بمناسبة عرض فيلمه الجديد.. الإيراني مهران مديري: كوميديان متألق ومخرج غير متمكن

كتب- محمد علي

أعاد عرض الفيلم الثاني للممثل والمخرج ومقدم البرامج الإيراني، مهران مديري،  “السادسة صباحاً” والذي أقيم بفندق إسبيناس بالاس في العاصمة طهران، وشهد واحداً من أكثر العروض الخاصة ازدحامًا في السينما الإيرانية بحضور عدد كبير من الوجوه السينمائية، صاحبه إلى الأضواء مرة أخرى. كما أن تقديمه لبرنامج المسابقة الجديد  “خمن في أي يد” على شبكة العرض المنزلي ساعد في جعله محط أنظار النقاد والجمهور. ولكن بعد كل تلك الضجة والإعلانات، جاءت النتيجة مخيبة للآمال بفيلم ضعيف وسيء،  مما يعني أن مهران لم يستطع إثبات نفسه كمخرج سينمائي للمرة الثانية بعد فيلمه الأول  “الساعة 5 عصرًا” والذي لم يحقق نجاحًا أيضًا، وبكل صراحة، يمكن القول إن مهران مديري ليس مخرجًا جيدًا في الدراما ولا ممثلًا جيدًا في الأدوار الجادة.

كوميديان مبدع

وفقًا للتقرير الذي نشرته صحيفة هم ميهن الإيرانية يوم الثلاثاء 20  أغسطس/ آب  2024، فالحقيقة أنه لا يمكن إنكار قدرة وذكاء مهران مديري في الكوميديا التلفزيونية وإنتاج الأعمال الكوميدية، ولكن يجب حصر موهبته في هذه الفئة من الأعمال فقط. فقد أظهر نبوغه في سن 26 بأدائه في المسلسل  الكوميدي “الرحلة 57″، وثبتت موهبته الناضجة في “ساعة السعادة”، حيث استطاع تقديم كوميديا ناجحة. كما تمكن من تحويل ممثلين غير معروفين إلى نجوم، وخلق فريقًا احترافيًا، ليصبح مؤسسًا لأحد أهم الأعمال التلفزيونية في مجال الكوميديا. لكن هذه الأعمال لم تجلب له الشهرة فقط، بل واجه بسببها أيضًا هو وفريقه مشاكل عديدة، في حين لم ترُق الكوميديا في “ساعة السعادة” لبعض نوعيات المشاهدين، مما جعله في مرمى الانتقادات اللاذعة من بعض التيارات السياسية، ومنها صحيفة كيهان.

وعلى ما يبدو أن الانتقادات والضغوط الخارجية التي تعرض لها قد أدت إلى إنهاء عرض “ساعة السعادة” وهو في ذروته، حتى أن فريق العمل قد  مُنع  من الظهور على شاشة التلفزيون لمدة أربع سنوات. وعلى هذا يمكن اعتبار هذه الفترة “عصر ظهور مهران مديري”، حيث أصبح مؤسسًا للكوميديا البسيطة وكوميدي الخيال المبدع في التلفزيون.

وتتجلى الفترة الثانية من مسيرة مهران مديري في مشاركته في أعمال تليفزيونية كوميدية مثل “النقاط”، “بهدوء”، “الجائزة الكبرى”، “الرجل ذو الألف وجه”، “الرجل ذو الألفي وجه”، و”ليالي برره”. وعلى الرغم من اختلاف المستوى الفني لهذه الأعمال، إلا أنها شكلت نموذجًا للكوميديا التلفزيونية بأركان مشتركة، مما أسس لنمط كوميدي. وفي هذه الأعمال برزت بعض ملامح الكوميديا النقدية، والتي كانت تتناول بشكل عام القضايا الاجتماعية وأنماط الحياة والسلوكيات العامة.

والفترة الثالثة من مسيرته تشكلت بظهور شبكة العرض المنزلي، حيث قدم أعمالًا مثل “قهوة مرة”، “الوحش”، و”دراكولا”. وعلى الرغم من الاختلاف بين أعماله الأولى على هذه الشبكة وأعماله التي تلتها، إلا أنها شهدت تراجعًا واضحًا لنجم كوميدي كان يومًا ما متألقًا. بمعنى أن “قهوة مرة” كانت نتيجة لفترة جفاء أو ابتعاد مهران مديري عن التلفزيون، حيث تم إنتاجها خارج الأطر والمعايير والقيود التي تفرضها وسائل الإعلام الوطنية. وقد أصبحت بفضل نبرتها النقدية الحادة، خاصة في مجال السياسة والسلطة وما يتعلق بهما ضمن سياق كوميدي تاريخي، عملاً مؤثرًا وباقيًا في الذاكرة، والذي على الرغم من نهايته غير الواضحة، إلا أنه لا يزال يشار إليه حتى اليوم في الأوساط العامة، وخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، لتحليل وقراءة الأحداث السياسية اليومية وانتقاد الوضع السياسي الراهن.

ومن بين أعمال مهران مديري، فتعتبر “قهوة مرة” في شبكة العرض المنزلي و”ليالي برره” في التلفزيون من أكثر الأعمال التي حظيت بالاهتمام، حيث كانت السمة المشتركة بينهما تكمن في النبرة والأسلوب النقدي تجاه الفوضى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فشهرة مهران مديري جاءت بالضبط من هذه النقطة ومن هذه الأعمال، حيث إن جزءًا من شعبيته يعود إلى براعته وإبداعه في الكوميديا والتمثيل، بينما يعود جزء آخر إلى أسلوبه النقدي لأوضاع المجتمع. لكن هنا نواجه تناقضًا وحالة معقدة والتي عند فك تعقيدها سنتمكن من فهم وضع مهران مديري الحالي بشكل أوضح؛ حالة متناقضة تنبع من علاقة مديري بالسياسة والنقد، أو بالأحرى نقد السياسة.

فلطالما كان مديري ناقدًا محببًا في مجال الكوميديا حتى قبل إنتاج مسلسل غير رسمي بعنوان “قنبلة الضحك” والذي كان يسخر فيه من القنوات الفضائية وبرامجها. ولكن ذلك العمل كان بداية ظهور الشكوك والانتقادات تجاه مهران مديري، حيث اعتبرها البعض عملاً بتكليف من جهة بعينها. بمعنى آخر، طالما أن عمل مهران مديري ينظر إليه من قبل الرأي العام بأنه عمل مستقل وغير مرتبط بأي مؤسسة أو جهة، فإن نقده يقابل بكونه نقدًا صادقًا، لكن عندما تتزايد الشكوك حول كونه عملاً موجها في المجتمع أو على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن هذا النقد يوصف بأنه نقد منافق.

فترة برنامج “دورهمي”

مع ظهور برنامج “دورهمي” وبداية مرحلة جديدة من نشاطات مهران مديري في التلفزيون، والتي تميزت ببرنامج وأسلوب مختلف تمامًا عن أعماله السابقة، أصبحت شخصية مديري الحقيقية أكثر وجودًا في مركز الاهتمام والنقد. هذه المرة، لم يكن مديري المخرج أو الممثل هو الذي يظهر، بل كانت شخصيته الحقيقية تظهر في البرنامج بصفته مقدمًا ورجل عرض أمام الجمهور.

فمديري، الذي كان معروفًا دائمًا بأنه فنان مبتكر ومبدع، وُجهت له اتهامات بتقليد برنامج أجنبي. ومن جهة أخرى، فقد كان يتحدث بشكل مباشر أمام الجمهور الحاضر وبأسلوب أكثر صراحة في نقد القضايا العامة والتحديات المجتمعية. فتلك المرة، آتت الانتقادات مديري نفسه وليس من خلال الشخصيات والأدوار التي يلعبها.

فالصراحة التي استخدمها مديري في نقده من جهة، والخلافات التي دبت بين الحكومة وهيئة الإذاعة والتليفزيون الإيرانية من جهة أخرى جعلت انتقاداته تبدو للبعض وكأنها ليست جريئة وشجاعة كما في السابق، بل دافعها هو التخريب أو التبرير.

في هذا السياق، فقد اعتبر أولئك الذين يدعمون سياسات الحكومة أن مديري فنان موجه يبيع فنه من أجل المال والمزايا، وأنه من أجل البقاء في التلفزيون وتحقيق الأرباح الضخمة، استسلم لمطالب المنظمة التي يعمل فيها. بينما من يعارضون كلا الطرفين السياسيين في البلاد، الإصلاحي والأصولي، وصفوه بأنه مجرد “صمام أمان”، وأن نقده ليس إلا استعراضًا للديمقراطية وحرية التعبير في هيئة الإذاعة والتليفزيون.

حتى الأعمال التي قدمها مديري بعد “دورهمي” لشبكة العرض المنزلي كان يتم تقييمها من خلال هذه الزاوية، حيث اعتبر أن مديري لم يعد يهتم بجودة أعماله، وأن إنتاج المسلسلات أصبح بالنسبة له مجرد مصدر دخل ضخم. ظهوره في إعلانات سلسلة المتاجر الكبرى “رفاه” زاد الطين بلة مما قلل من شعبيته وساهم في تآكل مكانته السابقة.

وبعيدًا عن هذه التحليلات الفرعية التي لا يمكن تجاهلها، يتمتع مهران مديري بعبقرية فطرية في مجاله، تندمج مع جاذبيته الشخصية مما جعله نجمًا كبيرًا وأسطورة، أو كما يُطلق عليه في مواقع التواصل زعيم الكوميديا. فبالطبع لا يمكن إنكار مهارات مهران مديري المميزة، لكنه الآن يمر بأفول كنجم كبير، ليس فقط لأسباب تتعلق بالتحليل الفرعي وعلاقته المعقدة مع الخطاب الرسمي، بل أيضًا من الناحية المهنية ومن منظور المعايير الفنية والجمالية.

أظهر مسلسلاه الأخيران أن مديري، في المقام الأول، هو صانع كوميديا بأسلوب خيالي مبدع ومعتمد على المشاهد القصيرة، وليس لديه قدرة كبيرة على إنتاج الكوميديا القصصية أو السينمائية أو كوميديا المواقف. فعلى سبيل المثال، فيلمه “الساعة 5 عصرًا” قد فشل حتى في التمثيل، إذ هو ناجح في أداء الشخصيات النمطية أكثر من التمثيل الواقعي أو المرتكز على الشخصية. وهذا يتجلى في أدائه السيء في فيلم “شجرة الجوز”. كما أن قدراته الإخراجية تبرز في بناء الشخصيات النمطية أكثر من بناء الشخصيات العميقة.

كوميديان محترف أم رجل عرض حسب الطلب

وبغض النظر عن كل ما ذكر سلفًا، فإن ما يضع مهران مديري الآن في قلب الجدل هو وضعه الذي يستحق التأمل والسؤال الذي يفرض نفسه عن كونه كوميديًا محترفًا أم رجل عرض حسب الطلب. الحقيقة أنه كلما صنع أعمالًا مستقلة تألق ككوميدي، لكن عندما تظهر علامات التبعية لجهة أو مؤسسة معينة، يتحوّل إلى فنان موجه. وبالطبع، أن تكون “رجل عرض” هو فن بحد ذاته، ومديري يمتلك قدرات خاصة في ذلك، لكن تناقضاته وسلوكه المزدوج بين السلطة والشعب يقوده من طريق الازدهار الشخصي إلى التدمير الذاتي. فمكانته وشعبيته بعد حركة “المرأة، الحياة، والحرية” لم تعد كسابق عهدها.

في البداية، أعلن مديري دعمه للحركة بنشر مقطع فيديو وأعرب عن تأييده للمتظاهرين. كان مديري من أوائل الفنانين الذين استجابوا للاحتجاجات، واصفًا حالة المجتمع بأنها “أيام مليئة بالغضب، والكبت، والدموع”، ودعا المسؤولين إلى عدم استخدام “العنف” ضد الشعب، كما أعلن أنه لا يريد أن يُعرض “حتى مشهد” من أعماله، سواء كممثل أو مخرج أو مقدم برامج، على قنوات الإذاعة والتليفزيون. لكنه سرعان ما تراجع عن تصريحاته في مقطع فيديو آخر، حيث قدم اعتذارًا تلفزيونياً قال فيه: “كل من وُلد في هذا البلد يحب أرضها، أمنها، وسلامتها. لدينا جميعًا شعور وطني وسنظل دائمًا نحمله”.

وأضاف مديري في هذا الفيديو: “أنا بالفعل صانع كل الأعمال التي قدمتها للتلفزيون، لكنني لست مالكها. ملكية أي عمل في التلفزيون تعود لمؤسسة الإذاعة والتليفزيون، والقرار بشأن بثها أو عدمه هو بيد تلك المؤسسة”. وأكد على أهمية الوطن والأمن القومي والاستقلال بقوله: “من منا يعرف إيرانيًا محبًا لبلده يريد أن يرى بلده ممزقة؟ لكن هناك آخرين ليسوا من هذا الوطن، دائمًا يسعون لاستغلال وتوظيف كل ما يحدث لصالحهم. وهذا تصرف غير شريف”. وأشار مديري إلى أن الشعب الإيراني الذكي والحبيب سيتخذ دائمًا القرار الأفضل لبلده، وقال: “لدي مشكلة دائمًا مع وسائل التواصل الاجتماعي، فهي رغم فوائدها، تحمل الكثير من السلبيات. علينا أن نكون أكثر حذرًا من وسائل التواصل الاجتماعي ومن أنفسنا. جميع هذه التصريحات المنقولة والأخبار والإشاعات الغريبة تضر بنا وتؤدي إلى ارتكاب الأخطاء في فهم الأحداث والأشخاص وحتى أنفسنا. آمل أن تحدث أفضل الأمور للشعب الإيراني. أنا آمل أن أرى أيامًا أفضل ومستقبلًا مشرقًا. وأسأل الله أن يحيط جميع الشعب الإيراني بحفظه”.

استنتج بعض الناس بعد رؤيتهم لتغير أسلوب مديري، حتى من خلال لغة جسده، أنه كان تحت ضغوط لقول هذا، بينما رأى آخرون أن تراجعه يعود لديونه المالية ومشاكله مع هيئة الإذاعة والتليفزيون. لكن المحصلة النهائية هي أن مهران مديري لم يعد يملك نفس الشعبية والاحترام السابقين. الكثيرون باتوا ينظرون إليه بشك ويصفونه بالكوميدي الانتهازي الذي يقيس موقفه بما يعود عليه من ربح.

الآن، يُعتبر من الناحية السياسية فنانًا انتهازيًا، وفي السينما يُنظر إليه كمخرج وممثل فاشل لم يستطع إعادة نجاحاته السابقة في شبابه. من خلال برنامجه “دورهمي”، تحول من أداء الأدوار إلى تقديم شخصيته الحقيقية، فتحول من كونه كوميديًا إلى رجل عرض وربط هذا بتقديم البرامج ليختبر نوعاً من “الستاند أب كوميدي”. لقد نجح في هذا، لكن لأكثر من عقد من الزمن لم تعد شخصياته محور الاهتمام، بل أصبح هو نفسه في بؤرة الضوء، مما جعله نجمًا كبيرًا. لكن هذه كانت بداية مرحلة أفوله.

لا يمكن إنكار مهاراته وقدراته الإبداعية وجاذبيته الشخصية أو تأثيره في مجال الكوميديا التلفزيونية، لكن عندما تطغى السياسة والتجارة على روح الفن والفنان، تُكسر هيبته، ويذهب احترامه ويفقد حريته وشخصيته. مهران مديري كان دائمًا يتألق عندما يلعب في ميدانه التمثيلي الخاص حيث يقدم تجربة جميلة للمشاهد، حتى عندما قدم “قهوة مرة”، لكن عندما دخل لعبة السلطة والتجارة، خسر وتراجع، بما في ذلك تجربته في الغناء على المسرح، حتى أن حسه الكوميدي بدأ يأخذ طابعاً تجارياً.

يمكن تتبع بداية هذا التراجع منذ تمثيله لمسلسل “قنبلة الضحك”. تلك “القنبلة” التي أنهت على مسيرته وتحول العمل الذي كان من المفترض أن يكون عملاً نقدياً إلى انتحار فني له. يبدو أن مديري، خلال هذه السنوات، بتحوله إلى رجل عروض، قد فقد هويته ككوميدي بارع في الكوميديا النمطية وتحول إلى شخصية مشهورة فحسب. كان مديري كنزاً فنياً، لكنه أساء استخدام نفسه وابتعد عن قمة نجاحاته. عندما تتعلق نفسك بأحلام الشهر والدلال والنفوذ، تفسد فنك، وعندما تلتف حول نفسك، تفقد نفسك. ومع ذلك، يبقى مهران مديري كنزاً فنياً نأمل أن يعود إلى سابق عهده من جديد.