الولاية المطلقة 

كتب: مهدي سجادي

من هو الملك أو الرئيس أو رئيس الوزراء أو القائد… من هو الشخص الأول في السلطة بالهيكل السياسي لإيران؟

يُعد الهيكل السياسي لإيران في عهد نظام إيران من الموضوعات التي تجذب انتباه المهتمين بالشأن الإيراني. وبسبب الطبيعة الفقهية – القانونية لتصميم هذا النظام، فإن بعض النقاط الواردة فيه تتسم بخصوصية فريدة وتتطلب تأملا أعمق لفهمها. 

وعلى الرغم من أن بعض الأفراد قد لا يقبلون ببعض أجزاء هذا التصميم أو كليته، فإن مقتضى الأخلاق العلمية يفرض علينا أن نحصل على معرفة دقيقة بمقاصد واضعي هذا النظام ومنظريه؛ حتى يتسنى لنا نقده نقدا صحيحا أو معارضته بشكل دقيق.

من بين الأمور التي تثير الانتباه عند النظرة الأولى إلى الهيكل السياسي في إيران، مسألة رأس النظام، الذي يُشار إليه بمصطلح “الولي الفقيه”.

وقد جاء في المادة الخامسة من الدستور الإيراني ما يلي: “في إيران، تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة بيد الفقيه العادل، المتقي، العالم بأمور زمانه، الشجاع، المدير، والمدبر، الذي يتولى هذا المنصب وفقا للمادة 107 من هذا الدستور”.

كما تلاحظون، فإن “ولاية الأمر” و”إمامة الأمة” هما التعبيران اللذان استخدمهما الدستور للتعبير عن رأس النظام. وهذان المصطلحان لا يختصان بإيران أو بالأدبيات الشيعية وحدها، بل هما مستمدان من الأدبيات السياسية الإسلامية عموما.

أما في المادة السابعة والخمسين من الدستور، فقد استُخدم تعبير “الولاية المطلقة” للفقيه القائم على رأس النظام: “إن السلطات الحاكمة في إيران هي: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، وهي تعمل تحت إشراف ولاية الأمر المطلقة وإمامة الأمة وفقا للمبادئ القادمة في هذا الدستور”.

وفي الوقت ذاته، تشير المادة السادسة من الدستور إلى مكانة آراء الشعب في إدارة شؤون البلاد “تدار شؤون البلاد في إيران بالاعتماد على آراء العامة”.

وهنا يُطرح السؤال: كيف يمكن التوفيق بين مسألة الولاية المطلقة للأمر والاعتماد على آراء الشعب؟ فإذا كانت الولاية لرأس النظام في إيران مطلقة، وكان القائد هو الحاكم المطلق بموجب الدستور، فأين موقع الاعتماد على آراء الشعب؟ وإذا كانت آراء المواطنين مهمة في هذا النظام السياسي، فلماذا تم إقرار الولاية المطلقة لشخص واحد؟

لقد طُرح هذا التعارض منذ تأسيس النظام، بل إن السيد مقدم مراغه‌ای، أحد أعضاء مجلس خبراء الدستور، أشار إلى هذا التعارض أثناء مناقشة المادة الخامسة خلال صياغة الدستور.

وما يلفت الانتباه أيضا، هو أنه بالإضافة إلى هذا النقاش القانوني والأساسي، فقد شهدت العقود الماضية من عمر النظام، خصوصا خلال فترة قيادة خامنئي، مجيء حكومات مختلفة إلى السلطة كانت لها في كثير من المواضيع رؤى مخالفة لرؤية القائد أو الولي الفقيه، بل إن هذه الآراء المعارضة قد جرى تنفيذها في العديد من الحالات.

ومن المعروف، على سبيل المثال، أن الفارق بين آراء رؤساء إيران سواء كان أحمدي نجاد وخاتمي أو روحاني ورئيسي كان كبيرا، كما كان هناك تباين في عدة مناسبات بين توجهات السيد خامنئي وآراء رجال الدولة

وهنا يُطرح سؤال آخر: ما هو معنى الولاية المطلقة بحيث يمكن أن تتحمل هذا الكم من الخلافات؟ هل تعود المسألة إلى ضعف شخص القائد؟ أم أن الفهم العام لهذا المفهوم يحتاج إلى تصحيح، وهل الولاية المطلقة للفقيه تعني ملكية فقيه بغطاء ديني؟

منذ إقرار هذا النظرية وتنفيذها، وحتى اليوم، هناك آراء متباينة حول مسألة “الولاية المطلقة للفقيه”، بعضها متناقض مع الآخر. المسألة هنا ليست قبول أو رفض هذه النظرية، بل البحث في ما يمكن نسبته إلى مصمميها. هذا الخطأ موجود بين المفكرين ووسائل الإعلام الإيرانية وكذلك بين المفكرين خارج إيران.

مفهوم “المطلقة” الذي يستخدم في الأدب الفارسي وكذلك في اللغة العربية، بسبب معناه اللغوي، يثير في الذهن فكرة أن الولي الفقيه في نظرية الولاية المطلقة للفقيه يشبه الملك الذي لا يحده قيد ويفعل ما يشاء. التعبير عن “هو الحاكم المطلق” في بعض الأقاويل يوحي بهذا المعنى.

الولاية المطلقة في هذا السياق لا تختلف عن الاستبداد أو الديكتاتورية أو الملكية، وهي مجرد غطاء ديني يغطى عليها. في هذه الحالة، يجب تنفيذ “ميل” السلطان أو رغبة الولي الفقيه.

بينما الخميني، الذي يُعد من أبرز مؤيدي نظرية الولاية المطلقة للفقيه في إيران المعاصرة، ينفي هذا الأمر بوضوح في مناقشته الفقهية عن ولاية الفقيه، في كتابه الفقهي “كتاب البيع” قائلا “فالإسلام أسس حكومة لا علىٰ نهج الاستبداد المحكّم فيه رأي الفرد وميوله النفسانيّة في المجتمع، ولا علىٰ نهج المشروطة أو الجمهورية المؤسّسة على القوانين البشرية، التي تفرض تحكيم آراء جماعة من البشر على المجتمع. بل حكومة تستوحي وتستمدّ في جميع مجالاتها من القانون الإلهيّ، وليس لأحد من الولاة الاستبداد برأيه، بل جميع ما يجري في الحكومة وشؤونها ولوازمها لا بدّ وأن يكون على طبق القانون الإلهي، حتى الإطاعة لولاة الأمر”. ( ج‌2، ص: 619-618)

بناء على هذا، فإن فكرة الولاية المطلقة للفقيه تستند إلى القانون الإلهي وليس إلى الأهواء الشخصية للفقيه، وكون سلطات الفقيه مطلقة لا يعني أنها غير منظمة أو مشابهة للديكتاتورية والاستبداد. وبالتالي، يبقى السؤال: ما هو المعنى الصحيح لما أصبح معروفا؟ إذا كانت الولاية المطلقة للفقيه ليست استبدادا رأيا، وكان الاعتماد على آراء الشعب في إدارة شؤون البلاد، فما الفرق بين هذا النظام والنظم الديمقراطية السائدة في العالم؟

الولاية المطلقة للفقيه: مصطلح صحفي أم تعبير فقهي؟

على الرغم من وجود اختلافات بين فقهاء الشيعة حول ما إذا كانت ولاية الفقيه مطلقة أم لا، إلا أنه يجب فهم تعبير “الولاية المطلقة” للفقيه في سياق نظريتها الخاصة. فالتعبير “المطلقة”، على خلاف ما قد يتبادر إلى الذهن أو ما يتم تداوله في الأوساط الإعلامية، هو مصطلح فني فقهي مقابل “الولاية المقيدة”.

التوضيح هنا هو أن “ثبوت ولاية الفقيه” كان أمرا مقبولا بين فقهاء الشيعة منذ زمن بعيد. حتى أن الفقيه الشيعي البارز “صاحب الجواهر”، الذي يُعد كتابه مرجعا رئيسيا للفقهاء ويُسمى الفقه الشيعي الحديث نسبة إليه “فقه الجواهري”، يعتبر أن من ينكر ولاية الفقيه لم يذق طعم الفقه. وإن الادعاء بأن “ولاية الفقيه هي إعادة إنتاج الفكر السني تجاه الحكم” غير صحيح. فولاية الفقيه كانت سائدة بين فقهاء الشيعة منذ القديم، وإن كان الخلاف في حدود هذه الولاية ومدى سلطاتها.

بعض الفقهاء، بناء على مبادئهم الخاصة، يرون أن الفقيه الجامع للشرائط يملك الولاية فقط في “الأمور حسبية”، وهي المسائل التي تخص عموم المجتمع الإسلامي، ولا تُركت للإهمال، ولكن لم يتم تحديد متولي خاص لها.

ومجال الأمور حسبية واسع ويشمل مسائل مثل: رعاية الأطفال الأيتام وحفظ أموالهم، دفن المسلم الذي لا أقارب له، حفظ أموال الغائبين، الأوقاف بدون متولي، الوصايا بدون وصي، وصرف الوجوه الشرعية وما شابه.

في المقابل، الفقيه الذي لا يرى أي حدود لولاية الفقيه الجامع للشرائط في “الموضوعات” التي يمكنه التدخل فيها، ويستطيع بناء على المبادئ الإسلامية ممارسة الرأي فيها، يُعتبر قائلا بالولاية “المطلقة” للفقيه.

هذا الفريق يرى أن الموضوعات التي يوليها الولي الفقيه اهتماما تتجاوز الأمور حسبية. بعضهم أيضا يوسع مفهوم الأمور حسبية ليشمل مجالات أوسع مثل: الجهاد، القضايا الاقتصادية، الثقافة، السياسة، الاتفاقات مع الدول الأخرى، القضاء وغيرها من القضايا. في نظرية الولاية المطلقة للفقيه، ومن حق الولي الفقيه التعبير عن رأيه بناء على المبادئ الفقهية والدينية في هذه المواضيع.

إذن، ما يتم تناوله في مسألة الولاية المطلقة للفقيه هو دائر المواضيع والقضايا التي تدخل ضمنها، وليس القيود الأخرى. وحتى في هذه الدائرة، لا يكون الفقيه فعلا ما يشاء، بل يجب أن يكون وفقا لمصلحة المسلمين وللقواعد الإلهية، ولا يجوز له التدخل بناء على ميوله أو مصالحه الشخصية.

 في هذه الحالة، كما يوضح الفقهاء، يتم عزل الفقيه من ولايته إذا تدخل بناء على رغباته الشخصية. بل يجب أن يكون في هذه المواضيع واسعا، مع العلم الكافي بالقانون الإلهي الذي هو “الاجتهاد” في الفقه، بالإضافة إلى العدالة اللازمة لضمان اتخاذ الرأي في إطار مصلحة المسلمين والشرع الإلهي.

الخميني في كتابه الفقهي “كتاب البيع” يوضح هذا قائلا “إن الحكومة الإسلامية بما أنها حكومة قانونية، بل حكومة القانون الإلهي فقط، وجُعلت فقط من أجل تنفيذ القانون، وإقامة العدالة الإلهية بين الناس، فلا بد في الوالي من صفتين، هما أساس الحكومة القانونية، ولا يعقل تحققهما إلا بهما: الأولى: العلم بالقانون. والثانية: العدالة”. (ج‌2، ص: 623)

ولاية الفقيه المطلقة أم مقيدة برأي الشعب؟ أشار بعض الكتاب في شرح ولاية الفقيه المقيدة إلى مسألة “رضا الشعب”، كما تم توضيحها سابقا، وهذا تفسير خاطئ لهذا المصطلح. ولكن بعيدا عن النقاش حول المطلقة والمقيدة، فإن مسألة رضا الشعب في تطبيق ولاية الفقيه، حتى في نوعها المطلقة، كانت مطروحة بين القائلين بها. 

يعتقد البعض أن مشروعية ولاية الفقيه تأتي من ركنين أساسيين، وهما الشروط الثبوتية (العلم والعدالة لدى الفقيه الجامع للشرائط) والشروط الإثباتية (قبول الشعب به كولي للأمر). وفي حال غياب أي من هذين الركنين، يعتبرون ولاية الفقيه غير مشروعة.

لكن الخميني فرق بين “الولاية” و”تولي شؤون المسلمين”. كما تم توضيحه، فإنه يثبت أصل الولاية بوجود “العلم” و”العدالة”، ولكن كحكم شرعي آخر، يشترط تولي شؤون المسلمين وتشكيل الحكومة بقبول أغلبية المسلمين، كما جاء في “البيعة” في المصطلح الإسلامي. 

ففي رده على استفسار من مجموعة من ممثلي القيادة في الأمانة العامة لأئمة الجمعة في جميع أنحاء البلاد، كتب قائلا “الفقهاء الجامعون للشرائط لديهم ولاية في جميع الصور، ولكن تولي شؤون المسلمين وتشكيل الحكومة يتعلق برأي أغلبية المسلمين، كما تم الإشارة إليه في الدستور، وكان في صدر الإسلام يُطلق عليه البيعة مع ولي المسلمين”. (صحيفة الإمام، ج20، ص459)

بناء على هذا المبدأ، في حال عدم قبول الأغلبية، لن تكون مهمة الفقيه تشكيل الحكومة، ولكن تبقى الولاية مشروعة في مجالات أخرى مثل إدارة الأموال الشرعية أو حل النزاعات ونحوها.

بالطبع، في هذا المبدأ، لا يستشير الفقيه الشعب في كل مسألة يتخذ فيها قرارا، لكنه ملزم بمراعاة رغبات الشعب في قراراته. التحدي الصعب للفقيه هو أن يجد الطريق الصحيح بين أحكام الشريعة الإسلامية ورغبات الناس وطاقاتهم ومستوى تدينهم، بما يعود بالنفع على المجتمع الإسلامي.

خلط هذه المسألة بمسألة إطلاق أو تقيد الولاية يؤدي إلى تعقيد فهم المفاهيم الدقيقة في النظام الحقوقي والسياسي في إيران. من المهم أن يتم أي دفاع أو نقد أو رفض لهذه الأمور بعد فهم دقيق لها، حتى يتسنى لنا توقع أن ما هو صحيح وعادل سيتضح.

هل يمكن للولي الفقيه تعليق أحكام الدين؟ من المواضيع التي تم تناولها منذ القدم هي التزاحم بين الأحكام الأولية والثانوية في الدين ودرجة صلاحيات الفقيه في تطبيق الولاية وتعليق بعض الأحكام الأولية مؤقتا. 

هذا الموضوع ليس مرتبطا بفترة إيران فحسب، بل كان مطروحا حتى قبل انتصار الثورة في إيران، حيث استخدم البروجردي، مرجع الشيعة البارز، هذه الصلاحيات في مسألة بناء مسجد أعظم بجانب مرقد السيدة معصومة في قم. عندما واجهوا قبورا في الأرض المخصصة للمسجد كان يجب تدميرها لضمها إلى المسجد. 

لكن لم يكن هناك إمكانية شراء الأرض أو تحديد ورثة بعض القبور، فقرر تدميرها. وهذا رغم أنه من غير المسموح بدون إذن الفقيه إجراء هذا العمل.

الخميني أيضا اعترف بحق الفقيه في اتخاذ مثل هذه القرارات “الحاكم يمكنه هدم مسجد أو منزل يقع في طريق شارع وتقديم تعويض لصاحبه. يمكن للحاكم أن يغلق المساجد في الأوقات الضرورية؛ والمسجد الذي يعتبر ضارا، إذا لم يكن بالإمكان إصلاحه دون هدمه، يمكن هدمه. الحكومة يمكنها إلغاء العقود الشرعية التي أبرمتها مع الناس إذا كانت تتعارض مع مصالح البلاد والإسلام. ويمكن للحكومة أن توقف أي أمر، سواء كان عباديا أو غير عبادي، إذا كان يعارض مصالح الإسلام، طالما أن هذا هو الحال”. (صحيفة الإمام، ج20، ص452)

في الحقيقة، في هذه المسائل والتزاحم بين الأحكام الأولية والثانوية، يتم تحديد القرار الذي يتخذه الفقيه بناء على مصالح الإسلام، وليس بناء على هواه وميوله الشخصية. المسألة تكمن في اتساع دائرة صلاحيات الفقيه الجامع للشرائط. تعليق الأحكام الأولية مؤقتا مثل تعليق الحج، الذي تم تطبيقه بعد حادثة الحج الدموي  تحت قيادة الإمام الخميني، هو أمر مؤقت وليس دائما، ويعتمد على مصالح النظام الإسلامي.

كما تم شرحه، فإن النظام السياسي في إيران قد حدد في رأس هرم الحكم “ولاية الفقيه المطلقة”. وعلى عكس ما يعتقده البعض ويكتبونه، فإن المقصود من “المطلق” في هذا التعبير ليس الفوضى أو التصرف الشخصي بناء على الأهواء. 

“المطلقة” هي مصطلح فني فقهي كان مطروحا في الفقه الشيعي حتى قبل انتصار الثورة الإسلامية. معنى هذا المصطلح هو عدم تقييد نطاق الموضوعات التي يحق للفقيه أن يعبر عن رأيه فيها. وعلى عكس ما يتصور البعض، فإن ما إذا كانت الولاية مطلقة أو مقيدة لا يتحدد بناء على رأي الشعب، بل إن مكانة رأي الشعب في الدستور وفي أسلوب قيادة كل من الخميني والخامنئي على مدار الخمسين عاما الماضية، وكذلك في الفكر الفقهي لعلماء إيران، لها مكانة عالية. 

والاختلاف بين ما تم تنفيذه في إيران من قبل الحكومات المختلفة وبين الآراء التي عبر عنها ولي الفقيه يشير إلى أن ولاية الفقيه المطلقة ليست دكتاتورية، بل هي هيكل يسعى لضمان إسلامية النظام. بغض النظر عن قبول أو رفض المبادئ التي تعتمد عليها، فإن الفهم الصحيح لمفاهيمها يتطلب دراسة دقيقة لآراء القائلين بها، فهي مسألة فنية ومتخصصة وفقهية.