- دنيا ياسر
- 11 Views
كتب: أمير عباس هدايت
في قلب سوق طهران، ثمّة مكان يكتسب نبضا مختلفا في يوم عرفة. “حسينية باعة الملابس”، وهي قاعة واسعة تقع في حي السوق، وتُعدّ طَوال العام مركزا للعزاء والمناسبات الدينية الخاصة بالتجار والمؤمنين التقليديين في العاصمة، تحوّلت في التاسع من ذي الحجة، الموافق 5 يونيو/حزيران 2025، إلى ملتقى روحي يجتمع فيه الناس على دعاء عرفة.
يتقدّم هذه المراسم الصوت العذب والمألوف للحاج “منصور أرضي”، المنشد الإيراني الشهير، الذي اقترن اسمه بدعاء عرفة لدى ملايين الإيرانيين. هذا المنشد المُسن، بصوته المرتجف، وألفاظه الشجية، وأسلوبه المميّز، لطالما أيقظ القلوب وأثار المشاعر على مدى سنوات طويلة.

يوم عرفة هو بداية مناسك الحج، ويأتي قبل عيد الأضحى بيوم واحد. وقد وردت في المصادر الروائية الشيعية أعمال مستحبّة لهذا اليوم، أبرزها الدعاء والاستغفار. كما أوصت الروايات كثيرا بزيارة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وقراءة دعاء عرفة في هذا اليوم.
وبحسب الأحكام والروايات الواردة، يجب على الحجاج الوقوف في منطقة عرفات بمكة من وقت الظهر حتى غروب الشمس الشرعي، أي المكوث في صحراء عرفات دون مغادرتها.
دعاء عرفة هو الدعاء الذي تلاه الإمام الحسين في صحراء عرفات في أثناء حجه، قبل وقوع حادثة كربلاء. ويقوم الشيعة كل عام، في هذا اليوم، بقراءة هذا الدعاء جماعيا في المساجد والأماكن الدينية.
وتروي المصادر التاريخية أن الإمام الحسين، في الساعات الأخيرة من يوم عرفة، خرج من الخيمة برفقة عدد من أهل بيته وأولاده وأصحابه، ووقفوا جميعا بخشوع وخضوع في الجهة اليسرى من الجبل متجهين نحو الكعبة، وقرأوا هذا الدعاء العظيم.
يحمل دعاء عرفة بين سطوره معاني عرفانية وعقائدية عميقة، كمعرفة الله، وذكر صفاته، وتعداد نعمه، وحمده والثناء عليه، والتذلل بين يديه، والاعتراف بالذنوب والتوبة.
الطقوس الدينية في إيران غالبا ما تمتزج بالمناجاة وطلب المغفرة، ويُعدّ يوم عرفة، إلى جانب كونه ذروة مناسك الحج، فرصة روحية عميقة للعودة إلى الذات ومراجعة النفس. ولهذا، أصبح دعاء الإمام الحسين في هذا اليوم ركنا أساسيا من أركان الحالة الدينية للشعب الإيراني.

ذلك الدعاء الذي تلاه الإمام الحسين عليه السلام في صحراء عرفات، يعبّر عن روح الوله والعشق الإلهي، ويجسّد الشوق والحرارة الروحية التي ينبغي أن يتحلّى بها أتباع أهل البيت في هذه الأيام المباركة.
في طهران، يبدأ اليوم عرفة لدى الباعة، وطلبة العلم، والموظفين، والزائرين، بالحضور إلى “حسينية باعة الملابس”؛ ذلك المكان الذي لطالما تردّد فيه صوت المنشد منصور أرضي على مدى عقود، ناشرا أجواء من الروحانية والخشوع.
وفي صباح يوم الخميس، أُغلقت العديد من المحال التجارية في السوق طوعا احتراما لهذه المناسبة. يقول جواد حسيني، موظف بنك يبلغ من العمر 34 عاما وأحد المشاركين في المراسم:
“كنت أسمع عن هذه الحسينية منذ أن كنت مراهقا، وهذه أول مرة أحضر فيها. هنا، يشعر الإنسان بأنه في حضرة الله وحده، وتغيب عنه كل انشغالات الحياة اليومية”.
ما يميّز “حسينية باعة الملابس” عن غيرها من الأماكن الدينية هو الحضور المنتظم والمستمر للناس فيها كل أسبوع. وقد تم تجهيز القاعة الرئيسية للمراسم بتنظيم دقيق وأجواء روحانية خاصة.
تقول زهراء شريفي، ربة منزل تبلغ من العمر 48 عاما، جاءت برفقة ابنتها:
“الوجود في هذا المكان بالنسبة لنا يعني التواجد في قلب الدعاء. عندما يبدأ الحاج منصور بالدعاء، نشعر وكأنه يأخذنا إلى عالم لا يُسمع فيه سوى صوت رحمة الله ومغفرته”.

كان الوقت يقترب من الساعة الخامسة مساء عندما دخل الحاج منصور أرضي القاعة. وسط صمت مهيب، صعد إلى المنصة، ومن دون مقدمة، بدأ بتلاوة دعاء عرفة بصوته المرتجف ونبراته العاطفية.
كانت القاعة مكتظة بالحضور، كما غصّت الشوارع المحيطة بالناس. الجميع كان صامتا بكل جوارحه. لكن بعد دقائق، بدأت أصوات البكاء الخافت، وارتجاف الأكتاف، وعيون غارقة في الدموع، تملأ أرجاء الحسينية والطرقات، وتحوّل المكان إلى سيمفونية من الخشوع والتوبة.
يقول علي نادري، طالب هندسة يبلغ من العمر 22 عاما، جاء من مدينة قزوين:
“التواجد هنا، بين هذا الجمع الغفير من الناس الذين يبكون بصوت الحاج منصور، تجربة ما فوق الطبيعة… كأنّك تشعر بأن أعماقك تُفتَح طبقة بعد طبقة”.
الحضور اللافت للعائلات، وتفعيل مصلى النساء، وقسم الأطفال، وأركان الاستشارات الشرعية، كلّها مؤشرات على أن هذا الحدث لا يخص فئة بعينها، بل هو مساحة جامعة لكل أطياف المجتمع؛ من الرجال والنساء، من الشيوخ والشباب، يجتمعون في لحظة واحدة لينادوا الله من أعماقهم.

تقول فاطمة عباسي، 29 عاما، جاءت من مشهد برفقة طفلها:
“سبق أن قرأت دعاء عرفة في حرم الإمام الرضا، لكن هنا… النساء يدعون ويبكين جنبا إلى جنب، وتشعر وكأن هذه الأصوات تلتقي وتُرفع معا إلى السماء.”
وفي إحدى الزوايا، وقف جمع من طلاب العلوم الدينية، وبجانبهم شيخ طاعن في السن يرتدي الزيّ التقليدي لأهل السوق. كلاهما كان يبكي بصمت. إنه ذلك الرابط العميق الذي تصنعه مراسم دعاء عرفة في إيران؛ رابطة تتجاوز الفوارق الطبقية، وتوحّد الأجيال والمهن في نغمة روحية واحدة.
ويقول محمد أمين كياني، طالب علوم دينية يبلغ من العمر 24 عاما:
“هنا ندرك أن الدين لا يقتصر على الدروس والكتب فقط. جميع شرائح المجتمع حاضرة، يتضرعون معا، ويتواصلون بقلوبهم. هذه الوحدة، هي الدرس الحقيقي الذي يجب أن نتعلمه. فالدين لا يكون حيا إلا حينما يوحّد الناس بهذا الشكل الجميل”.
رغم التطورات التكنولوجية ووجود تطبيقات تنقل مراسم الدعاء مباشرة، لا يزال الناس يفضلون الحضور الفعلي. فالكثيرون يأتون سيرا على الأقدام، ولساعات، كي يصلوا إلى الحسينية. وتظل التجربة الحيّة أقوى وأقرب إلى القلوب.
يقول عبد الحسين رجبي، متقاعد من الجيش جاء مع حفيده:
“أعرف هذه الحسينية منذ سنوات طويلة. وكل عام حين أشارك الناس في الدعاء، أرجو من الله أن يُطهّرني من ولو جزء صغير من ذنوبي”.
ومع انتهاء الدعاء، بدأ الناس يغادرون الحسينية بهدوء وسكينة. بعضهم لا يزال يبكي، وآخرون يتمتمون بدعاء الختام. أما المنشد ، فغادر ببساطة من طريق جانبي، لكن صوته سيبقى محفورا في ذاكرة الآلاف حتى يحين يوم عرفة القادم.
إن دعاء عرفة في “حسينية باعة الملابس” بطهران، ليس مجرد طقس ديني؛ بل هو حدث جماعي نابض، يجمع بين الخشوع الفردي والوحدة الاجتماعية، ويجسّد حاجة الإنسان المعاصر إلى الروحانية في عالم بات يدفعها إلى الهامش.