- دنيا ياسر
- 67 Views
كتب: محمد صادق جمشيدى
ترجمة: دنيا ياسر نور الدين
يُحدد يوم 15مايو/أيار باعتباره يوم الاحتفاء باللغة الفارسية وتكريم الحكيم أبو القاسم الفردوسي. وتُعد اللغة الفارسية واحدة من أقدم اللغات الحية في العالم، إذ لا تزال حتى اليوم لغة يتحدث بها عدد كبير من الناس حول العالم. وقد اشتهرت اللغة الفارسية عالميا برقّتها وجمالها المتجليَين في أشعار حافظ وسعدي وجلال الدين الرومي.
تعود أصول الفارسية المعاصرة إلى اللغة البهلوية أو الفارسية الوسطى، وقد شهدت عبر آلاف السنين تبادلا لغويا واسعا مع اللغات المجاورة لها مثل العربية والأذرية والتركية.
وتتميز اللغة الفارسية بخصائص عديدة جعلتها محط اهتمام الأدباء واللغويين على حد سواء. وبما أن اللغة هي أداة للتفكير، وتُعد انعكاسا لتاريخ وهوية فكرية محددة، فإن علماء الاجتماع أيضا لم يغفلوا عن دراسة اللغة الفارسية.
تُعد الفارسية لغة عابرة للأعراق، أي أنها لا تنحصر في قومية أو منطقة جغرافية معينة، بل استخدمتها قوميات متعددة كلغة أم أو لغة ثانية، مثل الفرس، والطاجيك، والهزارة، وأجزاء من الهند والقوقاز والبلقان.
وعلى الرغم من أن اللغة تُعتبر في كثير من المناطق أحد مكونات النزعة القومية، فإن هذا لا ينطبق على الفارسية في إيران، إذ لطالما استخدمتها أعراق متعددة كلغة أولى أو ثانية دون أن يكون ذلك مفروضا عليهم من قبل السلطات أو الأنظمة.

تمتلك اللغة الفارسية ما يمكن وصفه بـ”القوة الناعمة” والنفوذ الثقافي في العالم. فقد كانت الفارسية اللغة الرسمية للدولة السلجوقية. وفي الغرب، أبدى سلاطين الدولة العثمانية، لما كانوا يتحلون به من روح شاعرية، اهتماما كبيرا باللغة الفارسية. إذ كان السلطان محمد الفاتح متمكنا من الفارسية، كما نظم حفيده السلطان سليم الثاني ألفي بيت شعري بها، وخلّف السلطان سليمان القانوني أيضا ديوانا يضم أشعارا فارسية.
وفي عهد الدولة العثمانية، خصوصا في منطقة البلقان، انتشرت اللغة الفارسية في البوسنة بشكل واسع لدرجة أن كتبا مثل كلستان (كلستان سعدي) ومثنوي كانت تُدرّس في العديد من مدارس المرحلة الابتدائية آنذاك، والتي كانت تُعرف باسم مدارس “الرشدية”. ويُعد الشيخ فوزي الموستاري أبرز شعراء البوسنة الذين كتبوا بالفارسية، وله كتاب “بلبلستان” الذي نظمه تقليدا لكتاب “بوستان” لسعدي الشيرازي.
أما شمس الدين سامي، مؤلف أول دائرة معارف باللغة التركية، فقد أشار في معجمه المعروف بـ”قاموس التركي” إلى أن عدد الكلمات التركية المأخوذة من الفارسية يبلغ 4400 كلمة.
ومن الجدير بالذكر أن السلاجقة والغزنويين- وهم سلالات حاكمة تركية الأصل- كانوا قد أدركوا ضرورة مقاومة الهيمنة الثقافية الأحادية للغة العربية في العالم الإسلامي، فاختاروا الفارسية؛ لما لها من خلفية حضارية عريقة، كلغة ثقافية وهووية بديلة.

وعلى الرغم من أن الشاهنامة لفردوسي تتضمن بعض الانتقادات للعرب والترك، فإن هذه الدول التركية الأصل لم تتوانَ عن دعم فردوسي ونتاجه، بل إنهم دعموا أيضا الثعالبي الذي أعاد صياغة الشاهنامة باللغة العربية.
لقد ساهمت السياسة الذكية التي انتهجها السلاجقة في ترويج اللغة الفارسية في تعزيز هوية ثقافية جديدة في مواجهة الثقافة العربية. ونجحوا في تثبيت اللغة الفارسية كلغة إدارية ورسمية في إمبراطوريتهم، وهو ما أدى إلى إخراج الثقافة الإسلامية من الانحصار في اللغة العربية، وخلق توازن ثقافي ملحوظ. وقد استطاع الأتراك السلاجقة من خلال استثمار قدرات اللغة الفارسية، تأسيس مدرسة ثقافية مستقلة وفاعلة ضمن الحضارة الإسلامية.
أما في الشرق، فقد كانت اللغة الفارسية هي اللغة الرسمية في عهد الدولة المغولية (التي تعرف في الهند باسم “الدولة المغولية” أو “كوركانيان”)، حيث كُتبت غالبية النقوش والكتابات الرسمية بها. وتُزيّن نقوش فارسية البناء الشهير “تاج محل” وهو مثوى الإمبراطور شاه جهان وزوجته الذي يُعد من عجائب الدنيا المعمارية.

وفي هذا العصر نظم حافظ الشيرازي بيته الشهير: شكر شکن شوند همه طوطیان هند / زین قند پارسی که به بنگاله میرود
(أي: جميع طيور الهند تغني وتكسر القصب فرحا بهذا السكر الفارسي الذي يصل إلى البنغال).
ويُعد “الأسلوب الهندي” أحد أهم الأساليب الثلاثة الكبرى في الأدب الفارسي. ومن الشعراء الهنود الذين نظموا بالفارسية نذكر أمير خسرو الدهلوي، والعلامة إقبال اللاهوري. ولا تزال أكثر من نصف مفردات اللغة الأردية حتى اليوم من أصل فارسي.
ومن اللافت أن التعاليم والمصطلحات الإسلامية في مناطق شرق الصين ما زالت تُستخدم باللغة الفارسية، وهو ما يدل على أن الإسلام دخل إلى هذه المنطقة عن طريق دعاة فارسيي اللسان. كما أن أسماء المسلمين في تلك المناطق الصينية تعكس أيضا تأثير اللغة الفارسية في ثقافتهم.
تُعرف الفارسية بقدرتها على توليد الألفاظ واستيعاب المفردات من لغات أخرى، إلى جانب جزالتها وسلاسة تعبيراتها الشاعرية. وقد كانت هذه اللغة ولسنوات طويلة حاملا لرسالة الإسلام، تقدمها بقالب شاعري وعلمي في آن، ما جعلها لا تحافظ على هويتها فقط، بل تنمو وتزدهر أيضا.

ومن أبرز الشخصيات التاريخية التي ساهمت في الحفاظ على اللغة الفارسية وتعزيزها، أبو القاسم الفردوسي. فقد أفصح بنفسه أنه أمضى ثلاثين عاما من عمره في تأليف الشاهنامه، كي يُبقي على اللغة الفارسية حيّة. ويُعد هذا الكتاب، المؤلف من ستين ألف بيت شعري، ملحمة ساحرة تروي التاريخ الأسطوري لإيران القديمة.
وقد ورد في حديث لمحمد حسنين هيكل، الكاتب المصري المعروف، أنه سُئل يوما: “أنتم المصريون، مع ما لديكم من حضارة عريقة، كيف أصبحتم عربا؟” فأجاب: “لقد أصبحنا عربا لأننا لم يكن لدينا فردوسي.”
اليوم، هناك نحو 120 مليون متحدث بالفارسية حول العالم، وهي تُعد اللغة التاسعة من حيث الاستخدام في الفضاء الإلكتروني.
غير أن هذه اللغة واجهت تحديات كثيرة. فبعد استعمار البريطانيين للهند، جرى حظر اللغة الفارسية وفرض الإنجليزية بدلا منها. وفي الدولة العثمانية، وبعد تصاعد النزعات القومية وصعود الدولة العلمانية، بُذلت جهود كبيرة لإحداث قطيعة بين التركية والفارسية. أما في طاجيكستان، فقد أدى خضوع البلاد لسنوات طويلة من الحكم السوفييتي إلى كتابة جميع اللافتات بخط السيريلك، إلا أن أشعار حافظ وفردوسي لا تزال تُتداول وتُتلى في البيوت والمحافل الأدبية.
وفي أفغانستان التي أنجبت كبار الشعراء الفارسيين لا تزال الفارسية اللغة الأولى، لكنها تتعرض لتحديات من نفوذ كلمات الإنجليزية والبشتو، فضلا عن سياسات الهوية التي تحاول فرض البشتو كلغة بديلة. أما في إيران، فقد شهدت فترة حكم الشاه سياسات لتغيير الخط وإدخال مفردات إنجليزية وفرنسية إلى الاستخدام العام، ونجحت تلك السياسات إلى حد كبير. ورغم توقفها بعد الثورة الإسلامية،
فإن الهجمة الثقافية والغزو اللفظي غير السليم من اللغات الأجنبية الغربية لا يزالين مستمرين، خصوصا عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبعض النخب المثقفة.
إن اللغة الفارسية إرث ثمين يحمل في طياته قيما أخلاقية ودينية وثقافية بالغة الأهمية. إنها بمثابة جسر يربط الإنسان المسلم المعاصر بكنوز من المفاهيم الحضارية العريقة والجوهرية التي شكّلت الحضارة الإسلامية عبر التاريخ.