قصة الصراع بين الحوثيين واليهود

كتب: سيد نيما موسوي

ترجمة: علي زين العابدين برهام

منذ الأشهر الأولى لعام 2024، واصلت الولايات المتحدة محاولاتها لقصف مناطق خاضعة لسيطرة جماعة أنصار الله في اليمن. وبينما ركزت إدارة بايدن في هجماتها بشكل أساسي على البنية التحتية للبلاد، فإن إدارة ترامب، ومنذ استئناف العمليات في أيامها الأولى، أظهرت ميلا لاستهداف قادة الجماعة إلى جانب المنشآت الحيوية.

ويعود سبب هذا الصراع، المستمر منذ أكثر من عام ونصف العام، إلى سلسلة الهجمات التي شنتها “أنصار الله” على السفن المارة عبر مضيق باب المندب. فمنذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، سعت الجماعة إلى ضرب المصالح الإسرائيلية وتعطيل الاقتصاد البحري في البحر الأحمر كوسيلة للضغط على إسرائيل.

وتجدر الإشارة إلى أن الخطاب السياسي والإعلامي لـ”أنصار الله” يتضمن نبرة معادية لليهود، حيث يُعد شعار “اللعنة على اليهود” أحد رموزهم البارزة التي تردّد في تجمعاتهم السياسية.

تهدف هذه المقالة إلى استعراض الجذور التاريخية لهذا الصراع بين جماعة أنصار الله، بصفتها فرعا من الشيعة الزيدية في اليمن، والديانة اليهودية والقضية اليهودية.

من القرن الأول حتى القرن السادس الميلادي، كان الصراع بين الإمبراطوريتين العظميين آنذاك، إيران وروما، يمثل السمة الأبرز في مشهد الشرق الأوسط، حيث انعكست تداعيات هذا الصراع على مجمل التحولات السياسية والتاريخية في المنطقة. 

وكان اليمن والحبشة، وبصورة أوسع، مضيق باب المندب، تشكل نقطة محورية في طريق التجارة البحرية الرومانية إلى الهند. وكما كانت أرمينيا منذ عهد الدولة الأشكانية مسرحا للتنازع بين القوتين، أصبحت اليمن أيضا ساحة صراع استراتيجية بسبب موقعها الجغرافي الحيوي.

وبعد نحو ستين عاما من تدمير أورشليم على يد الإمبراطور الروماني تيتوس، أسّس اليهود في عام 132 ميلادية كيانا سياسيا في أرض فلسطين الحالية، بقيادة “شمعون باركوخبا”. لكنهم سرعان ما تعرضوا لهزيمة قاسية على يد الإمبراطور الروماني هادريان، قُتل خلالها باركوخبا في مدينة بيتار بمنطقة الجليل، مما دفع كثيرا من اليهود إلى الهجرة نحو العراق واليمن. 

كان اختيار اليمن يعود إلى أهميتها الاستراتيجية كممر تجاري بين الشرق والغرب، إضافة إلى بعدها عن هيمنة الدول المركزية، مما جعلها ملاذا للمضطهدين والمعارضين.

شهد اليمن هجرات متتابعة لجماعات يهودية، وإسماعيلية، وزيدية، حيث تشير الروايات إلى وجود معابد يهودية منذ عهد مملكة حِميَر. ويُعد أول صدام بارز بين اليهود والعرب في اليمن قد وقع في عهد الملك الحميري “أبو كرب”، خلال حملته على يهود يثرب. غير أن إصابته بمرض خلال تلك الحملة، وعلاجه على يد اثنين من الحاخامات اليهود، أدّيا إلى تحوّله إلى الديانة اليهودية.

بلغت العلاقة بين ملوك حِميَر واليهود ذروتها في عهد الملك “يوسف ذو نواس”، الذي كان من أشد خصوم الإمبراطورية الرومانية، والمسيحيين في نجران، وإمبراطورية أكسوم الحبشية المتحالفة مع روما. وبصفته معتنقا جديدا لليهودية، سعى ذو نواس إلى مقاومة أكسوم، واستند في ذلك إلى دعم اليهود الذين استوطنوا اليمن منذ قرون، في محاولة لبناء جبهة دينية وسياسية في وجه القوى المتحالفة ضد مملكته.

بالتوازي مع هذه التحولات، شهد اليمن هجرة الزيدية، بوصفهم فرعا عمليا من التشيع يؤمن بمبدأ “الخروج بالسيف”، إلى أراضيها منذ القرون الأولى بعد الإسلام. وقد بدأت هذه الهجرة مع قدوم الإمام الهادي يحيى بن الحسين الرسي من طبرستان شمال إيران إلى اليمن، عقب أدائه فريضة الحج ومبايعة قبيلة خولان له، فأسس بذلك أول دولة زيدية في اليمن، استمرت قرابة ألف عام حتى ستينيات القرن العشرين.

وخلال القرن الثاني عشر الميلادي، في عهد الإمام عبد النبي بن المهدي، تفاقم التوتر بين الزيدية واليهود. وكما كان اليهود متهمين بالتآمر ضد النبي محمد ﷺ منذ بزوغ الإسلام، فرضت الدولة الزيدية قيودا صارمة على اليهود، كان أبرزها ما عُرف في القرن الثامن عشر بـ”مرسوم اليتيم”، والذي نص على إلزام الأطفال اليهود الأيتام، الذين تتولى الدولة كفالتهم، باعتناق الإسلام. وقد أُلغي هذا المرسوم لاحقا بعد سيطرة الدولة العثمانية على اليمن.

وفي عام 1839، ومع تأسيس مستعمرة عدن الخاضعة للحكم البريطاني، أصبح لليهود موطئ قدم مهم في اليمن، خاصةً أن عددهم كان ملحوظا. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، شهدت عدن موجة هجرة واسعة من العمال العرب المسلمين، ما أدى إلى تصاعد التوتر بين هؤلاء الوافدين والجالية اليهودية. وزادت حدة هذا التوتر بسبب الأخبار المتداولة آنذاك عن تصاعد الصراع بين العرب والوكالة اليهودية في فلسطين.

بلغ الصدام ذروته في ديسمبر /كانون الأول 1947، عندما اندلعت اشتباكات دامية بين اليهود والمسلمين في عدن، أسفرت عن مقتل نحو 80 شخصا. هذا الحدث شكّل دافعا قويا لدى يهود اليمن، لا سيما في عدن، للهجرة إلى فلسطين المحتلة. وكان ليهود عدن آنذاك حضور في مناطق أخرى مثل إريتريا وإثيوبيا.

وفي ما بعد، نُفذت عملية “البساط السحري”، التي تم خلالها خلال عام ونصف العام ترحيل نحو 47 ألف يهودي يمني من مناطق متعددة كعدن، وأسمرة، وأجزاء من شبه الجزيرة العربية، إلى فلسطين، في واحدة من أوسع حملات التهجير في تاريخ يهود اليمن.

في جوهره، لا يقتصر النزاع الراهن بين اليهود والزيديين في اليمن على صراع سياسي مرتبط بجبهة المقاومة وإسرائيل، بل يمتد جذوره إلى تاريخ طويل من التوترات العميقة بين يهود اليمن والعرب الزيديين. 

هذا التاريخ المتشابك بالنزاعات والصراعات أسهم في ترسيخ عداء متجذر، تجلّى بوضوح في بعض الشعارات والطقوس الزيدية التي تحمل طابعا معاديا لليهود، ما يدل على أن هذه المواقف تتجاوز البعد السياسي أو القومي المتعلق بإسرائيل، لتعكس إرثا تاريخيا من الصراع.

لقد توافد كل من اليهود والزيديين إلى اليمن في فترات زمنية متباعدة، وكان يُنظر إلى كل منهما، في سياقه التاريخي، كقوة هامشية تتحدى السلطة المركزية. وقد أسهم التنافس بينهما، بما حمله من أبعاد دينية وسياسية وثقافية، في تشكيل ملامح التاريخ اليمني على مدى قرون. وهو تاريخ صنعته مواجهات متكررة بين جماعتين شكّلتا، كل بطريقته، جزءا من القوى المحركة للصراعات والتحولات الكبرى في البلاد.