- ربيع السعدني
- متميز
- 236 Views
تحقيق: ربيع السعدني
انفوجرافيك: عاصم مسعد
في ريف دمشق، حيث يرتفع مقام السيدة زينب كمنارة روحية تتوسط أنقاض الحرب، كانت الأصوات التي تحيي ذكرى آل البيت تملأ الفضاء يوما.
اليوم، تتردد هذه الأصوات بحذر، كأنها تخشى أن تُسمع في زمن تغيرت فيه موازين القوى.
سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، لم يكن مجرد نهاية حكم عائلي استمر 54 عاما، بل كان بداية فصل جديد مشحون بالغموض للشيعة السوريين، الذين يشكلون نحو 4% من السكان (مليون نسمة من إجمالي 25 مليونا).
مع صعود هيئة تحرير الشام، بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقا)، يواجه الشيعة الإثني عشرية والعلويون مفترق طرق مصيري: هل سيجدون مكانا في سوريا الجديدة، أم أن شبح التهميش والعنف سيطاردهم؟
هذا التحقيق الخاص يغوص في واقع الشيعة السوريين، مستعرضا التحديات التي تواجه هويتهم الدينية والثقافية، مستقبل مراقدهم المقدسة مثل مقامي السيدة زينب، والسيدة رقية في ظل نظام جديد يحمل تاريخًا من العنف والإرهاب والعداء الطائفي.
بداية الشتات

بعد 14 عاما من الحرب الأهلية السورية، انهارت حكومة بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، ليفر الرئيس السوري إلى روسيا، تاركا وراءه بلادا ممزقة ومجتمعا يعاني من انقسامات طائفية عميقة.




عندما سقطت دمشق، كانت الشوارع تملؤها أصوات الاحتفالات، لكن في حي السيدة زينب، ساد الصمت المشحون بالقلق، الرايات الإيرانية التي كانت تزين المقام اختفت، وحلّت محلها لافتات هيئة تحرير الشام، الشيعة، الذين كانوا يومًا تحت حماية الحرس الثوري ومحور المقاومة “حزب الله اللبناني”، وجدوا أنفسهم فجأة في مواجهة مصير مجهول، تقارير تحدثت عن فرار عائلات شيعية إلى لبنان والعراق، بينما بقي آخرون، متمسكين بأمل هش في وعود الحكومة الانتقالية.
الشيعة في خضم النار
في قلب سوريا النابض، أمسك الشيعة المحليون بزمام المبادرة، فتراهم يجوبون الطرقات سائقي شاحنات ينقلون الحياة بين المدن، أو يقودون بجرأة وثقة مواكب القادة العسكريين الأجانب، أو ينسجون خيوط التقدم في مشاريع إيرانية طموحة، وتوّجوا إنجازاتهم بحيازة بطاقات هوية رسمية، كأنها تأشيرة حياة تمنحهم عبوره سلسا عبر نقاط التفتيش، فتتحول كل عقبة إلى بوابة مفتوحة نحو عالم من الإمكانات والفرص.

سوريا بلد يتميز بتنوع طائفي وعرقي معقد، حيث يشكل السنة 72% من السكان، والعلويون نحو 10-15%، والشيعة الإثني عشرية بحسب تقرير وزارة الخارجية الأمريكية للحريات الدينية (2020)، نحو 4% (ما يقارب مليون نسمة من إجمالي 25 مليونا)، خلال حكم آل الأسد، استفادت الأقليات، خاصةً العلويين والشيعة، من دعم النظام، الذي اعتمد على تحالفات مع إيران وحزب الله اللبناني.
التوزع الجغرافي
خلال الحرب الأهلية، وقف الشيعة بشكل شبه كامل إلى جانب نظام الأسد، مما جعلهم أهدافا للجماعات السنية المسلحة، التي رأت فيهم حلفاء النظام “الطائفي”، ولكن مع سقوط الأسد، تغيرت المعادلة، هيئة تحرير الشام، التي كانت حتى 2016، فرعا لتنظيم القاعدة تحت اسم جبهة النصرة، أصبحت القوة الحاكمة.

رغم إعلان قادتها، مثل أحمد الشرع، التزامهم بحماية جميع الطوائف، فإن التاريخ العنيف للجماعة، بما في ذلك اتهامات بتصنيف العلويين كـ”مرتدين”، يثير مخاوف الشيعة من مستقبل غير آمن.
☆ دور إيران: منذ الثورة الإسلامية ضد النظام البهلوي عام 1979، دعمت طهران، الشيعة الإثني عشرية عبر تمويل حسينيات ومراقد دينية مثل مقامي السيدة زينب والسيدة رقية، اللذين يجذبان آلاف الزوار سنويا من العراق ولبنان وإيران، كما أنشأت جمعيات خيرية في سوريا مثل “جهاد البناء” لدعم المجتمعات الفقيرة، مع التركيز على “التشييع” (تحويل السنة إلى التشيع).
☆ محور المقاومة: قدم حزب الله اللبناني المدعوم أيضا من إيران دعما عسكريا مباشرا لنظام الأسد، حيث شارك آلاف مقاتليه في معارك مثل القصير (2013) وحلب (2016)، كما أشرف على حماية المراقد الشيعية.
☆ مستقبل فاطميون: بعد سقوط نظام الأسد، تشير دراسة مركز إيرام إلى أن إيران قد توظف مقاتلي لواء فاطميون في نزاعات أخرى (مثل اليمن أو العراق) أو تمنحهم الجنسية الإيرانية لتوطينهم.
مدّ النفوذ الإيراني
وفي مشهد يعكس تمدد النفوذ الإيراني، استُبدلت الحروف العربية بكلمات فارسية تتراقص على جدران المقابر، بينما تنتشر المراكز الثقافية الإيرانية كالنجوم في سماء سوريا، وفي قلب هذا التحول، يقف مقام السيدة زينب كمنارة تُجسّد هذا الزخم، مركزا لإعادة صياغة الهوية الثقافية والدينية.
كانت إيران يوما العراب الأكبر للشيعة في سوريا في قم ومشهد، كانت خطط حماية المراقد تُرسم بدقة، وكانت أسلحة حزب الله تحمي طرق الزوار إلى السيدة زينب، لكن مع سقوط الأسد انهار هذا الدعم كقصر من رمال.
الحرس الثوري غادر، وحزب الله، المثقل بالخسائر عاد إلى لبنان للعناية بجراحه، في قرية نبل الشيعية شمال حلب كان الشباب يتساءلون: “من سيحمينا الآن؟” طهران التي لطالما واجهت انتقادات داخلية لتخليها عن حلفائها، بدأت تبحث عن طرق جديدة للحفاظ على نفوذها، لكن بأدوات أضعف وفي ظل ضغوط إقليمية متزايدة.
تحت راية الشرع.. هيمنة تطفئ نور الآخر

هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع، سيطرت بدعم من الجيش الوطني السوري المدعوم تركيّا، على الحكم حتى أعلن الشرع في 29 يناير/كانون الثاني 2025 تعيينه رئيسا انتقاليا، وأصدر دستورا مؤقتا يعتمد الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع
تعهدات الحماية: أكدت الهيئة التزامها بحماية الأقليات، بما في ذلك الشيعة، وسمحت باستمرار أنشطة المراقد مثل السيدة زينب والسيدة رقية، لكن تقارير تشير إلى هجمات طائفية متفرقة، مثل حرق مرقد عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي العلوي.
التوترات الطائفية: في يناير/كانون الثاني 2025، أحبطت الاستخبارات السورية محاولة لداعش لتفجير مقام السيدة زينب، مما يعكس استمرار التهديدات.
أحمد الشرع، الذي كان يوما زعيم جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة، وقف في قصر الشعب بدمشق، معلنا “فصلا جديدا” لسوريا، لكن بالنسبة للشيعة، كانت كلماته عن حماية الأقليات مجرد صدى بعيد وفي حي الأمين، حيث يقع مسجد الإمام علي بن أبي طالب، تجمع الشيعة لمناقشة مصيرهم، عبد الله نظام، زعيمهم، وقف بينهم، حاملا رسالة أمل: “مقدساتكم في أمان“، مستشهدا بتعهدات الشرع، لكن في الخفاء، كانت أصوات الخوف تهمس: “هل يمكن الوثوق بمن كانوا يقاتلوننا بالأمس؟”.
التحديات المباشرة: الشيعة بين ظلال التهميش وسلاسل الاضطهاد
1. الوضع السياسي والاجتماعي مع تراجع النفوذ الإيراني: كانت طهران الداعم الأكبر للشيعة والعلويين في سوريا، من خلال دعم نظام الأسد وتمويل مراكز دينية مثل مقام السيدة زينب، مع انهيار النظام، وتقلص الدعم الإيراني بسبب العقوبات الاقتصادية والضغوط الدولية، يواجه الشيعة فراغا سياسيا وعسكريا.
2. التمييز ضد الأقليات: تقارير إعلامية تشير إلى هجمات انتقامية أودت بحياة أكثر من ألف شخص، معظمهم من العلويين والمرتبطين بالنظام السابق، على سبيل المثال، تعرض مرقد عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي، وهو مرجع علوي بارز، للحرق، وقتل خمسة من خدمه على يد عناصر من هيئة تحرير الشام.
3. التغيرات الديموغرافية: شهدت مناطق مثل دمشق وحلب نزوحا كبيرا للشيعة والعلويين، خاصة من الأحياء التي كانت تحت سيطرة النظام، هذا النزوح أضعف وجودهم الاجتماعي والاقتصادي.
مراقد في مهب الريح
1▪︎ مقام السيدة رقية: شُيد في العصر الأيوبي وأُعيد بناؤه بتمويل إيراني عام 1985، ليصبح رمزا معماريا بزخارف ذهبية وقبة فخمة، يجذب عشرات الآلاف من الزوار الشيعة سنويا، خاصة في شهري محرم ورمضان، خلال الحرب الأهلية (مثل هجوم 2016 حين استهدفت الجماعات الإرهابية التكفيرية من القاعدة والجيش الحر المرقد بقذائف الهاون)، واجه مخاطر القصف والتوترات الطائفية، مع تقارير عن دخول فصائل معارضة عام 2024، مما أثار مخاوف من التخريب أو تغيير هويته الدينية.

2▪︎ مقام السيدة زينب: بُني في القرن الخامس الهجري، وجُدد بتمويل إيراني في القرن الرابع عشر الهجري، ليصبح مركزا دينيا بقبة ذهبية يجذب ملايين الزوار الشيعة خلال عاشوراء، واجه المقام خلال الحرب الأهلية تفجيرات وتوترات طائفية، مع اتهامات باستغلاله عسكريا، وبعد 2024، ظهرت مخاوف من تخريبه أو تغيير إدارته، رغم جهود الحكومة المؤقتة لحمايته وسط تحديات أمنية وسياسية مستمرة.

هذان المقامان، اللذان يعدان رمزين دينيين مركزيين للشيعة، لم يتعرضا للتدمير حتى الآن، لكن هناك مخاوف من تقليص أنشطتهما أو فرض قيود على الزوار، عبد الله نظام، زعيم الحركة الشيعية، أكد في بيان بتاريخ 19 ديسمبر/كانون الأول 2024، مع سقوط نظام الأسد أن المقدسات في أمان “بعهد من إخوانكم المؤمنين”، لكن هذه الوعود لم تطمئن كثيرين.
يذكر أنه في 11 يناير/كانون الثاني 2025 أفاد مصدر بجهاز الاستخبارات السورية العامة بأنه وبالتعاون مع جهاز الأمن العام بريف دمشق أحبطت محاولة لتنظيم “داعش” لتنفيذ تفجير داخل مقام السيدة زينب بمحيط العاصمة، وفي وقت لاحق، نشرت وزارة الداخلية السورية مقطع فيديو يظهر فيه أحد المتهمين بمحاولة استهداف مقام السيدة زينب، و”إثارة الفتنة” في البلاد عبر استهداف الطوائف المختلفة بما فيهم الشيعة والعلويين والمسيحيين.
وقد اعترف المتهم، بأن الخلية خططت لإرسال سيارة مفخخة إلى منطقة معلولا لاستهداف كنيسة في رأس السنة، في حين فشلت هذه العملية بسبب التشديد الأمني، وتوجهوا بعد ذلك إلى التخطيط لتنفيذ 3 عمليات انتحارية في مقام السيدة زينب.
زينب ملاذنا: لكن هل يطفئ الشرع نورها؟
لقد غيّر سقوط نظام الأسد المعادلة تماما، وقلب الموازين السياسية والاجتماعية وانقلب ذلك بعمق على واقع الشيعة اليومي وعتباتهم المقدسة في بلدة دمشق، وهناك كانت تجلس ليلى، أم لثلاثة أطفال، في ظلال مقام السيدة زينب، تهمس بدعاء خافت كأنها تخشى أن ينقله الريح للحكام الجدد، قبل سقوط الأسد، كانت زياراتها للمقام مليئة بالأمل، حيث كان الحي يعج بالزوار والأناشيد، كانت تشعر أن السيدة تحتضنها، تحميها من ويلات الحرب.

لكن اليوم، تحت حكم الإسلاميين السنة أصبحت الطرقات إلى المقام شبه خالية، والنظرات المريبة تحيط بها، “هل ستبقى زينب ملاذنا؟”، تساءلت وهي تمسك يد ابنتها الصغيرة والخوف يعتصرها، ليس فقط من القوانين الجديدة، بل من أن يُمحى تراثها من ذاكرة أطفالها قبلًا، كانت تحكي لهم عن صبر زينب بحرية؛ الآن، تخفي كتبها الدينية وتعلمهم في السر، كأن إيمانها بات جريمة.
“ملجأ للروح في زمن الحرب”
قبل سقوط بشار الأسد عام 2024، كان ياسر، (اسم مستعار) رجل في الأربعين من دمشق، يعيش تحت وطأة الخوف، كان يعمل ميكانيكيا، لكنه فقد ورشته بسبب القصف، أُجبر على الانتقال مع عائلته إلى مخيم عشوائي، حيث كان يعاني من الجوع والبرد.
في لحظات اليأس، كان يزور مقام السيدة الرقية، يصلي للحماية ولعودة ابنه المفقود في معتقلات النظام، يقول ياسر: “كنت أضع يدي على جدران المقام وأشعر أن هناك من يسمعني”، بعد السقوط، تلقى خبرا عن إطلاق سراح ابنه من المعتقل، عاد إلى دمشق، والفرحة لم تفارقه وبدأ بإعادة بناء ورشته بمساعدة منظمات إغاثية، وكانت زيارته الأخيرة للمقام ليشكر الله على لمّ شمله بعائلته، يقول: “المقام كان نوري في الظلام”.
في ضواحي دمشق، حيث يعلو صوت الأذان من مقام السيدة زينب، كانت أم حسن تجلس على عتبة بيتها المتواضع كل يوم، تمر بجانب المقام، تضع يدها على قلبها وتدعو أن يبقى هذا المكان ملاذها الآمن، منذ سنوات، كان المقام هو المكان الذي تجد فيه العزاء بعد أن فقدت ابنها في الحرب لكن اليوم، تسمع همسات الجيران عن “حكم الشرع” الجديد، وعن تغييرات قد تهدد وجودهم كشيعة.
“يا سيدتي زينب، أنتِ درعنا، لكن إلى أين نمضي إذا أغلقوا طريقك؟”، تهمس أم حسن وهي تمسح دمعة، كانت تخشى ألا تستطيع زيارة المقام يوما، أو أن يُمنع أحفادها من تعلم قصص السيدة زينب في الليل، جمعت أبناءها وروت لهم عن صبر زينب.
وقالت: “مهما حدث، ستبقى السيدة في قلوبنا، وإن غادرنا هذا المكان، سنحملها معنا”، لكن في قلبها، كان السؤال يتردد: “إلى أين نمضي إذا ضاقت بنا الأرض؟”.
رغم الوعود بحماية المراقد الشيعية، تبقى هناك مخاوف من تكرار سيناريوهات العنف الطائفي، المقامات مثل السيدة زينب والسيدة رقية ليست مجرد أماكن دينية، بل رموز للهوية الشيعية ونقاط جذب للزوار من إيران والعراق ولبنان، أي هجوم عليها قد يؤدي إلى تصعيد إقليمي، خاصة مع استمرار دعم إيران وحزب الله للشيعة.
موقف الحكومة الجديدة
وزير الدفاع في الحكومة السورية مرهف أبو قصرة، أكد في مقابلة تلفزيونية، أن حماية الأماكن الدينية واجب الحكومة، لكنه دعا إيران إلى عدم التدخل في الشؤون السورية، وأن تقيم علاقات دبلوماسية سليمة مع الحكومة السورية الجديدة، وأكد وزير الدفاع السوري أن حماية الشيعة أو أماكنهم الدينية من واجبات الحكومة الجديدة، هذا الموقف يعكس توازنا دقيقا بين طمأنة الشيعة وإرضاء القاعدة السنية.
لقاء تاريخي

في لقائهم الأول التقى وجهاء الطائفة الشيعية الإثني عشرية بأحمد الشرع، الرئيس المؤقت لسوريا، في خطوة فاجأت كثيرين، هذا اللقاء، الذي لم تنشره وسائل الإعلام الرسمية سوى صور محدودة عنه، عكس قرار الشيعة بالانفصال عن العلويين سياسيًا، رافضين تحمل مسؤولية أفعال النظام السابق الذي يهيمن عليه العلويون.
أكد الشرع التزامه بحماية جميع الطوائف، ووعد بحل قضايا المصادرات والتعديات على ممتلكات الشيعة وأعلن لهم أن الحكومة مسؤولة عن توفير الأمن والسلام لجميع المواطنين السوريين وتوفير ظروف معيشية جيدة إلى جانب التضامن والتعاون بين جميع فئات المجتمع، ووعد بأن يتم التحقيق في كافة التعديات والمصادرات سواء على الممتلكات أو الأصول وحلها، لكن هذه الوعود تظل تحت الاختبار، خاصة مع تقارير عن استمرار التمييز ضد العلويين.
أصوات الصمود..
زعماء الشيعة في سوريا يتحدون الفتن
1▪︎ الشيخ أدهم الخطيب: حارس الوحدة في قلب العاصفة
في مقام السيدة زينب، يقف الشيخ أدهم الخطيب كمنارة إيمان وسط الرياح الطائفية، كنائب رئيس الهيئة العلمائية لمذهب أهل البيت، وإمام المقام المقدس، يقود الصلاة ويحيي الروح الشيعية الإثنا عشرية بدمشق، خطباؤه تنبض بالدعوة للوحدة الوطنية، محذرة من شيطان الفتنة، بعد سقوط الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، برز كجسر بين الطائفة الشيعية والسلطات الجديدة، حيث قاد وفدا في 27 مايو/أيار 2025 للقاء معاون الأمين العام لرئاسة الجمهورية، مؤكدا التزام الشيعة بوحدة سوريا.
لكن التحديات لاحقته: في 19 فبراير/شباط 2025، اقتحمت قوات هيئة تحرير الشام مكتبه، معتقلةً إياه وابنه جعفر لساعات، ورجح مقربون من الشيخ أن يكون سبب توقيفه مرتبطا بخطبة الجمعة التي انتقد فيها تجاهل الأجهزة الأمنية لشكاوى أبناء الطائفة بشأن الاستيلاء غير القانوني على منازلهم وإجبارهم على مغادرتها دون السماح لهم بأخذ ممتلكاتهم الشخصية، في محاولة أثارت غضبا طائفيا بثبات، دعا إلى ضبط النفس وحصر السلاح بيد الدولة.
لم تتوقف التحديات؛ في 22 فبراير/شباط، تصدى لمحاولة وزارة الأوقاف للاستيلاء على جامع المصطفى، المعقل الشيعي الوحيد بالحي، رافضا تحويله إلى مسجد سني وفي مسجد سيدي مقداد، تعرض لاعتداء جسدي ولفظي، لكنه لم يتراجع، في 11 مارس/آذار 2025، وقف في خطبة الجمعة، يردد: “سوريا للجميع، والفتنة لن تمر”، صوته يعلو ضد العنف الطائفي، خاصة بعد هجوم على قوات الأمن العام، مُلهما الشيعة بالصبر والصمود.
2▪︎ عبد الله نظام زعيم “خط الإمام”: مهندس ينسج وحدة الأمة
في أعقاب ثورة إيران 1979، أضاءت شرارة اليقظة الشيعية قلوب الشباب السوري، فتشكّل “خط الإمام”، حركة روحية أنيطت بها رعاية مراكز مقدسة كالمحسنية ومجمع السيدة الرقية، على رأسها يقف عبد الله نظام، المهندس الذي ترك الأسمنت والحديد ليبني جسور الإيمان والتعايش كزعيم ديني بارز، ارتبط بإيران منذ الثمانينيات، حتى بات يُلقّب بـ”وكيل خامنئي في دمشق”، يقود الشيعة الإثنا عشرية بقلب جريء وروح تسعى للوئام والسلام.

يقف نظام اليوم على مفترق طرق محفوف بالمخاطر من جهة، يسعى لكسب ثقة الحكومة الجديدة بعد سقوط الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، ومن جهة أخرى، يحاول طمأنة الشيعة الذين يترقبون الاضطهاد بحذر، بيانه عقب سقوط نظام الأسد، حين أشاد بوعود هيئة تحرير الشام بحماية الأقليات، أثار جدلاً بين أتباعه، رأى فيه البعض محاولة تهدئة، بينما اعتبره آخرون تنازلاً لا يعكس واقع التوترات، وأصوات الشيعة المقهورين، الذين لم يطمعوا يوما بالسلطة كما فعل غيرهم، ترتفع متسائلة: هل يستطيع نظام حماية هويتهم؟
حكمة السيستاني في أرض الشام
مستلهما حكمة السيستاني في العراق، يسعى نظام لنسج خيوط التعايش، متجنبا شبح الحرب الأهلية في لقاء مع أحمد الشرع، زعيم هيئة تحرير الشام، أطلق كلمات الأمل: “إخوانكم في الإسلام سيعيشون بسلام”، لكنه في الخفاء يواجه اتهامات بالتفريط بحقوق الشيعة، حيث يرى منتقدوه أن تحالفه مع السلطات قد يكون على حساب هوية الطائفة.

عبد الله نظام، الذي بدأ مهندسا يشيد البنيان، تحول إلى مهندس أرواح، ينسج أملا هشا وسط العواصف علاقاته التاريخية مع السفارة الإيرانية جعلته جسرا بين دمشق وطهران، لكنه اليوم يواجه اختبارا أصعب: الحفاظ على وحدة الشيعة في سوريا الجديدة، حيث التوترات الطائفية تهدد بتمزيق النسيج الوطني، صوته يعلو في المحسنية والسيدة الرقية، داعيا إلى السلام، لكن السؤال يبقى: هل ستنجح خيوطه الهشة في صون الأمل الأخير؟
في قرية الفوعة، حيث يعيش 15.000 شيعي، كان الخوف يعم الجميع، الأمهات يحتضن أطفالهن، يتساءلن إن كانت الحسينيات ستظل مفتوحة.
اختار الشيعة الإثنا عشرية، بقيادة عبد الله نظام، استراتيجية التعايش مع النظام الجديد، معتبرين أن مصلحتهم تكمن في الحفاظ على وجودهم الديني والثقافي بدلا من السعي للسلطة في قرار يعكس رغبة كبيرة من الشيعة السوريين في تجنب مصير العلويين، الذين يواجهون هجمات انتقامية بسبب ارتباطهم التاريخي بالنظام.
رحلة العلويين في سوريا
إن العلويين، الذين انبثقت منهم عائلة الأسد، طائفة من المذهب الشيعي عانت قرونا من القمع والمصاعب والإقصاء الاجتماعي، ويبدو أن جزءا مما حدث في سوريا هو نتيجة لهذا القمع.
ظهر العلويون أو النصيريون في منتصف القرن الثالث الهجري في منطقة العراق وبسبب صرامة وضغط الخلفاء العباسيين وحكام السنة في العراق، هاجروا إلى سوريا الحالية، وكان اسم هذه القبيلة في ذلك الوقت هو النصيريون، ولكن منذ الاحتلال الفرنسي لسوريا أصبح هذا اللقب يستخدم للسخرية من هذه الطائفة.
وتصاعدت حدة الصراعات والاختلافات الدينية بين الأغلبية السنية والأقلية العلوية في سوريا حتى أنه ورد في كتب التاريخ أن صلاح الدين الأيوبي حاول تغيير دينهم، ولكنه لم يفلح. وبقوا علويين ولم يصبحوا سنة، ويكتب ابن بطوبة: “أجبرهم الملك على بناء مسجد في كل قرية، ففعلوا ذلك، ولكنهم لم يدخلوه وربما وضعوا فيه مواشيهم…”.
العلويون هم ثاني أكبر طائفة دينية في سوريا بعد المسلمين السنة، ويعتبر دينهم فرعا من المذهب الشيعي منذ أكثر من خمسين عاما، فرع شيعي يشكل 10-15% من السكان، يتركزون في سواحل اللاذقية وطرطوس، معتقداتهم تمزج الإسلام بألوان الغنوصية والتصوف، مما يميزهم عن كل من السنة والشيعة، حكمت سوريا لعقود، لكن مع رحيل نظام الأسد واشتداد وتيرة الحرب الأهلية تحت حكومة سنية مؤقتة، يواجه العلويون مستقبلا مبهما وسط تقارير عن انتقام أودى بحياة المئات منهم ومن المرتبطين بالنظام السابق.
صرخة أخيرة للبقاء

في العهد الجديد استؤنفت رحلات الحج إلى سوريا من دول مثل العراق وباكستان، لكن ما تزال التوترات مستمرة، حيث يُمنع الإيرانيون، بما فيهم الحجاج، من دخول سوريا منذ 17 يناير/كانون الثاني 2025 في الوقت ذاته، أعلنت هيئة تحرير الشام إحباط مؤامرة لداعش استهدفت مرقد السيدة زينب، بمساعدة الاستخبارات الأمريكية.
والآن يحاول الشيعة السوريون إعادة بناء أنفسهم والتكيف مع الظروف الجديدة بسرعة، ولذلك يعد الدور الذي سيلعبه زعماء الشيعة في النظام، والتفاعل وخلق نموذج جديد للتعايش مع السنة، والحركة المسلحة السورية، وبقايا داعش، سيكون أحد التحديات الرئيسية التي ستواجه الشيعة في سوريا وقد سبق أن طبق هذا النموذج السيستاني في العراق بعد صدام، ومنع الحرب الأهلية وإراقة الدماء.
الشيعة السوريون يقفون اليوم على مفترق طرق مع سقوط نظام الأسد، وصعود حكومة سنية بقيادة هيئة تحرير الشام، يتوقف مصيرهم على قدرة زعيمهم الروحي عبد الله نظام أو أحمد الخطيب على التفاوض والتعايش مع النظام الجديد، فهل سينجح الشيعة في الحفاظ على هويتهم ووجودهم؟ أم أن شبح التهميش والعنف سيظل يطاردهم تحت حكم الشرع؟