خرمشهر.. من ملحمة التحرير إلى واقع التهميش

في ذاكرة كل إيراني، لا تزال خرمشهر تُستحضر كرمز للمقاومة والانتصار في واحدة من أعقد حروب القرن العشرين، تلك المدينة التي كانت عنوانا للصمود في الحرب التي استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران، تحوّلت اليوم إلى عنوان للتهميش والإهمال، من شوارعها المتصدعة إلى بنيتها التحتية المهترئة، ومن بطالتها العالية إلى شبابها المهاجر، يعيش سكان خرمشهر اليوم شعورا عميقا بالخذلان، كأن الدولة التي احتفت بهم في كتب التاريخ والاحتفالات السنوية قد نسيتهم تماما في تفاصيل الحياة اليومية.

من الازدهار إلى الجرح

تقع مدينة خرمشهر في جنوب محافظة خوزستان على بعد 1100 كم من طهران و125 كم من الأهواز، على ملتقى نهري كارون والأروند، بمساحة تبلغ 67.5 كم مربع، وقد شكّلت على مرّ العقود نقطة استراتيجية في الجغرافيا الإيرانية، سواء اقتصاديا أم عسكريا. فقبل الثورة الإيرانية في العام 1979، كانت المدينة من بين أكثر المدن الإيرانية تطورا، بفضل مينائها الحيوي القريب من الخليج، وموقعها الذي ربط إيران بالعراق والخليج، كما كان سكان المدينة يتمتعون بدخل مرتفع نسبيا، وبنية تحتية متقدمة، ومستوى خدمات يُحسدون عليه مقارنة ببقية المحافظات الحدودية.

A long shot of a river

AI-generated content may be incorrect.

ويعود تاريخ مدينة خرمشهر إلى عام 163 قبل الميلاد، فقد كانت خرمشهر قبل الحرب العراقية الإيرانية أول وأكبر ميناء في إيران والشرق الأوسط، وهي اليوم ثاني ميناء للحاويات بعد ميناء الشهيد رجائي، والذي شهد انفجارا كبير في مايو/أيار 2025، وتضم 13 رصيفا للتفريغ والنقل، كما تمتعت المدينة بأهمية اقتصادية وموقع استراتيجي، نظرا إلى ثرواتها النفطية الهائلة، ونهرين من المياه العذبة، واتصالها بالخليج عبر نهر أروندرود.

untitled

ومن أبرز الأدلة على أهمية خرمشهر الاستراتيجية، استخدام قوات الحلفاء للمدينة خلال الحرب العالمية الثانية كنقطة عبور لإرسال الأسلحة إلى الجبهة السوفييتية، كما أسّس البريطانيون قاعدة بحرية في المدينة وطوّروا منشآتها.

A group of people standing on a building

AI-generated content may be incorrect.

في أكتوبر/تشرين الأول 1980 سقطت خرمشهر في يد الجيش العراقي بعد 34 يوما من مقاومة القوات العراقية، ومع احتلال المدينة، تحوّل تحرير خرمشهر إلى الحلم الأكبر الإيرانيين، ومنذ سبتمبر/أيلول 1980 وحتى يونيو/حزيران 1982، لم تنجُ خرمشهر من القصف العراقي، الذي أظهر عدوانية وتدمير شامل لكل معالم الحياة، حتى لم يتبق من المدينة إلا أنقاضها.

اصفهان| پشت‌پرده سقوط و فتح خرمشهر به روایت فرماندهان عراقی / جهانیان نسبت به جنایت‌های بعثی‌ها به گریه افتاد‌ند

وفي مايو/أيار من العام 1982 تمكّنت القوات الإيرانية من تحرير مدينة خرمشهر من قبضة القوات العراقية، ذلك بعد 578 يوما من الاحتلال، ولم يكن ذلك مجرد نصر عسكري، بل لحظة مفصلية غيّرت مجرى الحرب، ورفعت من معنويات الإيرانيين، بل كرّست في وجدانهم الجماعي رمزا للبطولة والكرامة الوطنية.

آزادی خرمشهر؛ حماسه‌ای که اقتدار ملی ایران را به جهان ثابت کرد

فعبارة روح الله الخميني، قائد الثورة الإيرانية، الشهيرة بعد تحرير المدينة والتي كانت “حرّر الله خرمشهر” لم تكن مجرد جملة دينية، بل تحوّلت إلى شعار وطني، يُردَّد في الكتب المدرسية، وفي الاحتفالات السنوية، وعلى لسان المسؤولين في خطاباتهم الرسمية، من حينها أصبحت المدينة رمزا للانتصار.

وقد خُصص يوم 3 خرداد في التقويم الإيراني، الموافق 24 مايو/أيار، يوما وطنيا لتخليد تحرير خرمشهر، يبث فيه الأناشيد الحماسية، وتُنشر فيه الصور الأرشيفية للمقاتلين، وتُقام فيه فعاليات ثقافية، لكنها فعاليات تبدو اليوم وكأنها تحيي ذكرى مدينة أخرى، غير تلك التي يعرفها سكان خرمشهر اليوم.

3 خرداد؛ سالروز آزادسازی خرمشهر

خرمشهر الآن.. لماذا يشعر أهلها بالإجحاف؟

رغم كل هذه الرمزية، فإن سكان خرمشهر يعيشون واقعا مختلفا تماما، فالمدينة التي تفتخر بها الدولة في أدبياتها، تعاني من تدهور اقتصادي واجتماعي واضح، بل تحولت في أعين ساكنيها الأصليين إلى مدينة أشباح، فيقول أحد مواطني خرمشهر: “تمرّ الذكرى السنوية لتحرير المدينة، وتُملأ التلفزيونات بصور الأبطال وأغاني النصر، ولكن حين نفتح صنابير المياه في بيوتنا، لا نجد ماء صالحا للشرب. وحين نبحث عن فرصة عمل، لا نجد سوى أبواب مغلقة”.

درد خرمشهر

وخلال مقابلات نُشرت مؤخرا مع بعض سكان خرمشهر، تحدّث هؤلاء عن ظلم تاريخي مستمر، وعبّروا عن شعورهم بأن الدولة تكتفي بتخليد المدينة في المناسبات الخطابية، دون أن تُقدّم شيئا ملموسا لهم، فيقول أحد السكان “نُذكَر فقط في عيدها، وبعدها لا أحد يتذكرنا. لا خدمات، لا عمل، لا مستقبل. كيف نصدق أنّ هذه الدولة تعتبرنا مدينة البطولة؟”، ويضيف آخر: “عشنا الحصار، وعشنا الحرب، ودفنا شهداءنا بأيدينا، ثمّ عندما عاد السلام، أعطونا النسيان”.

اليوم، تعاني المدينة من نقص حاد في الخدمات الأساسية الكهرباء والماء والطرق والخدمات الصحية، إضافة إلى بطالة واسعة دفعت كثيرا من شباب المدينة إلى الهجرة نحو طهران أو دول الجوار الخليجي، أما الميناء الذي كان ذات يوم شريانا اقتصاديا حيويا، فقد فقد أهميته، وتحول إلى منشأة شبه مهجورة بفعل السياسات المركزية، وسوء الإدارة المحلية.

وتشير تقارير محلية إلى أنّ بعض مشاريع الإعمار التي أُطلقت في خرمشهر بعد الحرب لم تُستكمل، وأنّ الأموال التي خُصّصت للمدينة ضاعت في دهاليز الفساد وسوء التخطيط. كما أن القوانين المركزية لم تُمنح المحافظة ما يكفي من الصلاحيات لتتمكن من إدارة شؤونها بشكل مستقل، ما جعلها عالقة بين وعود الحكومة المركزية، وعجز الإدارات المحلية.

وبهذا الشأن، قال مصطفى موسوي، رئيس غرفة تجارة خرمشهر، في مقابلة مع صحيفة دنياي اقتصاد، الخميس 29 مايو/أيار 2025، أن حجم التجارة في بندر خرمشهر قبل ثورة 1979 كان يُقدّر بين 8 و10 ملايين طن سنويا، وكان من أكبر الموانئ في البلاد. وكان الوضع الاقتصادي للمدينة قبل اندلاع الحرب، مدعوما بقدراتها ومينائها الرئيس، إلا أنه خلال الحرب، توقفت الأنشطة الملاحية في خرمشهر تماما لثماني سنوات.

اتاق خرمشهر | اتاق ایران آنلاین

ويتابع موسوي أنه خلال العقود التالية، لم تتجاوز حصة خرمشهر من الصادرات نحو 3.5 ملايين طن، وهذا الرقم تحقق في بعض السنوات التي سبقت انتشار فيروس كورونا، وأثناء الجائحة حينما أُغلقت الحدود البرية، واضطر العديد من التجار إلى تصدير بضائعهم إلى العراق عبر هذا المنفذ البحري، أما في السنوات القليلة الماضية، شهدت التجارة الخارجية في خرمشهر نموا ملحوظا، حيث ارتفع حجم الصادرات إلى نحو 4 ملايين طن، إلا أن حصة الواردات لا تزال محدودة، ولا تتجاوز 500 ألف طن.

وأشار إلى أن أكبر العقبات أمام الاستفادة من إمكانات الميناء هي: عدم تعميق مجرى نهر الأروند، خصوصا عند المصب، ما يمنع دخول السفن الكبيرة، كما أن وجود 15 سفينة غارقة في مجرى الأروند يعيق مرور هذه السفن، مضيفا أن كل عام في شهر خرداد، يُعاد تسليط الضوء من قبل السياسيين على موقع خرمشهر الاستراتيجي، وتُطلق وعود لحل مشكلات الميناء، لكنها لا تتحقق.

في السياق نفسه، يلاحظ الباحثون في الشأن الإيراني وجود فجوة بين الذاكرة الرسمية التي تتغنى بانتصار خرمشهر، والذاكرة الشعبية التي تعيش واقع الإهمال، فيما تصر الدولة على استخدام خرمشهر كرمز، لكنها لا تتعامل معها كمدينة حقيقية لها سكان واحتياجات وأحلام.

هذا التناقض الصارخ بين الرمزية البطولية والواقع البائس هو ما يجعل شعور سكان خرمشهر بالإجحاف مضاعفا، فهم لا يطالبون بمعاملة خاصة، بل فقط بأن يكون للبطولة معنى فعلي في حياة الناس، لا مجرد ذكرى سنوية على شاشة التلفاز.

خرمشهر ليست مجرد صفحة في كتاب التاريخ، بل مدينة حية، تنبض بالناس الذين عاشوا مآسي الحرب، وشاركوا في صنع النصر، ويستحقون حياة تليق بتضحياتهم. ما تعانيه اليوم من تهميش ليس فقط أزمة محلية، بل امتحان لصدق الرواية الوطنية الإيرانية.