- دنيا ياسر
- 52 Views
كتب: محمد مهدي زماني
ترجمة: دنيا ياسر نور الدين
تُعدّ “نهضة التنباكُو” التي وقعت في عامي 1891-1892 حدثا مهما ومصيريا في التاريخ الإيراني. فقد شكّلت هذه الحركة تجسيدا للمقاومة الأولى في وجه الهيمنة الاقتصادية الأجنبية، وبرز من خلالها النفوذ الاجتماعي والسياسي للقيادة الدينية في إيران أواخر القرن التاسع عشر.
لفهم خلفيات هذا الحدث المحوري، لا بدّ من النظر في أوضاع إيران تحت حكم السلالة القاجارية. ففي أواخر القرن التاسع عشر، وبسبب ضعفها الداخلي وضغوط القوى الأوروبية الساعية إلى بسط نفوذها، عمدت إيران بشكل متزايد إلى منح امتيازات اقتصادية متعددة للجهات الأجنبية. وفي 1890 وقّع ناصر الدين شاه القاجاري اتفاقا مثيرا للجدل مع شركة بريطانية تُدعى “شركة التبغ الإمبراطورية الإيرانية”، المعروفة باسمها الفرنسي “رجي” (Régie).
وبموجب هذا الاتفاق، مُنحت شركة “رجي” حق الاحتكار في إنتاج وبيع وتصدير كافة أنواع التنباكُو المزروعة في إيران لمدة خمسين عاما.
وكان مهندس هذا الامتياز من الجانب البريطاني هو الميجر جي. إف. تالبوت، ممثل المستثمرين. ووفقا للعقد، كان من المفترض أن تتلقى الخزينة الإيرانية مبلغا سنويا قدره 15,000 جنيه إسترليني، إضافة إلى ربع أرباح شركة “رجي” بعد خصم أرباح المساهمين بنسبة ستة بالمئة.
ورغم أن الاتفاق بدا ماليا في ظاهره، فإنه حمل تبعات واسعة النطاق على الاقتصاد الإيراني وعلى شعبه.
ولم يكن التنباكُو سلعة هامشية في إيران، بل كان يُزرع على نطاق واسع ويشكّل مصدر رزق لعدد كبير من الفلاحين، كما كان يدعم شبكة واسعة من التجار المحليين. وقد هدد احتكار شركة “رجي” هذا النظام الاقتصادي القائم، إذ وضع أحد القطاعات الزراعية الحيوية تحت سيطرة الأجانب.
وقد اضطر الفلاحون الإيرانيون إلى بيع محصولهم بالسعر الذي تحدده الشركة، فيما حُرم التجار المحليون من أسواق التجارة والتصدير المربحة. وأدى هذا الاضطراب الاقتصادي إلى إثارة موجة من السخط والغضب في مختلف شرائح المجتمع الإيراني.

بدأت بوادر المعارضة ضد امتياز التنباكُو بالظهور في مدن رئيسية مثل طهران وشيراز وأصفهان، حيث لعب التجار الذين كانوا يواجهون خطر الانهيار الاقتصادي دورا فاعلا في تنظيم الاحتجاجات الأولى. وقد توجهوا برسائل عريضة إلى الشاه، وسعوا إلى تحريك الرأي العام ضده. ومع ذلك، فإن هذه التحركات المحلية تحولت إلى حركة وطنية ذات تأثير شامل عندما دخل على الخط القادة الدينيون البارزون من الشيعة.

وكان على رأس هؤلاء العلماء المرجع الديني الكبير ميرزا حسن شيرازي الذي كان يقيم آنذاك في مدينة سامراء (في العراق حاليا). وقد أبدى شيرازي قلقا بالغا إزاء الهيمنة الاقتصادية على إيران وتآكل سيادتها، فبادر بداية إلى مراسلة الشاه عبر الرسائل والتلغرافات مطالبا بإلغاء الامتياز.
ولكن عندما قوبلت مطالبه بالتجاهل من قِبل البلاط، أصدر في عام 1891 فتوى شهيرة ومؤثرة، اعتبر فيها استعمال التنباكُو بأي صورة من الصور بمثابة حرب ضد الإمام المهدي .

وقد كان لفتوى شيرازي أثر فوري ومذهل. ففي مجتمع متجذر في الإيمان الديني ويحترم بشدة العلماء، اكتسب هذا الحكم الديني سلطة أخلاقية واجتماعية هائلة. وانتشرت على إثره مقاطعة شاملة وعفوية للتنباكُو في عموم البلاد. فتم كسر وإلغاء استخدام النراجيل – وهي من مكونات الحياة الاجتماعية والضيافة الإيرانية – في البيوت والمقاهي والتجمعات العامة.
وخيم الصمت على أسواق التنباكُو، وحتى في البلاط الملكي، ورد أن نساء الحرمسرا كسرن نراجيلهن الفاخرة تضامنا مع مشاعر الشعب. وقد دلّ هذا الفعل، الذي وقع في قلب النظام الحاكم، على عمق واتساع رقعة المعارضة.
وقد أدت هذه المقاطعة الواسعة والعزيمة القوية لدى الشعب إلى شلّ أعمال شركة “رجي” تماما، وأدخلت الحكومة القاجارية في أزمة حادة. فقد تسبّب الانقطاع الاقتصادي الناتج عن مقاطعة التنباكُو، جنبا إلى جنب مع الغضب الشعبي المتصاعد، في ممارسة ضغط هائل على ناصر الدين شاه.
ورغم محاولات الحكومة لقمع التظاهرات، بما في ذلك إرسال القوات والتعامل العنيف مع المحتجين في طهران، لم تتراجع الحركة. ومع ازدياد التهديد بوقوع اضطرابات واسعة النطاق وانهيار النظام، وتحت ضغوط داخلية ودولية متزايدة، اضطر ناصر الدين شاه في النهاية إلى الرضوخ لمطالب الشعب. وفي (يناير/كانون الثاني 1892، أصدر مرسوما بإلغاء امتياز التنباكُو. وقد حصلت شركة “رجي” لاحقا على تعويض مالي عن إلغاء العقد، وغادرت إيران.

لم تكن نهضة التنباكُو مجرد خلاف اقتصادي أو نقابي بسيط، بل تحولت إلى حركة وطنية ذات تبعات سياسية واجتماعية عميقة. فقد أظهرت هذه الحركة أن الشعب الإيراني، عندما يتوحد تحت قيادة فعّالة، يستطيع أن يواجه النفوذ الأجنبي ويفرض إرادته الوطنية. وقد أدّت نتائج هذه المقاومة إلى تعزيز الشعور بالفخر الوطني والثقة بالنفس، ومهّدت الطريق أمام الحركات المستقبلية المطالبة بالسيادة والاستقلال.
وفي تحليل الأهمية التاريخية لنهضة التنباكُو، يعتبرها كثير من الباحثين تمهيدا أساسيا للثورة الدستورية التي وقعت بين عامي 1905-1911 بل وحتى مقدّمة ضمن سياق أوسع للثورة الإسلامية عام 1979 ويبرز هؤلاء الباحثون عدة أبعاد رئيسية لهذه الحركة:
تصاعد سلطة القيادة الدينية: أظهرت هذه الاحتجاجات النفوذ الاجتماعي والسياسي الكبير لرجال الدين الشيعة. فقد شكّلت فتوى شيرازي حافزا حاسما لتعبئة جماهيرية واسعة لم يكن بمقدور النخب العلمانية آنذاك تحقيقها، ما أسس لدور محوري للقيادة الدينية في توجيه الخطاب السياسي والوطني.
ولادة الوحدة الوطنية في مواجهة الهيمنة الأجنبية: ولّدت نهضة التنباكُو شعورا غير مسبوق بالوحدة الوطنية بين مختلف طبقات المجتمع الإيراني، تمحور حول سخط جماعي من الاستغلال الأجنبي. وقد عزّزت هذه المقاومة الجماعية من بروز الهوية الوطنية وزيادة الوعي بأهمية الدفاع عن مصالح البلاد في وجه القوى الأجنبية.
تحدٍّ للحكم الاستبدادي: شكّلت مقاومة الشعب الناجحة لأمر الشاه – بتوجيه من القيادة الدينية – تحديا بالغ الأهمية للسلطة المطلقة التي تمتع بها النظام القاجاري، وزرعت بذور المطالبة مستقبلا بتقييد سلطات الملك والمشاركة الشعبية في الحكم.
وفي المقابل، هناك قراءات تاريخية أخرى، رغم اعترافها بأهمية نهضة التنباكُو، فإنها تتبنى موقفا أكثر حذرا حيال الربط المباشر بينها وبين الثورة الإسلامية. حيث تؤكد أن المشهد السياسي والاجتماعي الإيراني قد شهد تحولات جوهرية خلال القرن العشرين، مع بروز أيديولوجيات قومية علمانية وتداخل معقد لعوامل داخلية وخارجية أسهمت في الثورة عام 1979. ومع ذلك، لا شك أن نهضة التنباكُو شكّلت نموذجا أوليا وقويا للتعبئة الشعبية ضد الهيمنة الاقتصادية الأجنبية، وقدّمت مثالا بارزا على التأثير العميق للقيادة الدينية في المجتمع الإيراني، وخلّفت إرثا راسخا في الوعي السياسي الوطني.
في الختام، تبقى نهضة التنباكُو لحظة مفصلية في التاريخ الإيراني، تحمل في طياتها دروسا خالدة حول أهمية الوحدة الوطنية، وقوة المقاومة الشعبية، وتعقيدات التفاعل مع النفوذ الأجنبي. لقد أثبتت هذه الحركة أن أمة موحدة، بقيادة شخصيات ذات نفوذ، قادرة على الانتصار حتى في وجه قوى تبدو لا تُقهَر، وتقرير مصيرها بنفسها. ويظل صدى نهضة التنباكُو حاضرا في السرد التاريخي الإيراني، ومصدرا للإلهام لفهم الماضي واستشراف المستقبل.