تحليل أولى بوادر المقاومة المسلّحة ضد إسرائيل في سوريا الجديدة

كتب: علي رضا مجيدي

ترجمة: علي زين العابدين برهام

في مساء الثاني من أبريل/نيسان 2025، صدحت مآذن المساجد في مدن «نوى» و«جاسم» وعدد من المناطق الغربية بمحافظة درعا بنداء “حي على الجهاد”، فهبّ شباب المنطقة مدججين بأسلحة خفيفة لمواجهة العدوان الإسرائيلي، وتمكنوا من إجبار القوات الإسرائيلية على التراجع. 

فهل كان هذا الحدث عفويا ومفاجئا؟ وكيف يمكن فهم أبعاده وتحليله؟ نستعرض في هذا المقال تفاصيل هذا التطور اللافت.

مساعي تركيا لإقامة قاعدة عسكرية في وسط سوريا

قدّمت تركيا عرضا للولايات المتحدة يتضمّن تمركز الجيش التركي في مطارات “تيفور”، و«الشعيرات» و«حماة»، مقابل السماح للأمريكيين بالسيطرة على قاعدتين عسكريتين على الأقل في جنوب ووسط سوريا.

وللتوضيح، فإن مطار «حماة» يقع في الجهة الغربية من مدينة حماة، بينما يقع مطارا «T4» و«الشعيرات» في القسم الشرقي من محافظة حمص. وبعبارة أخرى، لم يكن المخطط التركي يتجاوز مسافة 50 كيلومترا جنوب مدينة حمص.

في المقابل، عرضت أنقرة على واشنطن إنشاء قواعد عسكرية في محافظتي دمشق والسويداء.

لكن الرد الأمريكي كان حاسما: “تل أبيب لن تقبل بذلك أبدا!”.

التطورات الميدانية خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة

بالتزامن مع الرفض الأمريكي لعرض تركيا، قامت القوات الأمريكية باتخاذ خطوات ميدانية ذات دلالة استراتيجية. وكان أبرز أدوات واشنطن في هذا السياق هو فصيل «جيش سوريا الحرة»، الذي أنشأه الجيش الأمريكي في منطقة التنف، حيث تم تدريبه وتجهيزه ليُشكّل حاليا فرعا شبه مستقل من “الجيش السوري الجديد”.

منذ سقوط بشار الأسد، تسيطر هذه المجموعة على مدينتي «القريتين» و«مهين»، الواقعتين على مسافة تقل عن خمسين كيلومترا من قاعدتي «تيفور» و«الشعيرات». وقد مارست هذه القوات ضغوطا على دمشق لتعيين «فريد القاسم» – القائد السابق لجيش سوريا الحرة والمنحدر من القريتين – كقائد عسكري أعلى للمنطقة، بحيث لا تتحرك أي قوة عسكرية فيها دون إذنه.

في منتصف شهر رمضان، دخلت قوات «جيش سوريا الحرة» مدينة «تدمر» للسيطرة فعليا على محيط قاعدة تيفور من الجنوب والشرق. وفي اليوم الأخير من رمضان، توغلت هذه القوات في مدينة «الضمير» وأقامت حاجزا أمنيا، مما منحها السيطرة الفعلية على المدينة. كما أفادت مصادر غير رسمية بدخولها إلى «مطار الضمير» ووجود مستشارين أمريكيين هناك.

في الوقت نفسه، أصبحت قاعدة «مطار السين» العسكري أيضا تحت سيطرة “جيش سوريا الحرة”.

وقد زعمت بعض المصادر غير الرسمية أن تركيا كانت قد اقترحت أن تمنح الولايات المتحدة السيطرة على اثنين من مطارات «الثعلة»، «خلخلة»، «السين» و«الضمير»، مقابل تمركز القوات التركية في المطارات الثلاثة الأخرى (تيفور، الشعيرات، وحماة). ولكن ما حدث ميدانيا كان أن القوات المدعومة من واشنطن تمركزت قرب تيفور والشعيرات، وسيطرت فعليا على مطاري الضمير والسين.

أما مطاري «خلخلة» و«الثعلة» الواقعين في محافظة السويداء، فهما حالياً في محيط تسيطر عليه مجموعات درزية مسلحة محلية.

من جهة أخرى، يجدر بالذكر أن قيادة الفرقة 25 في «الجيش السوري الجديد» آلت إلى «محمد الجاسم» الملقب بـ«أبو عمشة» – القائد السابق لفصيلي «سليمان شاه» و«السلطان مراد»، وأحد أبرز وكلاء تركيا في سوريا، والذي أرسل أيضا قوات للقتال في ليبيا نيابةً عن أنقرة.
وتُعدّ الفرقة 25 المسؤولة عن منطقة حماة ضمن تقسيمات الجيش، ما يعني أن «مطار حماة» قد أصبح عمليًا تحت سيطرة حلفاء تركيا.

التدخل الميداني المباشر للجيش التركي

خلال الأسبوع الماضي، أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تصريحات شديدة اللهجة ضد إسرائيل. وبعد دخول القوات المدعومة من الولايات المتحدة إلى مدينة «الضمير»، أعلنت أنقرة أنها ستقوم بنشر قوات عسكرية ومنظومات دفاع جوي داخل الأراضي السورية.

وبناء على ذلك، تحركت أرتال عسكرية تابعة للجيش التركي باتجاه مطار “تيفور” تمهيدا لتمركزها هناك.

الرد الانتقامي من تل أبيب
ردا على هذه التحركات، شنّ الاحتلال الإسرائيلي غارات جوية على ثلاثة مواقع استراتيجية، شملت مراكز «البحوث العلمية» في منطقة المزة بدمشق، إضافة إلى مطاري «تيفور» و”حماة”.

وقد كانت شدة القصف على مطار حماة بالغة، لدرجة أن بعض المصادر أفادت بمقتل «أبو عمشة». إلا أن الأخير نفى تلك الأنباء عبر تقرير مصوّر تحدّث فيه أمام الكاميرا، مؤكدا أنه لا يزال على قيد الحياة.

الدقة في اختيار الأهداف الثلاثة للهجمات تحمل دلالات مهمة:

  1. مركز البحوث العلمية (العسكرية): يقع هذا المركز قرب مطار المزة العسكري، والذي يُعد مقر قيادة الدفاع الجوي وأهم قاعدة لمنظومات الدفاع في الجيش السوري. قصف هذا الموقع يُعتبر رسالة مباشرة تحذر من أي محاولة لنصب منظومات دفاع جوي جديدة.
  2. مطار تيفور: وهو الوجهة التي كانت تتحرك نحوها أرتال الجيش التركي المتوغلة في وسط سوريا. ولم تمضِ 24 ساعة على دخول هذه القوات، حتى تعرّض المطار للقصف من قبل إسرائيل، في رسالة واضحة مفادها أن تل أبيب لن تتساهل مع تمركز الجيش التركي في قلب سوريا.
  3. مطار حماة: نال القصف الأشد بين المواقع الثلاثة. وكما أُشير في نهاية فقرة “التطورات الميدانية خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة”، فإن محافظة حماة باتت ضمن نطاق نفوذ وكلاء تركيا ضمن التقسيمات الجغرافية والإدارية الجديدة في الجيش السوري. 

ومع أن الجيش التركي لم يتمركز هناك رسميا بعد، فإن الغارات العنيفة والواسعة على هذا المطار، والتي هدفت إلى إيقاع خسائر بشرية كبيرة، تؤكد أن إسرائيل مستعدة حتى لاستهداف الجنود الأتراك أنفسهم، إذا اقتضى الأمر، وأنها توجّه تحذيرا صريحا لأنقرة مفاده أن أي تمركز تركي في وسط سوريا لن يُسمح به – ما لم يتم بتوافق مباشر مع تل أبيب.

الجهاد في جنوب سوريا

بالتوازي مع الغارات الجوية، تقدّمت القوات البرية للجيش الإسرائيلي في جنوب سوريا، وتمكّنت من دخول مناطق جديدة في غرب محافظة درعا، حيث وصلت إلى أطراف مدينة «نوى»، وهي من أكبر مدن المحافظة، ويتميّز سكانها بانتماء قبلي قوي واعتزاز كبير بهويتهم.

وقد أشعل هذا التقدّم انتفاضة واسعة في المنطقة، حيث خرج الشباب لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي بأسلحة خفيفة.
رغم غياب التنظيم والتخطيط المسبق، دخل شباب درعا المعركة ببسالة، مدفوعين بالحماسة والشجاعة، دون أن يمتلكوا سوى أسلحة فردية خفيفة. بل إن مستوى الفوضى كان لدرجة أن إحدى المجموعات الشبابية حاصرت عن طريق الخطأ مجموعة أخرى من أبناء مدينة نوى!

ورغم ذلك، أدت هذه الانتفاضة إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي بعد حوالي أربع ساعات من الاشتباكات العنيفة. وقد أسفرت المواجهات عن استشهاد ما بين 15 إلى 22 سوريا، إضافة إلى إصابة أكثر من 20 آخرين.

أما في الجانب الإسرائيلي، فقد رُصدت طائرات مروحية تقوم بنقل جرحى، إلا أن الجيش الإسرائيلي لم يعلن عن عدد المصابين في صفوفه. لكن النتيجة المؤكدة لهذه المقاومة كانت إجبار القوات الإسرائيلية على الانسحاب من هذا المحور.

التحرّكات الميدانية ضد إسرائيل: عفوية أم منظّمة؟

في هذا السياق، يبرز تساؤل طبيعي: من هم الشبان الذين قاتلوا ضد الإسرائيليين؟ هل كانت تحرّكاتهم عفوية أم مدعومة من أنقرة؟ وما علاقتهم بالحكومة الجديدة في دمشق؟

بدايةً، من المهم الإشارة إلى أن تركيا، حتى في ذروة الحرب الأهلية السورية، لم يكن لها نفوذ مباشر في جنوب سوريا، كما أن الفصائل المسلحة في الجنوب لم تكن على صلة وثيقة بأنقرة.

يمكن تقسيم الفصائل المسلحة الناشطة في محافظة درعا إلى أربع فئات رئيسية. إحدى هذه الفئات تُطلق على نفسها اسم “الثوار الحقيقيون”، وهم الذين رفضوا الانضمام إلى الجيش السوري في تسويات عام 2018، وشكّلوا خلايا مقاومة صغيرة مناهضة لدمشق في مختلف مناطق درعا.
يعتمد هؤلاء على دعم قبائلهم المحلية فقط، وحتى في ذروة نفوذ “الجبهة الجنوبية”، كانوا يرفضون التبعية للأوامر القادمة من الأردن، وينتقدون قادة هذه الجبهة.

علاقتهم مع الحكومة السورية الجديدة ليست ودية، وقد دخلوا في مواجهات مباشرة معها، أبرزها ما حدث في مدينة “الصنمين”، حيث اضطرت دمشق إلى إرسال فرقة مدرعة لقمعهم باستخدام الدبابات.

أما بالنسبة لأحداث تلك الليلة، فقد كانت غير مرغوبة من قبل الحكومة، حيث أقيمت حواجز تفتيش في شمال محافظة درعا، وتحديدًا في “الصنمين” و”جاسم”، لمنع دخول المتطوعين إلى مناطق الاشتباك.
وللتوضيح، فقد أطلقت قبيلة “العقيدات” في ريف دمشق نداء جهاد، فتوجهت مجموعتان من مدينة “صحنايا” نحو “نوى”، لكنهما أُوقفتا في “جاسم” و”الصنمين” على يد عناصر من هيئة تحرير الشام.

من جهة أخرى، شخصيات مقرّبة من الحكومة مثل “ماجد عبدالنور” و”أيمن هاروش” انتقدت تحرّك أهالي درعا بشكل مباشر وغير مباشر. أما “أبو محمد الحوراني”، أبرز ناشطي الإعلام في هيئة تحرير الشام بدرعا، فكان غائبًا تمامًا عن تغطية الأحداث، ولم يكتب سطرا واحدا عنها حتى لحظة إعداد هذا التقرير، في ما يبدو أنه جزء من سياسة تهميش وتجاهل متعمد.

كذلك، الصحفي “عمر الحريري” – وهو أبرز إعلامي في درعا وله صلات بالحكومة الجديدة، وإن لم يكن تابعا رسميا لها – قطع تغطيته للأحداث بعد ساعة أو ساعتين، ما أثار استياء واسعا بين متابعيه. وقد حاول في صباح اليوم التالي، بعد انسحاب القوات الإسرائيلية، تبرير هذا التجاهل.

من اللافت أن قناة “كان” الإسرائيلية زعمت أن الحريري نفسه كتب مقالا لها يدعو فيه إلى السلام بين سوريا وإسرائيل!

الخلاصة

في الثاني من أبريل/نيسان 2025، شهد جنوب سوريا لأول مرة احتجاجات مسلحة شعبية وعفوية واسعة النطاق ضد الاعتداءات الإسرائيلية، ما أدى إلى تراجع القوات الإسرائيلية.

ويمكن، مع بعض التساهل في المقارنة، تشبيه أحداث تلك الليلة بما جرى فجر العاشر من أيار عام 2018، حين أدّت التطورات إلى امتناع إسرائيل مؤقتا عن مواصلة اعتداءاتها على سوريا. لاحقا، اعتمدت إيران والمقاومة خيار “الصبر الاستراتيجي”، الذي باتت نتائجه معروفة للجميع.

أظهرت تلك الأحداث أن أهالي درعا يمتلكون قدرة كبيرة على الردع في مواجهة إسرائيل واستراتيجيتها المعروفة بـ”الاستنزاف”.

وإذا نجحت الحكومة السورية – وربما تركيا أيضا – في استقطاب هذه الطاقة الكامنة وتفعيلها، فسيُصار إلى كبح جماح إسرائيل، وربما إحياء اتفاق وقف إطلاق النار لعام 1974. أما في حال الفشل، فلن يبقى أمام دمشق خيار فعّال سوى التوصل إلى اتفاق، يُحتمل أن يتضمن شكلا من أشكال “التطبيع”. وفي غير هذه الحالة، ستكون البلاد مهددة بالتقسيم. 

أما فيما يتعلق بالموقف المقترح للمقاومة وإيران، فمن المنطقي اعتبار أن تقسيم سوريا – خاصة مع انخراط مباشر من إسرائيل ودفعها نحو مشروع “ممر داوود” – يُشكل تهديدا بالغ الخطورة على إيران.

خريطة مناطق النفوذ التابعة لـ”جيش سوريا الحرة”

في الجزء الأول من هذا المقال، وتحت بند “التطورات الميدانية خلال الأسابيع الثلاثة الماضية”، تم التطرق إلى التحركات العسكرية لـ «جيش سوريا الحرة»، باعتباره القوة الوكيلة الأبرز للولايات المتحدة داخل الأراضي السورية.

تُظهر الخريطة المرفقة التوزيع الجغرافي لمناطق النفوذ، مع التمييز بين قوات الجيش النظامي التابع لدمشق، و«الجيش الوطني»، و«جيش سوريا الحرة»، حيث تبرز المناطق الخاضعة لسيطرة الأخير.

ويعود تاريخ إعداد هذه الخريطة إلى حوالي 20 مارس/آذار، وهو التوقيت الذي كانت فيه قوات «جيش سوريا الحرة» قد دخلت مدينة تدمر (بالميرا)، لكنها لم تكن قد بسطت سيطرتها بعد على مدينة الضمير.

كما أُشير في النص، فإن «جيش سوريا الحرة» تمكن في 30 مارس/آذار من السيطرة على مدينة الضمير بشكل كامل. وقد نُشرت صور توثق هذه السيطرة، في حين قامت وسائل الإعلام المقربة من دمشق بنقل الخبر كما هو، من دون إنكار أو تحريف، ما يُعد بمثابة تأكيد رسمي على وقوع الحدث.