كتب: محمد بركات
في ظل تصاعد التوترات الإقليمية وتداخل المصالح بين الفاعلين الإقليميين، عاد ملف العلاقات الإيرانية الأذربيجانية إلى الواجهة، بعد تصريحات إعلامية أثارت موجة من الجدل وردود الفعل الحادة في طهران.
تأتي هذه التطورات في سياق إقليمي مضطرب، حيث تتشابك الاعتبارات القومية والجيوسياسية، وتتزايد المخاوف من تحولات قد تُفضي إلى إعادة رسم خارطة النفوذ في جنوب القوقاز.
فخلال برنامج تلفزيوني بُث عبر القناة الرسمية في باكو، السبت 22 مارس/آذار 2025، دعا أحمد أوبالي، الناشط التركي الأذربيجاني، إلى ما سماه تحرير أذربيجان الشمالية، وهي المناطق الواقعة في شمال غربي إيران.
كذلك، فقد اعتبر أن هذا الإجراء خطوة ضرورية لتحقيق ما دعاه العالم التركي، وقد أيد مقدم البرنامج هذه الدعوات قائلا: “هذا هو حلمنا جميعا”.

هذا وقد أثارت تلك التصريحات حفيظة الإعلام الإيراني، حيث علق موقع بارسينه الإيراني الأحد 23 مارس/آذار 2025، على تلك المقابلة، فقال: “إن تلك التصريحات تُطرح في وقت لا يبدي فيه مسؤولو جمهورية أذربيجان، ومن ضمنهم إلهام علييف، رئيس البلاد، أي رد فعل جدي رغم التهديدات المتكررة التي تستهدف وحدة الأراضي الإيرانية، هذا الصمت واللامبالاة يثيران تساؤلات جدية حول المواقف الرسمية لباكو والأهداف الكامنة وراءها”.

وأضاف: “هذا الحدث يكشف مرة أخرى عن ضرورة يقظة المسؤولين الإيرانيين وسرعة تحركهم في مواجهة التهديدات الخارجية والداخلية التي تستهدف وحدة أراضي البلاد”.
من جانبه، كتب إحسان موحدیان، الخبير في شؤون منطقة القوقاز، على حسابه بمنصة إكس، السبت 22 مارس/آذار 2025، تعليقا على ذلك، قائلا: “التهديد الرسمي لوحدة أراضي إيران عبر التلفزيون الرسمي في باكو: أحمد أوبالي الانفصالي يصرح بأنه لتحقيق العالم التركي، فإن تحرير أذربيجان الجنوبية أمر ضروري ولا مفر منه، ليرد عليه المذيع الأذربيجاني بأن هذا هو حلمنا جميعا”.
وتساءل: “لماذا لا يشعر علييف بأي خطر من كل هذه التهديدات الوجودية ضد إيران؟ وأين هم المسؤولون الذين تقع عليهم مسؤولية التعامل مع هذا الملف؟”.

الخلفية التاريخية للعلاقات الإيرانية الأذربيجانية
في السنوات الأخيرة، تصاعدت حدة التوتر بين إيران وأذربيجان، خاصة بعد نهاية حرب قره باغ الثانية عام 2020، هذا التوتر، وإن بدا في ظاهره خلافا على بعض النقاط الحدودية، إلا أنه في عمقه يعكس صراعا استراتيجيا أوسع يشمل جوانب جيوسياسية، ومصالح قومية، وتحالفات إقليمية معقدة تتقاطع فيها مصالح إيران، وتركيا، وروسيا، وإسرائيل.
فمنذ استقلال أذربيجان عن الاتحاد السوفيتي في نوفمبر/تشرين الثاني 1990، وقد اتسمت العلاقات بين طهران وباكو بالفتور وعدم الثقة، فخلال حرب قره باغ الأولى في التسعينيات، امتنعت إيران عن دعم أذربيجان عسكريا، رغم المجاورة الجغرافية والروابط العرقية مع الأقلية الآذرية داخل إيران.
وعكس ذلك، مالت طهران إلى موقف أقرب إلى الحياد المائل لأرمينيا، وهو ما خلّف جراحا سياسية لم تندمل في الوعي الأذربيجاني.

فلقد كانت إيران تنظر بريبة إلى التوجهات القومية في باكو، خاصة عندما كان هناك حديث عن وحدة أذربيجان الكبرى، وهي فكرة تعني ضم المناطق ذات الغالبية الأذرية من شمال غربي إيران. من هنا، تعاملت طهران دوما بحذر مع باكو، وسعت للحفاظ على توازن جيوسياسي عبر التحالف مع يريفان.
نهاية حرب قره باغ الثانية وتغير موازين القوى
مثّلت نهاية حرب قره باغ الثانية نقطة تحول استراتيجية في المنطقة، فقد استعادت أذربيجان، بدعم تركي مباشر وتسليح متطور، معظم الأراضي التي خسرتها في الحرب الأولى. هذا الانتصار لم يكن عسكريا فقط، بل جيوسياسيا أيضا، إذ دفع باكو إلى تعزيز نفوذها في القوقاز والحديث عن مشاريع استراتيجية مثل ممر زنغزور، الذي من شأنه الربط بين أذربيجان وجيب ناختشيفان عبر إقليم سيونيك في أرمينيا.

هذا الممر، وإن أُدرج في اتفاق وقف إطلاق النار المبرم برعاية روسيا، فإن طبيعته لا تزال غامضة، وقد أثار قلقا بالغا في إيران التي ترى فيه تهديدا مباشرا لممرها البري إلى أرمينيا، الدولة الوحيدة في القوقاز التي كانت لها علاقة استراتيجية مستقرة معها لعقود.
حيث تخشى طهران أن يؤدي هذا الممر إلى عزلها جغرافيّا عن أرمينيا، وبالتالي فقدان نفوذها في جنوب القوقاز لصالح تحالف تركي أذربيجاني مدعوم من تل أبيب، وهو ما تعتبره تهديدا استراتيجيا لأمنها القومي.
تصاعد الحضور التركي والإسرائيلي في القوقاز
أيضا، فمن أبرز أوجه الصراع في هذا الملف تنامي النفوذ التركي في جنوب القوقاز، فأنقرة، التي لعبت دورا أساسيا في دعم باكو عسكريا خلال الحرب، سعت لاحقا لتثبيت مكاسبها عبر شراكات اقتصادية واستراتيجية مع أذربيجان. وقد شهدت السنوات الأخيرة استثمارات بمليارات الدولارات من باكو في قطاعات مختلفة داخل تركيا، إضافة إلى التعاون العسكري والأمني.

في المقابل، يعمّق الحضور الإسرائيلي من قلق إيران، إذ تتهم طهران باكو بالسماح لتل أبيب بإقامة قواعد استخباراتية على أراضيها قرب الحدود الإيرانية، وهو ما تنفيه الأخيرة. ومع تصاعد التوترات الإقليمية، برزت تسريبات عن وجود طائرات تجسس إسرائيلية تنطلق من الأراضي الأذربيجانية، ما أثار غضبا رسميا في طهران.
هذا التداخل المعقد بين الحضور التركي الإسرائيلي على حدود إيران الشمالية، في ظل انكفاء نسبي للنفوذ الروسي التقليدي، خلق بيئة استراتيجية متوترة تدفع إيران إلى إعادة تموضعها في المنطقة ومحاولة تعزيز وجودها، سواء عبر التعاون مع أرمينيا أو عبر تحركات عسكرية ورسائل ردع على حدودها مع أذربيجان.
الدور الروسي والفراغ في جنوب القوقاز
وبالشأن نفسه، فلا يمكن تجاهل الأبعاد الروسية في هذا الصراع، فموسكو التي كانت القوة المهيمنة تقليديا على جنوب القوقاز، بدت في السنوات الأخيرة أقل حزما في ضبط التوازن بين أرمينيا وأذربيجان، والبعض يرى أن روسيا تعمدت غضّ الطرف عن التحرك التركي الأذري بهدف استخدام هذا التهديد كورقة تفاوض في ملفات أخرى، منها ملف الغاز والسياسة مع الغرب.

في الوقت نفسه، لا يبدو أن موسكو راضية تماما عن تزايد النفوذ التركي، لكنها تتجنب المواجهة المباشرة، خاصة في ظل انشغالها بالحرب في أوكرانيا، هذا الفراغ أعطى هامشا أكبر لأذربيجان لتعزيز وجودها وفرض وقائع جديدة، مما أثار امتعاض طهران، التي تشعر بأن دورها في الإقليم يتآكل تدريجيا.
إيران وأذربيجان.. خصمان جيوسياسيان أم شريكان مضطربان؟
ورغم كل هذا التوتر، لا تزال إيران تحافظ على قنوات مفتوحة مع أذربيجان، وتبقي على علاقات دبلوماسية واقتصادية لا يُستهان بها. لكن الخلافات الحدودية، والشكوك المتبادلة، والمشاريع الإقليمية الكبرى التي ترسمها باكو وأنقرة، كلها أمور تجعل من العلاقة بين البلدين واحدة من أكثر علاقات إيران الإقليمية حساسية وتعقيدا.
فإيران من جهتها تسعى للحفاظ على وجودها الجيوسياسي عبر تأكيد حقها في استمرار التواصل البري مع أرمينيا، وتعارض بشدةٍ أي مشروع قد يؤدي إلى عزلة جغرافية أو تحجيم دورها في القوقاز. وهي ترى أن أي خريطة جديدة تمر عبر التوافق الروسي–التركي دون مراعاة مصالحها، ستُواجَه بالرفض.

من هو أحمد أوبالي؟

أحمد أوبالي، واسمه الأصلي أحمد یوسفی سادات، وُلد عام 1961 في محافظة أردبيل بإيران، هاجر من إيران عام 1980 عقب مزاعم بمشاركته في تظاهرات مناهضة للنظام، واستقر أولا في تركيا كلاجئ حتى عام 1985، حيث حاول الوصول إلى السويد عبر بلغراد لكن محاولته فشلت، قبل أن يتمكن في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1985 من دخول الولايات المتحدة، ليحصل لاحقا على اللجوء والجنسية الأمريكية، ويغير اسمه إلى أوبالي.

درس السينما وعمل في البداية في قطاع المطاعم، ثم أسس مطعما في مدينة شيكاغو، لكنه واجه عدة مخالفات قانونية، أبرزها بيع الكحول للقاصرين وملاحقات بتهم مالية.
تُوجه إلى أوبالي اتهامات بتلقي تمويل من جهات استخباراتية وتوظيف نشاطه الإعلامي والسياسي كغطاء لغسل أموال عبر مشاريع تجارية.
ويقيم أوبالي في مدينة ويلمِت بولاية إيلينوي، ومتزوج بناهيد كريملی، المولودة في باكو، وله ابن يُدعى دِنيز.
كذلك، فيُعد من الشخصيات المثيرة للجدل في أوساط المعارضة الإيرانية بالخارج والمعروف بتوجهاته الرامية إلى استقالة محافظة أذربيجان الشرقية عن إيران، كما أنه مدير قناة تلفزيونية تدعى “جوناز تي في”، لها التوجهات نفسها.