- زاد إيران - المحرر
- إيران, متميز
- 50 Views
كتب: محمد بركات
في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي يشهدها العالم، برزت أهمية تطوير ممرات ترانزيت بديلة وقادرة على تقليص التكاليف الزمنية والمادية لحركة البضائع، إلى جانب تعزيز التواصل التجاري بين القارات.
ومن بين هذه المبادرات الدولية، يأتي ممر الشمال الجنوب الدولي، المعروف اختصارا بممر INSTC، ليشكل مشروعا استراتيجيا طموحا يسعى لربط جنوب آسيا وأوروبا عبر الأراضي الإيرانية، الأمر الذي جعل منه عنصرا محوريا في خطط التنمية والبنية التحتية الإقليمية للدول المحيطة به.
وقد اكتسب هذا الممر أهمية متزايدة خلال العقدين الأخيرين، لا سيما بعد التغيرات المتعددة في الخريطة السياسية والاقتصادية العالمية، وتحوّل الأنظار إلى الطرق البرية والبحرية الأقصر والأكثر كفاءة.
التعريف بالممر وجغرافيته
ممر الشمال الجنوب الدولي هو مشروع نقل دولي متعدد الوسائط، يشمل النقل البحري والبري، يهدف إلى الربط بين المحيط الهندي وبحر قزوين وصولا إلى أوروبا الشرقية، مرورا بإيران.

وقد تم توقيع الاتفاقية التأسيسية لهذا الممر عام 2002 من قبل ثلاث دول هي: إيران، روسيا، والهند، ليُفتح الباب لاحقا لانضمام دول أخرى مثل أذربيجان وكازاخستان وأرمينيا، وأخيرا تركيا.
يمتد الممر من ميناء مومباي في الهند مرورا بالموانئ الجنوبية الإيرانية مثل بندر عباس أو تشابهار، ثم يواصل طريقه عبر شبكة السكك الحديدية الإيرانية نحو بحر قزوين ومنه إلى أذربيجان وروسيا، ليصل في نهايته إلى شمال أوروبا، خصوصا دول البلطيق، وفنلندا، وألمانيا، في حين يبلغ طول المسار الإجمالي نحو 7200 كيلومتر، أي أقل بنحو 40% من طول المسار التقليدي عبر قناة السويس.
يتميز الممر بتنوعه الجغرافي ومرور مساراته في بيئات مختلفة، من المحيطات إلى السهول والمرتفعات، ما يخلق تحديات هندسية ولوجستية لكنه في الوقت نفسه يمنح المشروع مرونة كبيرة في تعديل المسارات أو تفرعها إلى خطوط ثانوية جديدة.
دور الممر في تعزيز التعاون الإقليمي
يمثل هذا الممر الدولي أحد أبرز نماذج التعاون متعدد الأطراف في أوراسيا، حيث يسهم في تقليص الفجوات اللوجستية، ويفتح آفاقا جديدة للتكامل الاقتصادي بين دول ذات أنظمة سياسية متباينة لكنها متحدة في تطلعاتها نحو التجارة والتنمية.

فمن جهة، يعزز المشروع التنسيق بين الدول المعنية في مجالات البنية التحتية، وتوحيد المعايير الجمركية، وأنظمة النقل، فالهند على سبيل المثال، ترى في الممر فرصة استراتيجية لتجاوز الهيمنة الصينية على طرق التجارة الآسيوية، وللوصول إلى أسواق روسيا وأوروبا بسرعة أكبر، بينما تجد روسيا في هذا الممر بديلا واعدا عن موانئ أوروبا الغربية، لا سيما بعد العقوبات الغربية عقب الحرب الأوكرانية.
كذلك، يسهم الممر في إعادة إحياء دور إيران كحلقة وصل تاريخية بين الشرق والغرب، وهو ما يعطي بعدا جيوسياسيا واقتصاديا عميقا للتعاون القائم، ويمنح طهران أدوات تفاوضية أقوى في علاقاتها الثنائية والمتعددة.
كما يوفر المشروع إطارا لتعاون أمني واستثماري جديد، إذ تتطلب حماية خطوط الترانزيت التنسيق الأمني، وهو ما قد يخلق بيئة أكثر استقرارا في مناطق تعاني تقليديا من التوترات مثل القوقاز أو آسيا الوسطى.
ماذا يمثل الممر لإيران؟
من الناحية الاقتصادية، يشكل ممر الشمال الجنوب فرصة فريدة لإيران لإعادة تموضعها في التجارة العالمية، خاصة في ظل العقوبات الغربية المتزايدة التي تحدّ من فرص التبادل عبر القنوات التقليدية، حيث يتيح الممر لإيران تنمية قطاع الخدمات اللوجستية، وتحقيق إيرادات كبيرة من رسوم العبور، والاستثمار في البنية التحتية مثل تطوير الموانئ، وخطوط السكك الحديدية، والمناطق الحرة.

وعلاوة على ذلك، فإن هذا الممر يقلل زمن النقل بين آسيا وأوروبا من 40 يوما إلى نحو 20 يوما، مما يزيد من جاذبيته للدول الإقليمية. وربما تكون إحدى أبرز مزاياه بالنسبة لإيران هي مساهمته في التخفيف من آثار العقوبات، فبفضل هذا المسار، يمكن لإيران أن تجد بدائل جديدة للتجارة الدولية، وتواجه الضغوط الاقتصادية الغربية بفعالية أكبر.
ويُعد التعاون مع روسيا أحد أبرز مظاهر المكسب الذي ستحققه إيران من وراء هذا المشروع، فقد قامت موسكو وطهران خلال الأعوام الأخيرة بتعزيز التنسيق في تطوير هذا الممر، سواء من خلال مشاريع السكك الحديدية التي تربط شمال إيران بجنوب روسيا، أو عبر توحيد الجهود لتسهيل نقل البضائع بين البلدين دون الاعتماد على الطرق الغربية، وقد شهد هذا التعاون دفعة قوية بعد العقوبات المفروضة على روسيا، مما دفعها إلى البحث عن بدائل لوجستية جديدة، وكانت إيران هي الخيار الأنسب جغرافيا وسياسيا.

إضافة إلى ذلك، يمكّن الممر إيران من تعزيز علاقاتها التجارية مع الهند، التي تسعى بدورها إلى الدخول بقوة إلى الأسواق الروسية وآسيا الوسطى. وفي هذا السياق، يعتبر ميناء تشابهار الإيراني مشروعا استراتيجيا مشتركا بين نيودلهي وطهران، ويمثل إحدى النقاط الأساسية في الربط بين الممر الهندي والممر الشمالي.
على الصعيد الداخلي، يعزز المشروع فرص التنمية في المحافظات الإيرانية الجنوبية والشمالية، من خلال تحويلها إلى مراكز تجارية ومناطق صناعية قادرة على جذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية، كما يسهم المشروع في خلق فرص عمل وتحريك عجلة الاقتصاد الوطني، خاصة في قطاعات النقل والخدمات والتأمين.
هل هناك ما تخشاه طهران؟
على الرغم من الفرص الكبيرة التي يتيحها مشروع بتلك الضخامة لإيران، فإن ثمة تحديات ومخاطر لا يمكن إغفالها، وقد تؤثر بشكل مباشر على مستقبل دور طهران في هذا المشروع.

أولا، فهناك تنافس إقليمي متزايد من دول مثل أذربيجان وباكستان، حيث تسعى كل منهما إلى تطوير بدائل موازية تقلل من أهمية المسارات الإيرانية، فعلى سبيل المثال، تعمل أذربيجان على تعزيز الربط البري مع روسيا دون المرور بإيران، بينما تطور باكستان ميناء جوادر بالشراكة مع الصين ليكون بوابة تجارية نحو آسيا الوسطى، في منافسة مباشرة مع الموانئ الإيرانية مثل بندر عباس وتشابهار.
كذلك تمثل التوترات الجيوسياسية، سواء بين إيران وبعض جيرانها أو بين الدول الكبرى، تهديدا لاستقرار المشروع، فعدم الاستقرار السياسي، أو اندلاع مواجهات حدودية، قد يؤدي إلى تعليق حركة البضائع ويقلل من ثقة المستثمرين والشركات الدولية.
أيضا، يعاني المشروع من تحديات داخلية في إيران، تتعلق بضعف البنية التحتية في بعض المناطق، وبطء تنفيذ المشاريع، والعقبات الإدارية والبيروقراطية، إضافة إلى استمرار العقوبات الغربية التي تعيق حركة التحويلات البنكية والتأمين على الشحنات.
أخيرا، ثمة مخاطر تتمثل في فقدان إيران نفوذها إذا لم تتحرك بسرعة لتأمين موقعها كممر أساسي في هذا المشروع، لا سيما في ظل تسارع الدول الأخرى لتقديم بدائل ذات كفاءة أعلى وتكلفة أقل.