مرتضى آويني وبشاكرد.. نظرة على الفقر والريف في السينما الإيرانية

كتب: سيد نيما موسوي

مرتضى آويني- بلا شك- من أبرز صانعي الأفلام الوثائقية في تاريخ السينما الإيرانية، فهو فنان جاء من عالم الفلسفة إلى عالم السينما، ومن ثم ترك آثارا خالدة، أبرزها الوثائقي “رواية الفتح”. 

ولكن خلف هذا العمل العظيم، توجد أيضا أعمال أخرى لآويني تمثل جزءا من إنجازاته في بداية دخوله مجال صناعة الأفلام الوثائقية، أعمال تم تصويرها غالبا في المناطق الريفية خارج المدن في إيران.

مثل الوثائقي “تركمن صحرا” الذي يتناول الاضطرابات في منطقة تركمن صحرا بعد بضعة أشهر فقط من انتصار “الثورة الإيرانية”، إلى أفلام مثل “أهل الخان”، “سبع قصص من بلوشستان”، و”بشاكرد” التي تركز بشكل أساسي على سرد معاناة الفقر في المناطق الريفية في السنوات الأولى بعد “ثورة” 1979.

بشكل عام، يجب اعتبار آويني نتاجا لفضاء الهروب من المدينة في السينما الإيرانية من نهاية الستينيات حتى نهاية الثمانينيات، وكانت تلك فترة قام فيها صانعو الأفلام المنتقدون عموما بالتحول نحو القيم الريفية ردا على التحديث القسري الذي كان يروج له شاه إيران محمد رضا شاه بهلوي. 

جاء تطوير القيم الريفية في وقت كان فيه المجتمع الإيراني قد واجه قبل عدة سنوات، إصلاحات الأراضي وما تبعها من آثار، وكانت نشوء المدن الحديثة في ستينيات القرن العشرين، وتغيير الهيكل الاقتصادي الإيراني من الإنتاج الزراعي إلى الإنتاج الصناعي، من بين أهداف الثورة البيضاء التي كان يروج لها الشاه. 

في تلك السنوات، أصبح تقديس الريف رد فعل من المجتمع المثقف الإيراني ضد تحديثات الشاه وقيم المجتمع الحضري، وكان كتاب “ما كان لدينا” لإحسان نراقي، عالم الاجتماع الإيراني الذي تعاون مع اليونسكو، جزءا من هذه العملية. 

تبعا لذلك، تم متابعة مجال الأنثروبولوجيا البيئية من قبل علماء اجتماع مثل جلال آل أحمد ومرتضى فرهادي في إيران، وفي الوقت نفسه، بدأ العديد من صانعي الأفلام الإيرانيين يميلون إلى البيئة غير الحضرية. 

ساهمت أحداث سيهكل وخرم درة التي وقعت ضد حكم الشاه، إضافة إلى دخول أدب “المقاومة الفلاحية” المستوحى من الثورتين الصينية والكوبية إلى إيران، في تعزيز الاتجاه نحو الاهتمام بالريف. 

كما رحبت الفئة الدينية في المجتمع، التي وجدت دعما أكبر في المناطق الريفية، بهذا التوجه نحو الريف والتصوير البومغرافي، وفي هذا السياق، بدأ مرتضى آويني في صناعة الأفلام الوثائقية التي تركز على الموضوعات غير الحضرية. 

أنتج آويني العديد من الأفلام الوثائقية التي تناولت الفقر في القرى الجنوبية الإيرانية، وكان من أهمها فيلم “بشاكرد”، وبشاكرد هي منطقة تقع في جنوب محافظة كرمان في جنوب شرقي إيران، وكانت في بداية الثمانينيات منطقة تعاني من فقر مدقع.

يبدأ الوثائقي بمشهد جنازة ومنظر عالٍ لِعامل دفن القبور وهو يحفر القبر، ثم يبدأ التتر الافتتاحي بترديد الصلاة على النبي (ص) خلال مراسم الجنازة في مدينة بشاكرد. 

في المشهد التالي، يعرض آويني قافلة جِمال في منطقة صحراء بشاكرد، ليبدأ بقراءة نص أدبي بصوته الدافئ الذي يربط بين فقر بشاكرد وقافلة الجمال، ومن ثم يبدأ بعرض البيئة الإنسانية في بشاكرد.

ويظهر مشهد لامرأة مسنّة تعاني من الفقر والجوع وهي تطحن بذور التمر باستخدام مطحنة يدوية لتحضير خبز بذور التمر، إضافة إلى رجال ونساء لا يزالون يستقبلون آويني بحفاوة رغم معاناتهم من الجوع، بينما يصاحب ذلك صوت آويني الذي يروي معاناة الفقراء، وتواصل الموسيقى المحلية البلوشية عزفها في الخلفية. 

هنا، يقوم آويني بإجراء مقابلات مع السكان، حيث يتحدثون عن معاناتهم، بينما يقدم هو مونولوجا شعريا تحت صوت هذه المقابلات، والمعاناة التي وصفها السكان تضمنت الفقر المدقع، عدم وجود بطاقات هوية، عدم وجود كوبونات أو سلع تموينية، نقص الخدمات الصحية، الجوع، ووجود أمراض مثل الجذام والملاريا. 

ومع ذلك، يروي آويني في بشاكرد قصة فقر تمتزج فيها العزة والكرامة، بل حتى الحب؛ وهي أمور غير موجودة في حياة أهل المدن، وفي الدقائق الأخيرة من الوثائقي، يعرض آويني صورا متنوعة لأهالي بشاكرد الفقراء ويُظهر عمق وجوههم، سرد لبراءة وطيبة وحب إلى جانب الفقر والمرض، يتم تعزيز هذا السرد من خلال مونولوجات آويني التي تُسمع على الصور. 

وفي النهاية، يصل الفيلم إلى طهران، حيث يظهر التناقض بين فقر القرية ورفاهية مدينة طهران المليئة بصور الممثلين الغربيين، والسيارات المكشوفة، والشباب ذوي الميول الهيبية، مع الأمل في أن التغيير الذي جلبته الثورة سيمكن من تغيير هذا التباين بين “زينب”، الفتاة من بشاكرد، ومدينة طهران الاستهلاكية.

في عقد الستينيات، بدأ تيار البومغرافيا الذي انطلق من دائرة المثقفين الإيرانيين في جامعة ماسوشوست (تقع في الولايات المتحدة)، وقد دخل هذا التيار إلى مجال السينما الإيرانية أيضا. 

في عام 1969، قدّم داريوش مهرجويي فيلمه “البقرة” الذي كان بمثابة مرثية لوفاة الريف في إيران، كما عرض مسعود كيميايي في فيلمه “بلوش” وناصر تقوي في فيلمه “صادق كردة” تأثير فساد المدينة على نقاء وصدق الريف. 

أما سهراب شهيد ثالث فقد قدم في فيلمه “الطبيعة بلا حياة” دراما عن حياة مصلح قضيب السكك الحديدية في مكان بعيد عن المدينة، وفي هذا السياق، بدأ مخرج إيراني آخر في مواجهة القيم الحضرية من خلال صناعة الأفلام. 

كان برويز كيمياوي أحد هؤلاء المخرجين الذين تحدوا سيطرة المدينة من خلال وثائقية “تلّة قيطريه” و”ب مثل البجع”، تناول الوثائقي في قيتريه عملية التوسع الحضري ودور هذا التوسع في تدمير التلال الأثرية في شمال طهران، بينما عرض “ب مثل بليكان” قصة رجل مسن عاشق فقد الحب، وكان يعيش في أطلال في مدينة طبس الصحراوية. 

في الواقع، كانت موجة الانتقاد للمدينة والتحديث الحضري في عهد محمد رضا شاه قد وصلت إلى تقديس الريف أيضا، وفي هذه الظروف، بدأ آويني في صناعة الأفلام حول معاناة الريف، حيث كانت أعماله إضافة إلى جوانب الثورة، تنبع من تيار الريفية في السينما الإيرانية. 

استمر تيار الريف حتى أواخر الثمانينيات ليظل التيار الرئيس في السينما الإيرانية، ولكن مع فيلم “هامون” لداريوش مهرجويي في عام 1990، عادت السينما الحضرية لتصبح محور اهتمام صانعي الأفلام. 

وفي هذا السياق، بدأ آويني في سنواته الأخيرة في تقليص إصراره على صنع أفلام غير حضرية، خاصةً تلك التي تتناول معاناة الريف، وركز على مواضيع أخرى.