل ليلة، وأمسيات شعرية، وغناء “شَروه”ــ وهو غناء مرثوي محليــ وعروض طقسية وسرد للقصص الشعبية. كما تستضيف أماكن مثل قاعة “ليان”، و”هليله”، وعمارتَي “بندركاه” و”خليلي” فعاليات موازية. ويتميّز المهرجان بتزامن ختامه مع “اليوم الوطني للخليج الفارسي” في العاشر من شهر مايو/أيار، في رمزية تعكس الفخر البحري والوطني.

هذا العام، حمل مهرجان كوجه أبعادا أعمق من أي وقت مضى. ففي الساعات الأولى عقب الانفجار في ميناء الشهيد رجائي، وُضع القائمون على المهرجان أمام خيار صعب: هل ينبغي إلغاء الاحتفالات؟

تعلّق فريبا فرهمند، عضو الفريق التنفيذي للمهرجان: “كنّا جميعا مصدومين. أدركنا أن الناس بحاجة إلى مساحة للتعاطف. قررنا أن نقيم المهرجان تخليدا لذكرى الضحايا؛ لا للفرح، بل للتآزر”.

تمت إعادة تصميم البرنامج. في الليلة الأولى، بدلا من الأغاني المبهجة، صدحت أصوات مغني الشَروه بمراث بحرية حزينة، وامتلأ الجو بألحان النواح. وقدّمت الفرق الموسيقية معزوفات حزينة احتراما للضحايا، وأُضيئت الشموع على سطح السفينة تكريما لأرواح الذين قضوا في الحادث.

وسط الحشود، وقف عبد الله مرادي، صيّاد يبلغ من العمر 55 عاما، بعينين دامعتين. فقد أخاه في الانفجار. يقول: “كان أخي بحّارا، وقد عاد لتوّه من رحلة. كنا نأتي معاً إلى المهرجان كل عام”.

وترى زهرة عباسي، عازفة آلة العود من بوشهر، أنّ الفن قادر على مواساة الناس. تقول: “حين نعزف على المسرح، يبدأ الناس بالبكاء”. وفي السوق الصغيرة بجانب السفينة، وزّعت نساء محليات يرتدين ثيابا ملوّنةـ وإن كانت وجوههنّ يعلوها الحزن- التمر والحلوى على الحضور.

أما الشاعر والقاصّ المحلي نادر باقري، فقد ألقى في أمسية الشعر قصيدة كتبها حديثا عن الضحايا:

“على شاطئ الميناء المحترق

يعلو صوت الشباك الممزقة

والخليج، في حزن البحّارة،

يردّد نشيد كوجه بهدوء”.

يقول باقري: “الثقافة في الجنوب كانت دائما في حالة تأرجح بين الفرح والحزن. مهرجان كوجه هذا العام انعكاس حقيقي لهذا التناقض”.

أعلنت الحكومة الإيرانية فورا عن فتح تحقيق شامل في ملابسات الانفجار، ووجّه رئيس الجمهورية رسالة متلفزة لمواساة عائلات الضحايا. لكن المزاج العام في المدينة ظلّ في حالة غليان. كثيرون اعتبروا أنّ ما حدث هو نتيجة إهمال في إجراءات السلامة بالميناء.

تقول مريم صالحي، طالبة فنون من شيراز جاءت خصوصا لحضور المهرجان: “لن أنسى أبدا تلاحم الناس في بندر عباس. أدركت هنا أن الفن ليس مجرد ترفيه؛ بل ملاذ للناس”.

كلمة “كوجه” في اللهجة المحلية لا تعني فقط الزقاق الضيق، بل تشير أيضا إلى مكان التجمع، والموسيقى الشعبية، والروابط الاجتماعية. وهذا المهرجان، باسمه هذا، يحافظ على روح جنوب إيران حيّة.

تُعدّ بندر عباس وبوشهر- بتاريخ طويل في التجارة البحرية، والموسيقى البندرية، وغناء الشَروه، وطقوسهما الخاصة- جزءا أساسيا من الهوية الثقافية الإيرانية. وفي مهرجان كوجه، تعيد أصوات “النيّ أنبان” و”الضرب” و”الدمّام” والأغاني البحرية وصل الناس بجذورهم، ليس فقط السائحين، بل أيضا السكان المحليين أنفسهم.

يقول إسماعيل سجادي منش، المدير العام للتراث الثقافي والسياحة والحرف اليدوية في بوشهر، في مقابلة: “سخّرنا جميع البنى التحتية السياحية لاستقبال الضيوف. هذا المهرجان فرصة لتعريف العالم بجنوب إيران”.

وأكد أن المهرجان يحظى بدعم من الوزارة، وقد أُدرج رسميا في تقويم الفعاليات الثقافية الإيرانية. حتى بعد الحادث، بقي السياح المحليون والأجانب في المدينة، وأوصلوا رسالة، مفادها أن قوة الثقافة تتجاوز الأزمات.

ارتبطت الليلة الختامية للمهرجان بإحياء ذكرى الضحايا واليوم الوطني للخليج العربي. أُضيئت سفينة غراند فِري وسط المياه المظلمة، وأطلق عدد من الأطفال المحليين طائرات ورقية بيضاء في السماء تخليدا لأرواح الضحايا.

وفي كلمته في حفل الختام، قال عبد الصمد دشتي: “هذا العام ضحكنا وبكينا. وتعلّمنا أن الثقافة ليست فقط لأيام السرور؛ بل لها دورها في أيام المحنة أيضا”.

رغم الحزن السائد، اعتُبر مهرجان كوجه نموذجا للصمود الثقافي. أرسل الفنانون المحليون والمسؤولون وسكان بندر عباس رسالة موحّدة: لن نستسلم.

ويقول علي موسوي، مغنّ شاب اعتلى مسرح كوجه للمرة الأولى: “ما حدث كان مؤلما، لكنه علّمنا كيف نكون أقوى بالموسيقى ونستمدّ منها طاقة. الليلة غنيت للناس فقط”.

بالنسبة للمشاهد الأجنبي، يشكّل مهرجان كوجه نافذة على جنوب إيران؛ منطقة تتّسم بالألوان، والأصوات، والحكايات التي كثيرا ما تظلّ في الظل تحت وطأة الأخبار السياسية والاقتصادية. وفي بندر عباس، حيث يختلط الحزن بالفرح، يواصل الناس مقاومتهم، بالموسيقى، والشعر، والأمل.