أكاديمي إيراني لـ”زاد إيران”: سوء الإدارة السبب الرئيس لاختلال توازن استهلاك الطاقة في إيران 

أجرى الحوار: الصحفية الإيرانية “راحله کاویار”

ترجمة: دنيا ياسر نور الدين 

مع ازدياد الطلب العالمي على الطاقة والتحديات البيئية الناتجة عن الوقود الأحفوري، باتت دراسة أوضاع دول الشرق الأوسط في مجال إنتاج واستهلاك الكهرباء أكثر أهمية من أي وقت مضى. وفي هذا السياق، تعد إيران، بما تمتلكه من احتياطيات ضخمة من النفط والغاز، أحد اللاعبين الأساسيين في هذا المجال.

أنتجت إيران في عام 2023 ما يقارب 350 إلى 370 تيراواط ساعة من الكهرباء، وهو ما يضعها في مصاف كبار منتجي الكهرباء في المنطقة. غير أن البنية التحتية المتهالكة، والاستهلاك المفرط، والدعم الواسع لأسعار الطاقة، إضافة إلى المشكلات الناتجة عن العقوبات، أدت جميعها إلى اختلال واضح في شبكة الكهرباء الوطنية. 

وخلال السنوات الأخيرة، أصبحت الانقطاعات المتكررة في فصل الصيف من المشاكل الرئيسية التي تسببت أحيانا في إغلاق المؤسسات الحكومية وإثارة السخط الشعبي.

ويُعزى جزء من هذا الاختلال إلى التعدين غير القانوني للعملات الرقمية، والاستهلاك المرتفع للكهرباء في الصناعات غير الإنتاجية. وفي الوقت نفسه، تسعى إيران إلى تصدير الغاز والكهرباء إلى دول الجوار مثل العراق وباكستان، لكنها في بعض الأحيان تعجز عن الوفاء بالتزاماتها التصديرية بسبب نقص الإنتاج أو اختلال التوازن الداخلي.

أما المملكة العربية السعودية، فقد أنتجت في عام 2023 حوالي 421 تيراواط ساعة من الكهرباء، وبلغ استهلاكها 383 تيراواط ساعة. وتجدر الإشارة إلى أن معدل استهلاك الكهرباء للفرد في السعودية يفوق المعدل العالمي بعدة أضعاف، وهو ما يعود أساسا إلى الانتشار الواسع لأنظمة التكييف، ونمط الحياة القائم على استهلاك مرتفع، والدعم الكبير لأسعار الطاقة.

ويُنتج أكثر من 99% من الكهرباء في السعودية عبر الغاز الطبيعي والنفط، بينما تبقى مساهمة الطاقة المتجددة ضئيلة للغاية. وعلى الرغم من وجود خطط كبرى مثل “رؤية 2030” للحد من الاعتماد على النفط وتنمية مصادر الطاقة المتجددة، إلا أن التغيير في نمط الاستهلاك لا يزال يسير ببطء.

من ناحية أخرى، أنتج العراق في عام 2023 نحو 150 تيراواط ساعة من الكهرباء، بينما بلغ استهلاكه 73.5 تيراواط ساعة فقط. ورغم انخفاض الاستهلاك مقارنة بإيران والسعودية، إلا أن هذا الانخفاض لا يدل بالضرورة على ترشيد فعال، بل يعود أساسًا إلى ضعف البنية التحتية والانقطاعات الواسعة للكهرباء، وضعف وصول السكان إلى خدمة كهرباء مستقرة.

ويعتمد العراق حاليا بشكل كبير على استيراد الكهرباء والغاز من إيران لتغطية احتياجاته. لكن هذه التبعية، خاصة في ظل الاضطرابات السياسية، جعلت العراق معرضا دوما لأزمات طاقة، حيث أعلنت وزارة الكهرباء العراقية مرارا عن انخفاض الإمدادات الإيرانية بسبب الديون المتراكمة، مما فاقم من أزمة الطاقة هناك.

أما تركيا، فقد أنتجت في عام 2024 حوالي 348 تيراواط ساعة من الكهرباء، مقابل استهلاك قدره 347 تيراواط ساعة، ما يعكس توازنًا نسبيًا بين الإنتاج والاستهلاك. ومن أهم ملامح تركيا تنوع مزيجها الطاقي، رغم أن الفحم لا يزال يشكل نحو 35% منه. وتعتمد تركيا بشكل كبير على الفحم، مما يجعلها أكبر منتج للكهرباء عبر الفحم في أوروبا، وهو ما أثار قلقا متزايدا بشأن تلوث الهواء والأضرار البيئية.

إضافة إلى ذلك، تستورد تركيا جزءا من احتياجاتها الطاقية من إيران. وهناك تقارير تفيد بوجود عمليات تهريب للوقود عبر الحدود الإيرانية التركية، مما يساهم بدوره في زيادة الضغط على شبكة الكهرباء الإيرانية، ويؤدي إلى تفاقم الاختلال الداخلي.

تُظهر مراجعة البيانات المتوفرة أن إيران، رغم تمتعها بموقع نسبي جيد من حيث استهلاك الفرد وإنتاج الكهرباء مقارنة بجيرانها، لم تتمكن من الاستفادة المثلى من قدراتها بسبب مشكلات إدارية وضعف في البنية التحتية.

وعند مقارنة الوضع مع العراق والسعودية، يبدو أن إيران أكثر نجاحا في السيطرة على الاستهلاك. ولكن بالمقارنة مع تركيا، لا تزال تواجه تحديات تتعلق بهدر الطاقة، والدعم غير الموجه، وضعف تنوع مصادر الطاقة. 

وعلى المدى البعيد، سيكون من الضروري لإيران إعادة النظر في سياسات الدعم، وتجديد البنية التحتية لإنتاج ونقل الكهرباء، ومكافحة تهريب الوقود، والتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة كأهم الحلول للخروج من أزمة الطاقة الحالية.

في حوار له مع ” زاد إيران” قال الأكاديمي الإيراني حسن مرادي، والنائب السابق في البرلمان الإيراني، عند مقارنة الإحصاءات الحديثة فإن نمط الاستهلاك في إيران أفضل حالا من نظيره في السعودية والعراق، إلا أنه لا يزال يواجه تحديات مقارنة بتركيا، علما بأن تركيا تستورد جزءا من احتياجاتها الطاقية، بشكل قانوني وغير قانوني، من إيران.

إلى نص الحوار:

رغم أن إيران تعد من أكبر منتجي النفط والغاز في العالم، لماذا تواجه طهران ظاهرة اختلال التوازن الطاقي ومشاكل تأمين الوقود؟

اختلال التوازن الطاقي في بلادنا له عدة أسباب، لكن يمكن إرجاعه بشكل محدد إلى عاملين أساسيين: أولهما سوء الإدارة، وثانيهما النمو السريع والواسع النطاق. فإيران، باعتبارها دولة نامية، تشهد توسعا متزايدا في شبكات توصيل الغاز والكهرباء والبنى التحتية المرتبطة بالطاقة. وقد تسبب هذا التوسع، الذي تم دون تخطيط دقيق ومناسب مع القدرات الإنتاجية، في فرض ضغوط إضافية على موارد الطاقة الوطنية.

علاوة على ذلك، يجدر الإشارة إلى أن نحو 15 دولة مجاورة أو قريبة من إيران تعتمد بشكل أو بآخر على مصادر الطاقة الإيرانية أو ترى في إيران خيارا لتلبية احتياجاتها من الطاقة. وقد أدى ذلك إلى أن تضطر إيران، بجانب تلبية احتياجاتها الداخلية، إلى تأمين جزء كبير من احتياجات هذه الدول، سواء بطرق رسمية أو غير قانونية. ومن الأمثلة على ذلك تهريب الوقود بواسطة المركبات التي تتجه نحو دول مثل تركيا وتركمانستان وأفغانستان وباكستان، حيث يتم تهريب الوقود إما للاستهلاك الشخصي أو للبيع عبر الحدود.

بالإضافة إلى ذلك، فإن جزءا كبيرا من الأجهزة المستهلكة للطاقة في إيران قديم ومهترئ ويستهلك كميات كبيرة من الطاقة، سواء كانت ثلاجات أو مكيفات هواء أو أجهزة منزلية أو سيارات. كما تعاني شبكات توزيع الكهرباء والغاز من معدلات عالية من الهدر. جميع هذه العوامل مجتمعة أدت إلى خلق حالة واسعة من اختلال التوازن في توفير واستهلاك الطاقة.

على سبيل المثال، ذكرتُ خلال برنامج إذاعي شاركت فيه مؤخرا، أن استوديو التسجيل، الذي يعد مساحة صغيرة، كان يستهلك أكثر من 650 وات للإضاءة، بينما كان بالإمكان تقليص هذا الاستهلاك إلى 160 وات فقط. وهذا يعكس عدم الالتزام بتدابير ترشيد الطاقة حتى في المؤسسات الإعلامية والحكومية. 

كذلك، خلال زيارة إلى إحدى القرى القريبة من طهران، لاحظنا استخدام أجهزة قديمة ومستهلكة للطاقة، مثل الثلاجات، والغسالات، و المصابيح التقليدية ذات القدرة 500 وات في الحمامات وساحات المنازل، حيث كان مصباحان فقط يستهلكان نحو كيلو وات من الكهرباء. كل هذه المشاهدات تؤكد أن مسألة إدارة استهلاك الطاقة مغفلة بشدة على كافة المستويات، من الفردي حتى المؤسسي.

سبب آخر مهم لاختلال التوازن الطاقي هو انخفاض أسعار الطاقة في البلاد. فكلما طُرحت مسألة تعديل الأسعار، قوبلت بردود فعل سلبية. بينما تشير الإحصاءات الرسمية وأقوال رئيس الجمهورية إلى أن الحكومة تدفع سنويا أكثر من 150 مليار دولار كدعم للطاقة؛ وهو مبلغ يعادل تكلفة بناء أكثر من 38 مصفاة جديدة.

لتبسيط الفكرة، دعوني أضرب مثالا من علم الفيزياء: هناك ظاهرة تُعرف بـ”الأوعية المترابطة”؛ فإذا اعتبرنا إيران بمثابة خزان أو برميل ضخم للطاقة، فإن أي ثقب أو أنبوب يخرج عبر الحدود يؤدي إلى فقدان الطاقة.

وهذا بالضبط ما يحدث حاليا، حيث يزداد اختلال التوازن مع استمرار هذا النزف سنة بعد أخرى. فإذا كنا ندفع اليوم 150 مليار دولار دعما للطاقة، فقد يرتفع هذا الرقم إلى 200 مليار دولار في العام القادم، ما لم يتم اتخاذ إجراءات إدارية حازمة.

أشرتم إلى سوء الإدارة، لماذا لم تتمكن الحكومة الإيرانية حتى الآن من إدارة هذه الأزمة بشكل صحيح؟

 للأسف، جزء من المشكلة يعود إلى أداء مجلس الشورى الإسلامي. لقد تصرف هذا المجلس بطريقة سعى من خلالها العديد من النواب، سعيا وراء كسب الأصوات والشعبية، إلى معارضة أي إصلاحات هيكلية، خاصة فيما يتعلق بزيادة أسعار الطاقة، بدلا من العمل على ضبط الهدر. هذه النظرة القصيرة المدى والسياسية أدت إلى تأجيل اتخاذ الإجراءات الضرورية وطويلة الأمد لمعالجة الاختلال القائم.

نمط استهلاك الطاقة في إيران مرتفع جدا مقارنة بالمعايير العالمية. لماذا يوجد هذا الفارق الكبير؟

في الدول المتقدمة مثل الدول الأوروبية، حيث عشتُ قرابة عشر سنوات، كانت إدارة الطاقة على رأس أولويات صانعي السياسات والعائلات منذ البداية. أما في إيران، فمنذ عهد الشاه، ونظرا لكون البلاد منتجة للطاقة، ترسخت فكرة خاطئة مفادها أنه بما أن الموارد ملك لنا، يمكننا أن نستهلكها بلا حدود.

 ومن أبرز الأمثلة على ذلك بدء مشروع توصيل الغاز في السبعينيات الميلادية، حيث لم تكن شبكات الغاز آنذاك مزودة بعدادات، ما جعل استهلاك الغاز خارج نطاق السيطرة. واليوم، رغم أن بعض المباني مجهزة بأنظمة إضاءة تعمل بالحساسات، إلا أن مديري الأبنية ما زالوا يقومون بإضاءة الثريات الكبيرة.

أما في القطاع الحكومي فالوضع أسوأ؛ ففي بعض البنوك الحكومية تم تركيب وتشغيل ما يصل إلى 15 جهاز تكييف. وفي بعض الدوائر الحكومية، ورغم برودة الجو في الساعة 8:30 صباحا، تكون المكيفات تعمل بكامل طاقتها. لا توجد إرادة جدية لإدارة الاستهلاك.

من جهة أخرى، تعتبر مسألة تنظيم ساعات العمل أيضا مهمة جدا.. كيف تقيمون هذا الأمر؟

بالفعل، تنظيم ساعات العمل مسألة حيوية. العديد من دول العالم، بما في ذلك بريطانيا التي تُعَدّ مرجعا للساعة العالمية، تغير توقيتها الرسمي خلال الصيف.

 لكن في إيران، عرقل البرلمان تنفيذ هذا التغيير دون اعتبار للتبعات الاقتصادية والاجتماعية للقرار. هذا في حين أن ثقافتنا التقليدية كانت تبدأ العمل مع طلوع الفجر؛ أجدادنا كانوا يبدأون العمل في الساعة الخامسة أو السادسة صباحًا. أما اليوم، فالدوام الرسمي يبدأ من الثامنة أو التاسعة صباحًا، مما يؤدي إلى ذروة استهلاك الطاقة خلال ساعات الحر. هذه القضية تحتاج إلى إدارة واعية ومدروسة.

هل يمكن اعتبار غياب الاستثمار في التكنولوجيا الحديثة ومصادر الطاقة المتجددة من أسباب اختلال الطاقة في إيران؟

بلا شك، عدم الاستفادة من الأنظمة الحديثة ومصادر الطاقة النظيفة يُعد من أسباب تفاقم الاختلال. الكفاءة المنخفضة، وغياب الاستثمار الفعال في مجالات الطاقة الشمسية والرياح وغيرها من مصادر الطاقة المتجددة، جعلت العبء يثقل كاهل المصادر الأحفورية. وهذه المسألة تتطلب تغييرا في الرؤية، ووضع سياسات استراتيجية وعملية على المستوى الوطني.

في ما يتعلق باختلال توازن الكهرباء في إيران، يعتقد البعض أن العقوبات هي السبب الرئيسي.. ما رأيكم؟

لا شك أن العقوبات لها تأثير، لكنها ليست السبب الوحيد. حتى قبل اشتداد العقوبات، كانت هناك أوجه قصور داخلية في العديد من المجالات. على سبيل المثال، في بناء محطات توليد جديدة، لم يكن الاستثمار معقدا فحسب، بل كان هناك أيضا اعتماد مفرط على المعدات الأجنبية. يمكن إجراء حسابات دقيقة لتحديد نسبة المشاكل التي تعود إلى العقوبات، وتلك التي ترجع إلى نقاط الضعف الإدارية والبنيوية لدينا.

ما الإجراءات الواجب اتخاذها لتقليص الاختلال ورفع القدرة الإنتاجية لمواكبة الطلب؟ وما دور القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي في هذا السياق؟

قبل كل شيء، يجب إصلاح البنية التحتية المالية. بنوكنا تحولت عمليا من أدوات للتنمية إلى أدوات للمضاربة: في سوق الأسهم، وفي شراء الأراضي والعقارات. لو كانت هذه البنوك تؤدي رسالتها الاجتماعية الحقيقية، لما وصلنا إلى هذا الوضع. ينبغي توجيه رؤوس الأموال، سواء الكبرى أو الصغرى، عبر البنوك نحو مشاريع حقيقية ذات جدوى وعائد وطني، خصوصا في مجالات الكهرباء والبنية التحتية.

في سبيل تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وتوسيع استخدام الطاقة المتجددة، ماذا يجب على إيران أن تفعل؟

الطاقة النظيفة لها تحدياتها، لكنها ضرورية للغاية. لقد عملت على هذا الموضوع لسنوات طويلة، وما زال سؤال يؤرقني: لماذا لا نستفيد حتى من أبسط أشكال استخدام الطاقة الشمسية؟ على سبيل المثال، سخانات المياه الشمسية، التي لا تتطلب تكنولوجيا معقدة. في دول مثل تركيا، الصين، وحتى سوريا، أصبحت هذه السخانات شائعة.

 أما في إيران، فلا يبدو أن هناك شعورا بالحاجة لاستغلال الشمس. الجميع يتحدث عن محطات الطاقة الشمسية والألواح الكهروضوئية، بينما لا نستفيد حتى من أشكال الطاقة الشمسية البسيطة. إذا أُزيلت العراقيل والعقبات، فمن المؤكد أنه يمكننا الاستفادة من هذا المصدر اللامحدود.

كيف يمكن توجيه الناس نحو الاستهلاك الأمثل للطاقة؟ وما الإجراءات التحفيزية التي ينبغي اعتمادها؟

لحل هذه المشكلات، نحن بحاجة إلى برنامج شامل. لا يمكننا الوصول إلى نتيجة عبر مبادرة أو حملتين مؤقتين. يجب أن يكون لدينا خطط في جميع المجالات، من التعليم إلى تسعير التعرفة، ومن نشر الثقافة إلى التكنولوجيا. إذا تبنينا هذه النظرة الشمولية، فبإذن الله سنحقق النجاح. أما إذا استمررنا في التعامل مع هذه القضايا بشكل جزئي وموسمي، فلن نحقق نتائج تذكر.

كلمات مفتاحية: