- ربيع السعدني
- متميز
- 200 Views
تحقيق: ربيع السعدني
انفوجرافيك: عاصم مسعد
منذ الثورة على النظام البهلوي عام 1979، واجهت إيران سلسلة من العقوبات الغربية التي استهدفت اقتصادها، سياستها الخارجية، وبرنامجها النووي، هذه العقوبات، التي فرضتها الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، وهيئات دولية مثل الأمم المتحدة، تهدف إلى تغيير سلوك طهران السياسي، لكنها تركت أثراً عميقاً على الاقتصاد والمجتمع الإيراني ككل.
في هذا التحقيق الخاص نتتبع تاريخ فرض هذه العقوبات الغربية، تحليل خسائرها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أبرز التشريعات المناهضة لإيران والتي تحول دون التوصل إلى اتفاق نووي ممكن، تسليط الضوء على التأثيرات الإنسانية والاجتماعية والنفسية، واستكشاف كيفية مواجهة إيران لهذا الحصار الاقتصادي الذي يأكل الأخضر واليابس.
حرب بلا رصاص:
تاريخ أسود من العقوبات الغربية
بدأت العقوبات الغربية على إيران مع أزمة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية بطهران عام 1979، حيث فرضت الولايات المتحدة حظراً تجارياً وتجميداً للأصول الإيرانية بمليارات الدولارات وحظرت التجارة.
يقول خبيران أمريكيان إن أزمة الرهائن التي تعرض لها موظفو السفارة الأمريكية في طهران كان لها تأثير كبير على تشكيل سياسة العقوبات التي تنتهجها واشنطن ضد طهران، وأعلن كيث هيويت، الباحث في السياسة الخارجية بمؤسسة بروكينجز، وريتشارد نيفيو، خبير العقوبات والباحث في مجال الطاقة بجامعة كولومبيا، في مذكرة أن العقوبات الأولى ضد إيران فُرضت بعد أيام قليلة من الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران.
وقع الرئيس الأمريكي آنذاك جيمي كارتر على الأمر التنفيذي رقم 12170، الذي يقضي بتجميد أصول الحكومة الإيرانية في الولايات المتحدة وكانت هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها رئيس أمريكي الصلاحيات المنصوص عليها في قانون الصلاحيات الاقتصادية الطارئة الدولية؛ وبطبيعة الحال، لم تكن هذه هي المرة الأخيرة التي تمارس فيها واشنطن ضغوطاً اقتصادية على إيران؛ بل صدرت ثمانية أوامر تنفيذية ضد إيران، كل منها يبدأ بإعلان “حالة طوارئ وطنية”، ويمر بفرض سياسة الضغط القصوى التي تكبل أي نهضة اقتصادية، وينتهي بحزمة عقوبات مالية ثقيلة.
من العقوبات إلى التفاوض
خلال الثمانينات، استمرت العقوبات بشكل محدود بسبب دعم إيران لجماعات مثل حزب الله وموقفها في الحرب العراقية- الإيرانية، وفرضت حكومات “الدنمارك وبريطانيا وألمانيا الغربية وفرنسا وإيطاليا وكندا” عقوبات على إيران أيضاً وبحسب الباحثين الأمريكيين فإن هذه العقوبات ألحقت أضراراً باهظة بإيران.
وقد قدرت إحدى الدراسات أن إيران تكبدت خسائر تقدر بنحو 3.3 مليار دولار نتيجة للعقوبات خلال الفترة بين عامي 1980 و 1981 وكان الإجراء الأمريكي الأكثر فعالية هو الاستيلاء على الأصول الإيرانية، الأمر الذي أدى فعلياً إلى إزالة 12 مليار دولار من الأصول الإيرانية من متناولها وفي نهاية المطاف، أقنعت هذه الضغوط المسؤولين الإيرانيين بالتفاوض، وبعد توقيع اتفاق الجزائر، تم إطلاق سراح الرهائن في 20 يناير/كانون الثاني 1981.
6 محطات من الحصار
1. فترة الرهائن (1979-2001): في أعقاب عملية احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية، عندما صادرت الولايات المتحدة 12 مليار دولار من أصول الحكومة الإيرانية.

2. فترة الحرب الإيرانية العراقية (1982-2004): نظمت إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان حركة دولية واسعة النطاق لمنع بيع المعدات العسكرية لإيران من أجل منع إيران من الفوز في الحرب ضد العراق.
3. فترة إعادة الإعمار (1989-2010): أمرت محكمة لاهاي الولايات المتحدة في نوفمبر/ كانون الثاني 1991 بدفع 278 مليون دولار لإيران كتعويض عن المدفوعات الإيرانية المسبقة للعقود العسكرية الملغاة
4. فترة كلينتون أو الاحتواء المزدوج (1993-2003): حولت وزارة الخارجية الأمريكية 657 مليون دولار من الأصول الإيرانية المجمدة لإيران، ولكن 900 مليون دولار وجميع مطالبات إيران بـ “برنامج المشتريات العسكرية الأجنبية”، لا تزال قائمة.
5. بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 (تفجير برجي التجارة في نيويورك): تزايدت مخاوف الحكومة الأمريكية والرأي العام من خطر الإرهاب الدولي، وانتشار الأسلحة النووية، وأداء النظامين العراقي والإيراني بشكل غير مسبوق.
6. قرارات مجلس الأمن: حتى الآن، صدرت ستة قرارات من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ضد إيران بشكل مباشر، أولها يعود إلى عام 2006.
3 قوانين أمريكية تكبل نجاح المفاوضات النووية
في حين يحاول الجانبان في المفاوضات النووية بين مسقط وروما جاهدين التوصل إلى اتفاق نهائي، ويبدو أن التوصل إلى هذا الاتفاق سيكون في متناول اليد قريبا، لكن المدقق في النظام القانوني الأمريكي، سيكتشف أن هناك ثلاثة قوانين عقوبات محددة ضد إيران ما يشكل تلقائيا رادعاً لأي اتفاق بين أي حكومة في إيران وأي حكومة في الولايات المتحدة.
1▪︎ قانون (ISA): في التسعينات، تصاعدت العقوبات مع قانون إيران وليبيا لعام 1996 الأمريكي والمعروف اختصاراً باسم (ILSA)، وفي وقت لاحق، في عام 2006، ومع التغيير في السياسة النووية في ليبيا، تم إخراج البلاد من نطاق قانون عقوبات (ILSA)، والذي كان يسمى آنذاك قانون عقوبات إيران (ISA)، كان هذا القانون محدودًا في البداية بخمس سنوات، وتم تمديده عدة مرات ولكن أخيرا، في الأول من ديسمبر/كانون الأول 2016، تم تمديد قانون (ISA) لمدة عشر سنوات أخرى، ويستهدف قطاع الطاقة الإيراني والذي يمكن اعتباره في حد ذاته عقبة كبيرة أمام التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وبموجب هذا القانون يُحظر على أي شركة في العالم استثمار أكثر من 40 مليون دولار سنوياً في تطوير قطاع النفط والغاز في إيران.
2▪︎ قانون (INARA): يعد قانون مراجعة الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 (INARA) الذي يتطلب من الولايات المتحدة تقديم أي “اتفاقية” جديدة تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني إلى الكونجرس لفترة مراجعة مدتها 60 يومًا، ويمكن خلالها للكونجرس تمرير قرار مشترك بالرفض وهذا من شأنه أن يمنع أي اتفاق نووي جديد مع طهران من الدخول حيز التنفيذ.
3▪︎ قانون (CATSA): التشريع الثالث المناهض لإيران، فيعرف بقانون مواجهة أعداء أمريكا من خلال العقوبات لعام 2017 (CATSA)، والذي تم إقراره بالفعل قبل إتمام الاتفاق النووي الأولي مع إيران، وتم إقراره بعد التصديق على خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) وخلال إدارة ترامب في عام 2017.
حصار بالمراسيم: كيف عزلت أوامر ترامب إيران عن العالم؟

بالإضافة إلى القوانين الثلاثة المناهضة لإيران، فإن الأوامر التنفيذية والمراسيم الصادرة عن رئيس الولايات المتحدة فرضت أيضًا عقوبات إضافية على طهران وهي تتمتع بنفس قوة القانون في النظام القانوني الأمريكي؛ ومن بينها:
1. الأمر التنفيذي رقم (13846) الصادر في 6 أغسطس/ آب لعام 2018- بإعادة فرض العقوبات بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع القوى الكبرى (JCPOA) في مايو/ أيار لعام 2018، والذي أعاد فرض العقوبات على قطاعات النفط، السيارات، والمعادن الثمينة، إضافة إلى حظر التعاملات بالدولار مع إيران ما أدى لاستبعادها من نظام SWIFT البنكي، مما عزلها عن النظام المالي العالمي وتسبب في انخفاض قيمة الريال الإيراني وزيادة التضخم وهذا ما دفع طهران لتكثيف أنشطة تخصيب اليورانيوم كرد فعل على الضغوط، مما زاد من التوترات الإقليمية.
2. الأمر التنفيذي رقم (13902) والصادر في 10 يناير/ كانون الثاني لعام 2020 – بفرض عقوبات على قطاعات البناء، التصنيع، المنسوجات، والتعدين في الاقتصاد الإيراني والذي ساهم في تقليص صادرات إيران النفطية إلى مستويات شبه صفرية.
3. المذكرة الرئاسية للأمن القومي (NSPM-2) التي أصدرها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 4 فبراير/ شباط 2025 والتي ما تزال سارية حتى الآن، وتهدف إلى إعادة تفعيل حملة الضغوط القصوى ضد النظام الإيراني، ولها نفس قوة القانون طالما لم يتم إثبات تناقضها مع الدستور أو العديد من القوانين الأمريكية وإلغائها من قبل السلطات المختصة مثل المحكمة العليا الفيدرالية الأمريكية.
لكن برغم العقوبات، والمذكرات الرئاسية الأمريكية تمكنت إيران من زيادة صادرات النفط إلى الصين (1.74 مليون برميل يوميًا في فبراير/ شباط 2025) عبر عمليات نقل من سفينة إلى أخرى ومحطات استقبال بديلة.
كيف دفعت إيران ثمن العقوبات؟

1. الخسائر الاقتصادية.. من توريد النفط إلى نار التضخم: تُعد إيرادات النفط العمود الفقري للاقتصاد الإيراني، وقد انخفضت صادرات النفط من 2.5 مليون برميل يومياً في 2011 إلى أقل من 400 ألف برميل في 2020، وفقاً لتقديرات وكالة الطاقة الدولية، وفي هذه الحالة، إذا استهدف ترامب صادرات النفط الإيرانية واستطاع إيقاف زيادة البلاد بمقدار مليون برميل يوميا، فإنه سيخفض الصادرات بمقدار الثلثين، وهو ما قد يكلف إيران نحو 30 مليون دولار خسائر سنوية، وقد تتفاوت المكاسب والخسائر المحتملة الناجمة عن هذه العقوبات اعتمادًا على الخصم الذي تقدمه إيران للمشترين مقابل إمداداتها النفطية.
وبحسب بيانات “بلومبرج”، لتتبع ناقلات النفط وتقديرات المنظمات التجارية، فإن التحايل على العقوبات وتخفيف تطبيق العقوبات الأمريكية على مدى السنوات الأربع الماضية سمح لإيران بزيادة صادراتها النفطية بما يصل إلى مليون برميل يوميا، مع ذهاب معظم إمداداتها إلى الصين.
2. تدهور في قيمة العملة الوطنية: كما قفزت معدلات التضخم إلى أكثر من 45% سنوياً في بعض الفترات، وفقد الريال الإيراني أكثر من 80% من قيمته مقابل الدولار بين عامي 2018 و2023 وبحسب هذه الأرقام فإن انهيار قيمة العملة الوطنية ليس مجرد أزمة اقتصادية فحسب؛ إنما أثر هذا الاتجاه على كافة الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية في البلاد، إذا لم تنفذ الحكومة بسرعة إصلاحات عميقة وجذرية، فإن مستقبلا أكثر قتامة ينتظر الاقتصاد وسبل عيش الناس.

3. الخسائر الاجتماعية.. من النفط إلى آتون الفقر والبطالة: ارتفعت معدلات البطالة في طهران إلى 12% بحلول عام 2023، وفقاً لبيانات البنك الدولي، ووصل العدد الحقيقي للعاطلين عن العمل 20 مليون شخص، وفقا وكالة أنباء “خبر أونلاين” من بينهم نصف العاملين بأجر يقعون تحت خط الفقر مع تأثير أكبر على الشباب الذس صار امتلاك منزلا حلمًا بعيد المنال للعديد منهم، وأصبح الإيجار مشكلة كبيرة بالنسبة للطبقات ذات الدخل المنخفض والمتوسط بسبب ارتفاع الإيجارات بنسبة 400%، وارتفاع أسعار المساكن بنسبة تزيد عن 700% خلال السنوات الخمس الماضية، ولذلك تفاهمت معدلات الفقر، حيث ارتفعت نسبة السكان تحت خط الفقر من 20% إلى أكثر 30% في بعض المناطق، خلال أقل من عقد وبحسب تقارير غير رسمية، يعيش أكثر من 50% من الإيرانيين تحت خط الفقر، وفقاً لتقارير محلية.
4. الخسائر السياسية.. العقوبات تغرق إيران في الفقر والفوضى: تسببت العقوبات الغربية في عزل إيران دبلوماسياً عن محيطها الإقليمي والدولي، مما دفعها لتعزيز الاعتماد على روسيا والصين، لكن داخلياً، أدت الأزمات الاقتصادية إلى اشتعال احتجاجات شعبية، مثل احتجاجات 2019 و2022، التي قوبلت بقمع وعنف حكومي، مما زاد من وتيرة التوتر بين الدولة والمواطنين.
5. التأثير الإنساني.. من النووي إلى القتل البطئ: على الرغم من ادعاء الدول الغربية أن العقوبات لا تستهدف المدنيين، فإن التأثير الإنساني كان واضحاً في نقص الأدوية والمعدات الطبية كان من أبرز النتائج، تقرير لـ”هيومن رايتس ووتش” عام 2019 وثق صعوبة استيراد أدوية السرطان والأمراض المزمنة بسبب القيود المصرفية، وخلال جائحة كوفيد-19، عانت إيران من نقص اللقاحات والأجهزة الطبية، مما ساهم في ارتفاع معدلات الوفيات.
6. الفئات الضعيفة.. حياة على الهامش: تأثرت بشكل خاص، الأطفال في المناطق الفقيرة عانوا من سوء التغذية، حيث أشارت تقارير الأمم المتحدة إلى ارتفاع هذه الحالات بنسبة 15% بين 2018 و2022، كما أن اللاجئين الأفغان، الذين يتجاوز عددهم 3 ملايين في إيران، واجهوا تدهوراً في الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية.

7. انقطاع الكهرباء والوقود، الناجم عن نقص الاستثمار في البنية التحتية، أثر على الحياة اليومية، حيث عانت مستشفيات حكومية من انقطاع التيار الكهربائي أثناء إجراء العمليات الجراحية ما تسبب في إزهاق أرواح الآلاف عبر العقود الماضية.
طهران تنزف: العقوبات وأزمة الإنسانية
1. معاناة أب في طهران: أدوية السرطان من السوق السوداء
في عام 2021، تحدث “علي” (اسم مستعار لحماية هويته)، وهو أب يبلغ من العمر 45 عاماً من طهران، إلى منظمة غير حكومية دولية متخصصة في الإغاثة الإنسانية والمساعدات الطبية، كان ابنه “حسين”، البالغ من العمر 8 سنوات، يعاني من سرطان الدم (اللوكيميا).
وصف علي كيف أصبح العثور على الأدوية الكيماوية الحيوية بمثابة كابوس بعد تشديد العقوبات الأمريكية عام 2018، العقوبات على القطاع المصرفي جعلت استيراد الأدوية شبه مستحيل، واختفت الأدوية من الصيدليات الحكومية، فاضطر علي للتعامل مع السوق السوداء، حيث اشترى أدوية بأسعار تجاوزت 10 أضعاف قيمتها الأصلية.
“كنت أبيع كل شيء: مجوهرات زوجتي، مدخراتنا، حتى أثاث المنزل، فقط لأحافظ على حياة ابني”، ينذكر علي بنبرة حزينة مكسورة، وفي إحدى المرات، اشتريت دواءً تبين لاحقاً أنه مغشوش، مما أدى إلى تدهور حالة حسين!”.. الضغط النفسي والمالي دفع علي إلى الإرهاق واليأس، بينما كانت زوجته تعاني من الاكتئاب بسبب شعورها بالعجز، “نحن لا نفهم السياسة، لكن لماذا يعاقبون أطفالنا؟”.
2▪︎ طبيبة في شيراز: المستشفيات بدون معدات
الدكتورة “مريم”، طبيبة أورام في مستشفى عام بمدينة شيراز، شاركت تجربتها مع فريق من منظمة الصحة العالمية خلال زيارة ميدانية في عام 2020 – وقت جائحة كوفيد- 19- وصفت كيف أصبحت المستشفيات تعاني من نقص حاد في المعدات الطبية، مثل أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي وقطع غيار أجهزة العلاج الإشعاعي، بسبب حظر الواردات التكنولوجية.
“كنا نعالج مرضى السرطان بأجهزة قديمة تتعطل باستمرار، وأحياناً نضطر لإيقاف العلاج لأسابيع”، قالت مريم، في إحدى الحالات، فقدت مريضة شابة، تبلغ 22 عاماً، حياتها بعد تأخر تشخيص ورم دماغي بسبب غياب أجهزة تصوير حديثة.

“كنت أرى عائلات تتوسل للحصول على علاج، لكن يدي كانت مقيدة”، أضافت مريم، كما واجهت الطبيبة انخفاض راتبها بسبب الأزمة الاقتصادية، مما دفعها للتفكير في الهجرة إلى دولة خليجية، لكنها بقيت لشعورها بالمسؤولية تجاه مرضاها:
“العقوبات لا تضرب الحكومة، بل تضربنا نحن والمرضى”، قالت بنبرة يملؤها الإحباط.
3▪︎ أم عزباء في أصفهان: سوء التغذية يهدد أطفالها
“فاطمة”، أم عزباء تبلغ 38 عاماً من أصفهان، تحدثت إلى منظمة أممية في 2022 (تقرير برنامج الغذاء العالمي عن ارتفاع معدلات سوء التغذية في إيران) ورصد تأثير التضخم وارتفاع الأسعار على عائلتها، بعد وفاة زوجها في حادث سيارة، أصبحت فاطمة المعيلة الوحيدة لطفليها، محمد (10 سنوات) ومريم (6 سنوات) مع ارتفاع التضخم إلى 40% وانخفاض قيمة الريال، لم تعد فاطمة قادرة على شراء اللحوم، الفواكه، أو حتى الحليب بانتظام.
“كنت أعمل خياطة، لكن الزبائن أصبحوا أقل، والمواد أغلى”، لاحظت فاطمة أن أطفالها أصبحوا أكثر نحافة ويعانون من التعب المستمر، عندما أخذتهم إلى عيادة محلية، أخبرها الطبيب أن محمد يعاني من سوء التغذية ونقص الحديد، مما يؤثر على نموه، قالت بكل حسرة: “كنت أبكي كل ليلة لأنني لا أستطيع إطعامهم كما يستحقون”، هنا اضطرت للاعتماد على برامج دعم حكومية تقدم خبزاً وأرزاً مدعومين، لكنها وصفت الطوابير الطويلة والفساد في التوزيع. في النهاية، بدأت فاطمة ببيع ملابسها القديمة لشراء طعام، لكنها شعرت أن “الأمل يتلاشى يوماً بعد يوم”.
4▪︎ لاجئ أفغاني في مشهد: الحياة على الهامش
“رحيم”، لاجئ أفغاني يبلغ 30 عاماً، يعيش في مدينة مشهد مع عائلته منذ هروبهم من أفغانستان في 2015، تحدث إلى صحفي مستقل ضمن تقرير لمنظمة الهجرة الدولية، عام 2023 عن التحديات التي واجهها بسبب العقوبات كعامل بناء، كان رحيم يكسب أجراً زهيداً، لكن ارتفاع الأسعار قلص دخله إلى النصف من حيث القوة الشرائية: “كنا نعيش على الأرز والبطاطس، وأحياناً لا نجدهم حتى”.
وقال: إن أطفاله الثلاثة لم يتمكنوا من الالتحاق بالمدارس الحكومية بانتظام بسبب نقص الموارد وتكاليف التنقل، زوجته، التي كانت تعاني من مرض السكري، لم تتمكن من الحصول على الأنسولين بانتظام بسبب نقصه في الصيدليات، في 2022، تدهورت حالتها الصحية، واضطر رحيم لبيع هاتفه المحمول لدفع تكاليف علاجها، لكنها توفيت بعد أشهر.
“كنت أشعر أنني أعيش في سجن، لا أمل ولا مستقبل”، قال رحيم: كلاجئ، شعر أن العقوبات جعلت حياته في إيران أقسى، حيث أصبحت الخدمات الأساسية شحيحة للجميع.
5▪︎ طالب جامعي في طهران: حلم الهجرة
“بهرام”، طالب هندسة يبلغ 22 عاماً في جامعة طهران، شارك قصته مع منظمة طلابية دولية في 2024، كان يحلم بإكمال دراسته في الخارج، لكن العقوبات جعلت ذلك مستحيلاً، لكن انخفاض قيمة الريال جعل رسوم الجامعات الأجنبية باهظة، والقيود المصرفية منعت تحويل الأموال للتقديم.
في الوقت نفسه، تأثرت دراسته في إيران بنقص الموارد: “كنا نستخدم برامج قديمة في مختبرات الحاسوب، وأحياناً لا توجد كهرباء لتشغيلها”، قال: لتغطية نفقاته، عمل بهرام نادلاً في مقهى، لكنه لاحظ أن الأزمة الاقتصادية قللت من عدد الزبائن.
بدأ يشعر باليأس، خاصة بعد رؤية أصدقائه يهاجرون إلى تركيا أو أوروبا. “العقوبات سرقت أحلام جيلي”، قال بهرام: في النهاية، قرر التخلي عن طموحه الأكاديمي والتركيز على إيجاد عمل مستقر في إيران، لكنه شعر أن الفرص تتقلص يوماً بعد يوم.
قصص أخرى عديدة مماثلة تكررت في تقارير منظمات إنسانية، مما يعكس معاناة الفرد العادي في إيران من تأثير العقوبات بعيداً عن الصراعات السياسية.
استراتيجيات المواجهة
واجهت طهران العقوبات “الأمريكية- الأوروبية” بمزيج من السياسات الاقتصادية، التحالفات الدولية، والتكيف الاجتماعي، عبر 4 محاور رئيسية للتخفيف من تأثير فرض العقوبات على الشعب الإيراني؛

اقتصادياً، أطلقت إيران ما يُعرف بـ “اقتصاد المقاومة” عام 2012، التي ركزت على الاكتفاء الذاتي وزيادة الإنتاج المحلي في الصناعات الغذائية والتكنولوجية ولجأت إيران إلى تصدير النفط عبر قنوات غير رسمية، مثل التهريب إلى الصين وسوريا، مما ساعد في الحفاظ على تدفق محدود للإيرادات، وبرامج دعم السلع المدعومة، مثل الخبز والوقود، خففت من الأزمة الاجتماعية، رغم الفساد المرتبط بها.
دبلوماسياً، عززت إيران من علاقاتها مع الصين بتوقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع الصين (2021) جلبت استثمارات بقيمة 400 مليار دولار على مدى 25 عاماً، ومع روسيا لتأمين التجارة والدعم العسكري عبر التوقيع على الاتفاقية الاستراتيجية الشاملة المشتركة مع موسكو في 17 يناير/ كانون الثاني 2025، حيث يتجاوز سقفها الـ600 مليار دولار.
كما ساهمت كل من تركيا وقطر في تخفيف الضغط عبر قنوات تجارية محدودة وعلى صعيد المفاوضات، استمرت إيران في الحوار مع القوى الغربية حول الاتفاق النووي، منذ توقيع اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) مع القوى الغربية الكبرى عام 2015، والذي أدى إلى رفع جزئي للعقوبات مقابل قيود على البرنامج النووي رغم التقدم البطيء في المحادثات مع أوروبا والولايات المتحدة حتى آخر جولتين في إسطنبول ومسقط في مايو/ آيار 2025.
اجتماعياً، برزت المبادرات المجتمعية في طهران لسد الفجوة، وقدمت منظمات غير حكومية محلية مساعدات طبية وتعليمية، بينما لجأت عائلات إلى الاقتصاد غير الرسمي لتأمين احتياجاتها ومع ذلك، كما شهدت إيران هجرة أدمغة كبيرة، حيث غادر آلاف المتخصصين البلاد بحثاً عن فرص أفضل، مما أثر على القطاعات الحيوية مثل الطب والهندسة.

إعلامياً، عبر الدعاية والعلاقات العامة: هناك تقارير تشير إلى أن إيران حاولت تحسين صورتها في الغرب من خلال التواصل مع وسائل إعلام ومنظمات دولية، لكن لا توجد أدلة واضحة على تمويل جماعات ضغط غربية “لوبي” محددة أنفقتها إيران لتخفيف العقوبات، مع نجاح محدود.
هذه الاستراتيجيات الأربع تبرز قدرة إيران على التكيف، لكنها لم تعوض بالكامل الخسائر المتراكمة، خاصة على المواطنين العاديين ورغم ذلك، تُظهر القدرة على الصمود من خلال استراتيجيات اقتصادية ودبلوماسية مبتكرة، لكن هذا الصمود جاء على حساب استقرارها الاجتماعي طويل الأمد.