إمبراطورية “الحرس”.. الاقتصاد الموازي ودولة الظل للحرس الثوري الإيراني

في قلب التحولات الكبرى التي شهدتها إيران بعد الثورة الإسلامية عام 1979، نشأ الحرس الثوري بوصفه جهازا عسكريا عقائديا هدفه حماية النظام الجديد من التهديدات الداخلية والخارجية. لكن هذه المؤسسة، التي بدأت كقوة أمنية موازية للجيش، سرعان ما تحوّلت إلى فاعل سياسي واقتصادي يفرض حضوره على مجمل الحياة الإيرانية.

هذا التقرير الاستقصائي يفتح ملف الحرس الثوري الإيراني من زوايا متعددة، متتبعا جذوره الأولى، وتوسعه السريع في مفاصل الدولة، وصولا إلى بناء واحدة من أكبر الإمبراطوريات الاقتصادية في الشرق الأوسط.

فبين البنادق والأسواق، والشعارات الثورية والمناقصات الحكومية، يكشف هذا التحقيق كيف أصبح الحرس لاعبا مركزيا في اقتصاد إيران، يدير شركات ومشروعات تتوزع بين النفط والغاز، والاتصالات، والبنى التحتية، وحتى التجارة الخارجية.

من البندقية إلى البازار.. النشأة والتحول الاقتصادي

جاء تاسيس الحرس الثوري الإيراني في أعقاب الانتصار السريع والمفاجئ للثورة في فبراير/شباط  1979، وسط فراغ أمني وارتباك سياسي عميق داخل مؤسسات الدولة القديمة. ورغم وجود الجيش الإيراني النظامي، الذي أُضعف بفعل تصفيات الشاه في سنواته الأخيرة، فإن القيادة الثورية، وعلى رأسها الخميني، كانت تشكّ في ولائه الكامل للنظام الجديد. 

من هنا نشأت الحاجة إلى قوة موازية، عقائدية بالكامل، مهمتها الأساسية حماية مبادئ الثورة مما سمته الأعداء الداخليين والخارجيين، وعدم السماح بأي ارتداد عن المسار الذي رسمه الخميني.

فقد تأسس الحرس رسميا في 5 مايو/أيار 1979، بقرار مباشر من الخميني، وساهم في تأسيسه عدد من الشخصيات التي كانت تنتمي لمجموعات إسلامية مسلحة نشطت قبل الثورة، منها أعضاء في منظمة “المجاهدين المسلمين” وحزب الجمهورية الإسلامية إلى جانب عناصر من طلاب الحوزات الدينية الثورية.

وكان من أبرز مؤسسي الحرس في تلك المرحلة محسن رضائي، الذي أصبح لاحقا القائد العام للحرس، حسين دهقان، ومحمد باقر ذو القدر، إضافة إلى حسين لاريجاني ومهدي هاشمي، هؤلاء شكّلوا النواة الأولى لجهاز أمني عسكري عقائدي، ربط الولاء الديني بالانضباط العسكري.

محسن رضائي

حسين دهقان

محمد باقر ذو القدر

منذ نشأته، اتخذ الحرس هيكلا عسكريا مستقلا عن الجيش، مع تركيبة مبسطة لكنها فعالة، فقد شُكلت وحداته الأولى من كتائب صغيرة شبه نظامية، تعتمد على التدريب العقائدي إلى جانب التدريب القتالي الأساسي، ثم تطورت إلى تشكيلات أكبر شملت القوات البرية، ووحدات العمليات الخاصة، وأجهزة استخبارات داخلية. 

ومع اندلاع الحرب الإيرانية العراقية عام 1980، توسّع الحرس بسرعة، وبدأ في بناء مؤسساته الأمنية والاقتصادية الخاصة، ليصبح خلال سنوات قليلة قوة لا يمكن تجاهلها في المشهد الإيراني.

فمع اندلاع الحرب، واجهت إيران اختبارا وجوديا في سنواتها الأولى، وكان للحرس الثوري الإيراني دور محوري في التصدي لهذا التهديد. ورغم أن الحرس كان لا يزال في طور التشكّل والتوسّع، فإن الحرب سرّعت من نموه وشرعنة دوره كمؤسسة عسكرية موازية للجيش النظامي. 

ففي البداية، شكّلت وحدات الحرس الخطوط الخلفية والمساعدة، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى قوة قتالية رئيسية، خصوصا مع تراجع ثقة القيادة السياسية في الجيش القديم.

كذلك، فقد تمتّع الحرس خلال الحرب بصلاحيات واسعة، مستمدة من علاقته المباشرة بمكتب المرشد الأعلى ومن استقلاله عن وزارة الدفاع. وقد أدى ذلك إلى تنامي نفوذه داخل المؤسسة العسكرية، حيث أنشأ الحرس أجهزته الخاصة في الاستخبارات، والإمداد، والتجنيد، بل حتى في القضاء العسكري، مما جعله جيشا عقائديا مستقلا ضمن الدولة.

كما شكّل الحرس قوة التعبئة الشعبية المعروفة بالباسيج والتي لعبت دورا بارزا في المعارك، مستقطبةً عشرات الآلاف من المتطوعين عبر الخطاب الديني والتحفيز الثوري.

هيكليا، توسّعت تشكيلات الحرس من كتائب صغيرة إلى ألوية وسرايا، وتم تأسيس قوات برية منظمة، كما ظهرت نواة قوات جوية وبحرية، لتواكب متطلبات الحرب.

وقد شارك الحرس في معارك حاسمة مثل الفتح المبين وكربلاء 5، وأثبت قدرته على شنّ عمليات واسعة، رغم ضعف تسليحه مقارنة بالجيش. وبهذا، لم يعد الحرس مجرد أداة ثورية، بل تحول خلال الحرب إلى مؤسسة عسكرية متكاملة، اكتسبت شرعية ميدانية وشعبية، فتحت له لاحقًا الأبواب للتوغل في السياسة والاقتصاد الإيراني.

وعندما تولى علي أكبر هاشمي رفسنجاني رئاسة الجمهورية في إيران عام 1989، كان أمامه تحد مزدوج، وهو ترميم دولة أنهكتها الحرب مع العراق، وإعادة توجيه مؤسسات الثورة نحو البناء والاستقرار.

حيث خرجت إيران من حرب 1988 مع العراق بخسائر مدمّرة شملت تدمير مدن وبنى تحتية وشللا اقتصاديا، مما دفع رفسنجاني إلى إطلاق مشروع إعمار واسع لإحياء الاقتصاد. 

وقد شمل الإعمار قطاعات رئيسية، مثل بناء الطرق والسدود ومحطات الطاقة، وترميم المنازل في المناطق المنكوبة، واستصلاح الأراضي الزراعية، وتوسيع شبكة الري لتحقيق الاكتفاء الغذائي. كما جرى ترميم المنشآت النفطية لتمويل التنمية، إلى جانب تحسين الخدمات العامة كالكهرباء، المياه، التعليم، والصحة، خاصة في القرى والمناطق الفقيرة.

 ورغم أنه لم يكن من القيادات العقائدية المتشددة، فإن رفسنجاني أدرك مبكرا أن الحرس الثوري، الذي تزايد نفوذه خلال الحرب، يمكن أن يتحول إلى أداة فعالة في مرحلة ما بعد المعارك. ومن هنا بدأت علاقة نفعية تبادلية بين الرجل والحرس.

فرفسنجاني لم يسع إلى تقليص دور الحرس، بل وظّف قوته التنظيمية وخبرته الميدانية في خدمة مشروعه الاقتصادي. فقد رأى أن الحرس يمتلك قدرات تنفيذية وبنية تحتية عسكرية يمكن تحويلها إلى أدوات للإعمار، خصوصًا في ظل غياب قطاع خاص قوي وعجز الجهاز الإداري التقليدي للدولة. لذا، دعمه في تأسيس مؤسسة “خاتم الأنبياء” الإنشائية التابعة له، وفتح له أبواب المشاريع الحكومية الكبرى دون الحاجة لمنافسات عامة. بهذا، تحوّلت العلاقة من مجرد تعاون إلى شراكة استراتيجية.

“لا ينبغي للحرس الثوري أن يتصرف ككتلة اقتصادية. دخولهم في الاقتصاد كان بحجة ملء الفراغ بعد الحرب، لكنه استمر لعقود وتحوّل إلى شبكة مصالح لا تخضع للرقابة”.    أحمد توكلي، اقتصادي إيراني في لقاء مع صحيفة شرق.

مؤسسة خاتم الأنبياء.. قلب إمبراطورية الحرس

يمتلك الحرس الثوري الإيراني منظومة اقتصادية هائلة تُدار عبر شبكة معقدة من المؤسسات والشركات، تتصدرها مؤسسة خاتم الأنبياء للإعمار، التي تُعد الذراع الهندسية والاقتصادية الأضخم للحرس، وتمثل القلب النابض لإمبراطوريته المالية. 

تأسست مؤسسة خاتم الأنبياء كذراع اقتصادية تابعة للحرس الثوري الإيراني في أعقاب انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام 1988 وتحديدا في مارس/آذار 1989 على يد محسن رضايي، أحد قادة الحرس الثوري، وذلك في سياق إعادة إعمار البلاد وتعويض ما دمرته الحرب. وجاء تأسيسها استجابة مباشرة لأمر من المرشد الأعلى وقتها الذي رأى ضرورة تفعيل دور الحرس في المجالات غير العسكرية، خاصة مع امتلاكه بنية تنظيمية قوية وخبرة في تنفيذ المشاريع الكبرى. منذ ذلك الحين، أصبحت المؤسسة جزءا محوريا في المشهد الاقتصادي الإيراني، خصوصاً في البنى التحتية والطاقة.

كان الهدف الأولي من إنشاء مؤسسة خاتم الأنبياء هو المساهمة في جهود إعادة البناء، لكن سرعان ما توسع نشاطها ليشمل قطاعات استراتيجية واسعة مثل النفط والغاز والبتروكيماويات والطرق والجسور والموانئ وحتى تكنولوجيا الاتصالات. وقد أصبحت المؤسسة مع مرور الوقت بديلا لكثير من الشركات الأجنبية التي خرجت من السوق الإيراني بسبب العقوبات.

من أبرز الشخصيات التي ارتبطت بمؤسسة خاتم الأنبياء في بداياتها، رستم قاسمي، الذي تولى قيادة المؤسسة لفترة طويلة قبل أن يُعين لاحقا وزيرا للنفط في حكومة محمود أحمدي نجاد، مما عكس العلاقة الوثيقة بين المؤسسة ومراكز السلطة التنفيذية والتشريعية في البلاد. وقد شكّل رستم قاسمي نموذجا للمسؤول العسكري الذي يتحول إلى شخصية تنفيذية في الدولة.

وخلال لسنوات الأولى لتأسيسها، نفذت المؤسسة مشاريع ضخمة في مجالات مدّ أنابيب النفط، وبناء السدود، وشق الطرق، وإنشاء البنية التحتية للمناطق النائية، مثل مشروع نقل مياه الخليج إلى المناطق الصحراوية، وغيرها من المشاريع الحيوية. وقد سُجلت معظم هذه المشاريع تحت إشراف مباشر من الحرس الثوري.

هذا وتعتبر علاقة مؤسسة خاتم الأنبياء بالمرشد الأعلى علي خامنئي، علاقة وثيقة واستراتيجية، إذ يعتبرها إحدى أذرعه الاقتصادية والعسكرية معا، ويُقال إنها ترتبط مباشرة بمكتبه وتتلقى التعليمات والتوجيهات منه دون المرور بالمؤسسات الحكومية التقليدية. وقد منحها هذا الموقع حصانة سياسية وقانونية، وجعل منها جزءا من شبكة السلطة العميقة في إيران.

بمرور الوقت، تحولت مؤسسة خاتم الأنبياء إلى إمبراطورية اقتصادية متشعبة، تدير مئات الشركات التابعة وتوظف عشرات الآلاف من العاملين، وتشارك في تنفيذ مشروعات تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، لتصبح اليوم واحدة من أبرز رموز الاقتصاد العسكري في إيران.

فوفقا لمصادر رسمية وتقارير مستقلة، تدير المؤسسة أكثر من 812 شركة داخل إيران وخارجها، حيث صرح اللوء حسين هوشي السادات، قائد مقر بناء خاتم الأنبياء، في ديسمبر/كانون الأول 2022، بأن المؤسسة لديها نشاط في سوريا والعراق وفنزويلا، دون التطرق إلى تفاصيل.

ففي الداخل الإيراني، تضم مؤسسة خاتم الأنبياء عددا كبيرا من الشركات والمؤسسات التابعة التي تعمل في مختلف القطاعات الحيوية داخل إيران، من بين هذه الكيانات مؤسسة “عمران صنعت” و”عمران ساحل” المتخصصتين في مشاريع البناء والإنشاءات الساحلية، ومؤسسة “ریل جستر” التي تُعنى بتطوير مشاريع السكك الحديدية، إلى جانب مؤسسة “راه سازه” المتخصصة في بناء الطرق والمنشآت التحتية. 

كما تشمل القائمة شركة “سبانیر” للهندسة في قطاع النفط والغاز، وشركة “سباسد” الهندسية التي تنفذ مشاريع كبرى في مجالات المياه والطاقة. وتعمل كذلك مؤسسة “نور” و”سماء” في مجالات فنية وهندسية متنوعة، بالإضافة إلى مؤسسة “إیمن‌سازان” التي تقدم خدمات استشارية هندسية، ومؤسسة “ويزه حرا” المتخصصة في الخدمات الأمنية والحماية.

ومنذ تأسيسها، لعبت مؤسسة خاتم الأنبياء، دورا محوريا في تنفيذ مشاريع البنية التحتية الكبرى داخل إيران. ومن أبرز أذرعها التنفيذية “مؤسسة راهیران”، التي تولت تنفيذ أكثر من 30 مشروع طرق وأوتوسترادات بطول 900 كيلومتر، و10 مشاريع سكك حديدية بطول 1000 كيلومتر، إلى جانب مشاريع إنشائية بمساحة 200 ألف متر مربع. 

كما شملت المشاريع الاستراتيجية سكة حديد شابهار زاهدان، وطريق أردبيل، وسرجم، وسكة حديد كرمانشاه، خسروي، والطريق السريع ورزقان ـ نوردوز، وتوسعة ميناء نوشهر، وسد هراز، وسكة حديد گرگان ـ إنجه‌برون. 

فمن أبرز القطاعات التي يهيمن عليها الحرس، قطاع النفط والغاز، الذي يُعد المصدر الأهم والأكثر ربحية في المنظومة الاقتصادية لإيران. فقد تولّت مؤسسة خاتم الأنبياء تطوير 11 طورا من أصل 24 في مشروع حقل بارس الجنوبي، وهو أكبر حقل غاز في العالم. 

وفي قطاع البنية التحتية والإنشاءات الكبرى، تهيمن مؤسسة خاتم الأنبياء على تنفيذ مشاريع الطرق السريعة، والأنفاق، والجسور، وخطوط المترو، وأبرزها مشروع مترو طهران وشبكة الطرق المحيطة بالعاصمة، كما حصلت على عقود لبناء عشرات السدود الرئيسية، وتُقدّر سيطرتها بأكثر من 60% من المشاريع الوطنية الكبرى، وهي نسبة تُظهر حجم تغلغلها في الاقتصاد الإيراني.

مؤسسة خاتم الأنبياء لا تخضع للمحاسبة مثل باقي الشركات، ومعظم المشاريع الكبرى تُمنح لها بدون منافسة حقيقية، وهذا يؤدي إلى تشويه هيكل السوق وتشجيع الفساد المنظّم”.إسحاق جهانجيري، نائب الرئيس الإيراني الأسبق.

أما قطاع السدود، فهو أحد أكثر المجالات التي توسع فيها الحرس خلال العقدين الماضيين، عبر شركات مثل سباه سد سازان وقرارجاه سازندجي سد، وتشير بيانات وزارة الطاقة الإيرانية إلى وجود أكثر من 600 سد في البلاد، منها نحو 140 سدا كبيرا، نُفّذ ما لا يقل عن 80 سدا منها كليا أو جزئيا بواسطة الحرس، ومن أبرزها: سد “كرخه” في خوزستان، وسد “سيوند” في فارس، وسد “جتوند” الذي أثار جدلا بيئيا واسعا بسبب تأثيراته المدمرة على البيئة والمجتمعات المحلية. وتُقدر قيمة العقود المتعلقة بالسدود التي حصل عليها الحرس بما يتجاوز 6 مليارات دولار، معظمها مموّلة من الميزانية العامة أو عبر قروض من البنوك الحكومية.                          

كذلك، يمتد نفوذ الحرس أيضا إلى قطاع الاتصالات والمعلومات، حيث تستحوذ شركاته على أسهم مؤثرة في شركة موبايل إيران سيلا (MCI)، التي تهيمن على أكثر من 50% من سوق الهاتف المحمول في البلاد. كما يملك الحرس حصصا في شركات الإنترنت ومزوّدي البنية التحتية الرقمية، ما يمنحه أدوات فاعلة للرقابة والسيطرة على تدفق المعلومات، ويعزز دوره الأمني والسياسي في الفضاء الإلكتروني الإيراني.

ومن القطاعات الحيوية الأخرى التي يهيمن عليها الحرس، القطاع المصرفي والمالي، الذي يُعد من أهم أدوات تمويل أنشطته داخليا وخارجيا. عبر شبكة من البنوك والمؤسسات المالية، استطاع الحرس بناء منظومة مالية متكاملة تتجاوز الوظائف التقليدية لتشمل إدارة استثمارات ضخمة، وتسهيل العقود الحكومية، وتوفير غطاء قانوني لتبييض الأموال الناتجة عن أنشطة غير رسمية.

ومن أبرز هذه الأذرع بنك مهر إيران، الذي تأسس عام 2007 ويُدار من قبل كوادر مرتبطة بالحرس، رغم الإعلان عن طابعه التنموي، يُستخدم البنك كأداة تمويل لمؤسسة خاتم الأنبياء وشركاتها، ويمنح قروضا ضخمة بفوائد تفضيلية، دون قيود تُفرض عادة على القطاع الخاص. وتبلغ موجودات البنك أكثر من 10 مليارات دولار، وله أكثر من 800 فرع داخل البلاد.

“80 % من الثروة الوطنية تقع بيد أربعة كيانات كبرى، وأهمها الحرس الثوري عبر مؤسسة خاتم الأنبياء، وهذا يُخضع الاقتصاد الإيراني لسلطة فوق-دولتية لا يمكن محاسبتها”.     بهزاد نبوي، ناشط سياسي إصلاحي.

إلى جانب بنك مهر، يمتلك الحرس حصصا غير معلنة أو عبر وسطاء في بنوك أخرى مثل بنك سينا، وبنك أنصار، والذي دُمج لاحقا في بنك سبه، وبنك رسالت. وتُستخدم هذه البنوك لتوجيه السيولة إلى المشاريع التابعة للحرس أو تسوية ديون الدولة عن طريق صفقات المقايضة ونقل الأصول. كما كشفت تقارير رسمية أن ما لا يقل عن 30% من القروض الكبرى في النظام المصرفي الإيراني خُصصت لكيانات مرتبطة بالحرس، غالبًا دون ضمانات، مما ساهم في أزمة السيولة وارتفاع الديون المتعثرة.

وفي ظل العقوبات الدولية، استغل الحرس البنوك كقنوات خلفية للالتفاف على النظام المالي العالمي، واستخدم شركات واجهة في تركيا، والإمارات، والعراق، إلى جانب نظام الصرافة التقليدي، الحوالات، وقد أدرجت وزارة الخزانة الأمريكية “بنك أنصار” و”بنك مهر” على قوائم العقوبات بسبب تمويل “فيلق القدس” وميليشيات موالية له في المنطقة.

إن اقتصاد الحرس يتعارض مع مبادئ السوق الحر والتنمية المستدامة. لا يمكن تحقيق تنمية حقيقية ما دام هناك كيان يحتكر العقود الكبرى دون مساءلة قانونية أو شفافية”.     عباس آخوندي، وزير الطرق والتنمية الحضارية الأسبق 

وبشكل عام، يشير المحللون إلى أن الحرس يسيطر على نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي الإيراني بشكل مباشر، وترتفع هذه النسبة إلى أكثر من 40% عند احتساب تأثيره غير المباشر عبر الشركات التابعة، والأنشطة المرتبطة به، والتجارة غير الرسمية، حيث يقدر أن المؤسسات التابعة له توظف أكثر من 200.000 عامل بشكل مباشر، وتمنح عقودا لمئات الآلاف من المقاولين والموردين المحليين، ما يجعل من الحرس ربّ عمل ضخما في الاقتصاد الإيراني.

في النشاط غير الرسمي، تشير تقديرات شبه رسمية إلى أن الحرس يدرّ سنويا ما لا يقل عن 12 مليار دولار من تجارة التهريب، خاصةً الوقود والمعادن والنفط الخام. ويتم استخدام موانئ خاصة أو بوابات حدودية تسيطر عليها قوات الباسيج أو فيلق القدس لتسهيل عمليات التهريب إلى العراق، وأفغانستان، وقاكستان، وسوريا. ويُعتقد أن هذه العوائد تُستخدم لتمويل العمليات الخارجية للحرس، ودعم الميليشيات المتحالفة معه في المنطقة.

تأثير الحرس على الاقتصاد الإيراني

أدى التوسع الكبير الذي أحرزه الحرس الثوري في القطاعات الاقتصادية الحيوية داخل إيران إلى تحوله إلى قوة اقتصادية لا يستهان بها، فبينما ساهم هذا التوسع في تنفيذ مشاريع ضخمة، فقد كانت له تبعات سلبية واضحة على الاقتصاد الإيراني، إذ أدى إلى إضعاف القطاع الخاص نتيجة للامتيازات الواسعة التي تتمتع بها الشركات التابعة للحرس، والتي لا تُمنح لنظرائها في السوق، مما أوجد بيئة اقتصادية تنافسية غير عادلة.

كما أن الهيمنة العسكرية شبه الكاملة على قطاعات الاقتصاد ساهمت في ترسيخ مفهوم الاقتصاد الموازي، بحيث بات الاقتصاد الوطني يعتمد بشكل متزايد على المؤسسات العسكرية، وهو ما يُضعف من فرص تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، ويجعل الاقتصاد الإيراني أكثر عرضة للجمود والتقلبات السياسية الداخلية والخارجية، ويقوض التنوع الاقتصادي على المدى الطويل.

“إن الحرس الثوري يسيطر على اقتصاد موازٍ وسري في إيران، يمثل نحو 20% من حجم الاقتصاد الوطني، ويخضع مباشرة للمرشد الأعلى. هذا الاقتصاد يُموّل التدخلات الخارجية ويعمل خارج الموازنة العامة، ما يزيد من معاناة الشعب الإيراني”.     د/ فتحي المراغي، الخبير في الشؤون الإيرانية، في لقاء مع موقع حفريات.

الإصلاحيون والحرس الثوري.. بين الصراع البنيوي والتفاهم التكتيكي

أما في الداخل، شكّلت العلاقة بين التيار الإصلاحي في إيران والحرس الثوري الإيراني أحد أكثر أوجه التناقض والتعقيد في النظام السياسي للجمهورية الإيرانية، فالإصلاحيون، الذين نشأوا ضمن بنية النظام وساهموا في تأسيسه، يمثلون تيارا يدعو إلى الانفتاح السياسي، والإصلاح التدريجي، وإعادة توزيع السلطة بين مؤسسات الدولة المنتخبة وغير المنتخبة.

في المقابل، يُمثل الحرس الثوري الذراع العسكرية الأمنية العقائدية للنظام، ويتمسك برؤية راديكالية تعتبر أن أي انفتاح سياسي أو اقتصادي قد يشكل تهديدا وجوديا لمبادئ الثورة، وخصوصا إذا جاء على حساب النفوذ الذي راكمه الحرس في السياسة والاقتصاد على مدى العقود الأربعة الماضية.

هذا التباين في الرؤية أدى إلى نشوء علاقة متأرجحة بين الطرفين، تتراوح بين التوتر والاحتواء والتفاهم المؤقت، بحسب الظروف السياسية الداخلية والديناميكيات الإقليمية، فعلى سبيل المثال، خلال فترة رئاسة محمد خاتمي، بين سنوات  1997 و2005، سعى الإصلاحيون إلى تقوية مؤسسات المجتمع المدني، وتوسيع هامش الحريات السياسية، وتقييد نفوذ الأجهزة الأمنية والعسكرية في الحياة العامة، إلا أن هذه الجهود اصطدمت بمعارضة صلبة من الحرس الثوري، الذي اعتبر أن هذه التوجهات تمثل خطرا على ثوابت النظام.

      وقد تجلت هذه المعارضة في دعم التيار الأصولي لعرقلة مشروعات الإصلاح، بل في بعض الحالات، استخدام أدوات الدولة العميقة لتقويض حكومة خاتمي، كما في أزمة إغلاق الصحف الإصلاحية أو قمع احتجاجات الطلبة عام 1999.

“خلال حكومة الإصلاحات، لم نكن راضين كثيرا عن أدائهم، وكان تفاعل الحرس الثوري معهم أقل. فالنهج الفكري الذي تبناه مسؤولو هذا القطاع، سواء في المجال الثقافي أو في السياسة الخارجية، كان يقلل من مستوى التفاعل، لأن الحرس الثوري كان يدعم خطابا يعرض هيبة الدولة ويحقق تأثيرا إيجابيا أكبر في مجالات الردع ويقلل من طمع الأعداء”.      اللواء رمضان شريف، أحد قادة الحرس خلال أحد اللقاءات الصحفية.

مع ذلك، لم يكن الصدام مطلقا، بل حملت العلاقة جوانب من التفاهم الضمني، خاصة في ملفات السياسة الخارجية والأمن القومي، فخلال تلك الحقبة، سعت حكومة خاتمي إلى استيعاب نفوذ الحرس الثوري ضمن مشاريع إقليمية مثل دعم المقاومة في لبنان وفلسطين، مع الحفاظ على توازن داخلي يضمن الحد الأدنى من الاستقرار.

لاحقا، ومع مجيء حسن روحاني إلى الرئاسة 2013 إلى 2021، اتخذت العلاقة طابعا أكثر براغماتية، فرغم أن روحاني ليس إصلاحيا بالمعنى الحرفي، فإنه حظي بدعم التيار الإصلاحي خلال الانتخابات، خاصة في ظل رغبته بإبرام الاتفاق النووي والانفتاح على الغرب.

وهنا، لعب الحرس الثوري دورا مزدوجا؛ فمن جهة عارض الاتفاق النووي وهاجم فريق التفاوض بقيادة ظريف، ومن جهة أخرى استفاد من تخفيف العقوبات لتعزيز أنشطته الاقتصادية عبر مؤسساته العملاقة، مثل خاتم الانبياء ومؤسسات البسيج ولعل أبرز المفارقات أن حكومة روحاني، التي كانت تأمل في تقليص نفوذ الحرس في الاقتصاد، وجدت نفسها مضطرة إلى التعامل معه باعتباره قوة لا يمكن تجاوزها، خاصة في مشاريع البنية التحتية والطاقة.

في هذا السياق، لم يتمكن الإصلاحيون من فرض إرادتهم في مواجهة الحرس، بل ظهروا في كثير من الأحيان كطرف ضعيف ضمن معادلة السلطة، فالضغوط التي مارسها الحرس بالتعاون مع الأجهزة القضائية والإعلامية المرتبطة به، كانت كافية لإضعاف أي محاولة للإصلاح الجذري أو تحجيم الدور الأمني المتعاظم.

ومع تصاعد التوترات الإقليمية، وخصوصا بعد اغتيال قاسم سليماني في يناير/كانون الثاني 2020، بدا أن الكفة مالت بشكل أكبر لصالح الحرس، الذي عزز حضوره كقوة عسكرية وأمنية واقتصادية متغلغلة في مفاصل الدولة.

ومع انطلاق احتجاجات واسعة مثل تلك التي حدثت في 2019 و2022، اتخذ الحرس الثوري موقفا أكثر تشددا، معتبرا أن أي اضطراب اجتماعي تهديد للأمن القومي، بصرف النظر عن الخلفيات الاقتصادية أو السياسية لهذه التحركات، في هذه الأثناء، وجد الإصلاحيون أنفسهم في موقف حرج، فمن جهة، لا يستطيعون تأييد القمع، ومن جهة أخرى، يدركون أن الاصطدام المباشر بالحرس قد يؤدي إلى تهميشهم الكامل أو إخراجهم من اللعبة السياسية.

في المرحلة الحالية، ومع تشكيل حكومة مسعود بزشكيان في 2025، بدعم من التيار الإصلاحي، يُلاحظ وجود محاولة جديدة لخلق توازن دقيق في العلاقة مع الحرس. فالرئيس الجديد يدرك أن أي برنامج إصلاحي، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي، لا يمكن تنفيذه دون مراعاة مصالح الحرس الثوري الذي يسيطر على مفاصل الاقتصاد ويملك نفوذا سياسيا وأمنيا واسعا. في المقابل، يسعى بعض قادة الحرس إلى إعادة التموضع داخل النظام بشكل يمنع تفاقم الاستقطاب الداخلي، ويضمن استمرار هيمنتهم دون الدخول في صدام مباشر مع الحكومة المنتخبة.

سأرتدي مجددا زي الحرس الثوري؛ فلولا الحرس الثوري، لتمزقت أوصال هذا البلد ولانتهى أمرنا”       بزشكيان من إحدى مناظراته التلفزيونية في العام 2024.

من هنا، يمكن القول إن العلاقة بين الإصلاحيين والحرس الثوري ليست علاقة شراكة حقيقية، ولا خصومة دائمة، بل هي أشبه برقصة سياسية معقدة يفرضها واقع السلطة في إيران. فالإصلاحيون، رغم خطابهم النقدي، مجبرون على التعامل مع مؤسسة باتت أقرب إلى دولة داخل الدولة، في حين يواصل الحرس استخدام أدواته الناعمة والصلبة لإبقاء كل التيارات تحت السيطرة، في ظل منظومة سياسية تزداد تركيبيتها وتشابك مصالحها عاما بعد عام.

الحرس الثوري الإيراني والعلاقات الإقليمية.. قوة اقتصادية وأمنية في الشرق الأوسط

وفي ما يتعلق بالقوة الإقليمية لإيران، يمثل الحرس الثوري أحد الأعمدة الرئيسية التي تدعم السياسات الخارجية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، فيشكل الحرس الثوري قوة أمنية، عسكرية، واقتصادية فاعلة، ويتجسد دوره في التأثير على الديناميكيات الإقليمية بشكل غير مسبوق، فالحرس لا يتصرف فقط كقوة عسكرية، بل أيضا كفاعل اقتصادي متغلغل في الاقتصاد الإقليمي، من خلال استثماراته، شركاته، وشبكاته التجارية التي تمتد إلى دول عدة في المنطقة.

حيث يمتلك الحرس الثوري الإيراني مجموعة من الأدوات التي تمكنه من التأثير في السياسة الإقليمية، أبرزها الميليشيات المدعومة، فيعد دور الحرس في دعم الميليشيات في دول مثل سوريا، العراق، لبنان، واليمن، أحد أبرز وسائل نفوذه في المنطقة، وعلى سبيل المثال، حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق، كلاهما يمتلك علاقات قوية مع الحرس الثوري، مما يمكن إيران من التأثير في السياسة المحلية في تلك الدول.

أيضا نفوذه في قطاعي النفط والتجارة، فيمتلك الحرس شبكة تجارية معقدة تستخدم التجارة غير الرسمية أو السرية للنفاذ إلى الأسواق الإقليمية والدولية، كما يعد النفط من أهم وسائل النفوذ، حيث إن الحرس يدير العديد من الحقول النفطية في العراق وسوريا ويستفيد من عمليات التهريب والتجارة غير المشروعة.

كذلك الأنشطة العسكرية المباشرة، حيث يشارك في العمليات العسكرية بشكل مباشر في عدة دول، حيث كان له دور بارز في الحرب السورية، من خلال دعم نظام بشار الأسد ضد المعارضة المسلحة، وتقديم الدعم العسكري المباشر، وضمن ذلك تدريب القوات السورية، وتوفير الأسلحة، وإرسال مستشارين عسكريين.

الحرس واقتصاد العراق

منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، برزت إيران كلاعب رئيسي في الساحة العراقية، وسعى الحرس إلى ترسيخ هذا الدور من خلال تعزيز نفوذه العسكري والسياسي والاقتصادي على حد سواء.

فقد عمل الحرس الثوري الإيراني على توسيع وجوده العسكري في العراق من خلال دعم جماعات شيعية مسلحة مثل عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله العراق، وذلك بهدف حماية المصالح الإيرانية وخلق توازن إقليمي يخدم توجهاته الاستراتيجية. 

ولم يقتصر دوره على الدعم غير المباشر، بل شارك فعليا في العمليات العسكرية عبر إرسال مستشارين عسكريين والمساهمة في توجيه التحركات على الأرض. كما نسج الحرس علاقات وثيقة مع الحكومة العراقية، مما منحه تأثيرا مباشرا على القرارات السياسية، خاصة في ظل تصاعد التوترات الطائفية بين السنة والشيعة.

وعلى الصعيد الاقتصادي، استغل الحرس الثوري حالة الفوضى بعد الحرب في العراق للتغلغل في القطاعات الحيوية، فوسّع استثماراته في مجالات مثل النفط والبناء والمقاولات. وقد أصبح يشرف على عدد من المشاريع الكبرى، كأعمال البناء في العتبات المقدسة الشيعية، الأماكن المقدسة عند الشيعة، ويشكّل حلقة أساسية في سلاسل الإمداد اللوجستي التي تربط إيران بالعراق، مما عزّز حضوره كفاعل اقتصادي إلى جانب دوره العسكري والسياسي.

كما يمتد نفوذ الحرس إلى القطاع المصرفي العراقي، إذ تُستخدم بعض البنوك لنقل الأموال إلى إيران أو لتمويل الجماعات المسلحة التابعة له. وتسيطر هذه الجماعات أيضا على الأسواق المحلية من خلال احتكار استيراد مواد أساسية مثل السكر، والقمح، والإسمنت، مما يمنحها قدرة كبيرة على التحكم في الدورة الاقتصادية الداخلية ويعزز هيمنتها على مفاصل الدولة العراقية.

الحرس الثوري في سوريا.. دعم النظام السوري وتوسيع النفوذ الإيراني

لقد شكّلت الحرب السورية التي اندلعت عام 2011 فرصة ذهبية لإيران لتوسيع نفوذها العسكري والإقليمي. استغل الحرس الثوري الإيراني هذا الوضع لترسيخ وجود عسكري دائم في سوريا، عبر قواعد ومراكز عسكرية في درعا، كقاعدة فوج العرين 313، وحلب، كقاعدة جبل عزان، يتم تمويلها وتزويدها مباشرة من قبل إيران. واستهدف هذا التمركز العسكري تعزيز هيمنة إيران في منطقة الشرق الأوسط وتحقيق مشروعها الجيوسياسي الذي يربط إيران بالعراق وسوريا ولبنان من خلال حزب الله.

في موازاة التمدد العسكري، استثمر الحرس الثوري الوضع الأمني لتوسيع نفوذه الاقتصادي، خصوصًا في المناطق التي استعادها النظام بدعم إيراني. فقد أسس الحرس شبكات اقتصادية موازية، ونشطت شركات تابعة له مثل خاتم الأنبياء وبتروبارس في قطاعات النفط، الكهرباء، وإعادة الإعمار. 

كذلك، فقد تم توقيع اتفاقيات طويلة الأمد تمنح إيران امتيازات حصرية في المرافئ، والمناجم، وحقول الغاز، ما سمح لها بالسيطرة على قطاعات حيوية في الاقتصاد السوري.

كما قام الحرس بتوسيع استثماراته في قطاع الطاقة، وتمكّن من السيطرة على العديد من حقول النفط والغاز، ما ساعد جزئيا في بقاء نظام بشار الأسد، لكنه في الوقت نفسه عزز الهيمنة الإيرانية على الاقتصاد السوري، وجعل النظام معتمدا اقتصاديا على إيران.

اليمن.. دعم الحوثيين وتأثيره على البحر الأحمر

وفي اليمن، يُعد الحرس الثوري الإيراني الداعم الرئيسي لجماعة أنصار الله الحوثية، التي تواجه منذ عام 2015 القوات المدعومة من التحالف السعودي الإماراتي. منذ بداية الحرب، قدم الحرس الثوري دعما عسكريا ولوجستيا واسعا للحوثيين، شمل إرسال أسلحة، ومستشارين عسكريين، والمساهمة في تطوير قدرات الحوثيين الدفاعية، وضمن ذلك الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة.

عبر هذا الدعم، تمكن الحرس الثوري من توسيع نفوذه في اليمن، وترسيخ حضوره في منطقة البحر الأحمر، وهو ممر مائي استراتيجي يربط المحيط الهندي بالبحر الأبيض المتوسط. هذا التمركز يُعزز قدرة إيران على التأثير في حركة التجارة الدولية وتهديد المصالح الغربية والخليجية في المنطقة.

وعلى الرغم من محدودية البنية التحتية اليمنية، فقد ساهم الحرس الثوري في دعم الحوثيين لتأسيس اقتصاد حربي موازٍ، يعتمد على شبكات تهريب الوقود والسلاح، والجبايات المفروضة على السكان في مناطق سيطرتهم. ويُعد ميناء الحُديدة من أبرز مصادر التمويل، حيث يُستخدم في تمرير شحنات تجارية بعضها تابع للحرس أو لشركات واجهة إيرانية.

إضافة إلى ذلك، يدير الحوثيون ضرائب محلية ومؤسسات مالية، وقد أنشأوا عملات افتراضية تُستخدم في التداول داخل مناطق نفوذهم، ما يوفّر لهم شبكة تمويل موازية عن الاقتصاد الرسمي. ويُعتقد أن الحرس الثوري الإيراني يشرف مباشرة على عمليات تصنيع السلاح داخل اليمن، ويوفر التكنولوجيا المتقدمة اللازمة لتطوير الطائرات المسيّرة وأنظمة الصواريخ، بما يخدم الأهداف الإيرانية في زعزعة استقرار المنطقة من خلال وكلائها.

لبنان.. حزب الله ومحور المقاومة

يُعد حزب الله في لبنان إحدى أقوى الأذرع العسكرية الإيرانية في المنطقة، وقد أسهم الحرس الثوري الإيراني في تأسيسه وتطويره منذ الثمانينيات، حيث تولى تدريبه، وتسليحه، وتمويله بشكل مباشر. ولا يعتبر الحرس الثوري حزب الله مجرد حليف سياسي داخل لبنان، بل يراه جزءا محوريا من “محور المقاومة” الذي يضم إيران وسوريا وحزب الله، وعددا من الحركات الإقليمية الأخرى.

وتتجلى هيمنة الحرس الثوري في لبنان من خلال حزب الله، الذي لا يقتصر دوره على الجانب العسكري، بل أصبح فاعلا اقتصاديا رئيسيا. يمارس الحزب نشاطات اقتصادية واسعة تشمل تهريب الوقود والدواء، وتجارة العملات، وإدارة شبكات الاستيراد والتوزيع للسلع الأساسية. كما يمتلك الحزب شركات تعمل في مجالات البناء والاتصالات، تُستخدم كواجهات لغسل الأموال وتحويلها بين لبنان وإيران.

وقد تمكّن الحرس الثوري، من خلال حزب الله، من فرض نفوذه على عدد من المعابر الحدودية مع سوريا، مثل معبري القاع والقصير، ما أتاح له تمرير شحنات تجارية غير خاضعة للرقابة الجمركية. أما في الجنوب اللبناني، فتسيطر مؤسسات تابعة للحزب، أبرزها مؤسسة الشهيد وجهاد البناء، على برامج تنموية وصحية تموّلها إيران، ما يعمّق من ترسيخ اقتصاد موازٍ للدولة اللبنانية، يخدم مشروع النفوذ الإيراني طويل الأمد.

الحرس الثوري الإيراني والمستقبل.. التحديات والفرص

بينما يعتبر الحرس الثوري الإيراني إحدى أقوى المؤسسات العسكرية والاقتصادية في إيران، فإن مستقبله يواجه العديد من التحديات الكبيرة في ظل التغيرات الداخلية والخارجية المستمرة، فمن أهم التحديات التي قد تواجه الحرس الثوري الإيراني في المستقبل، الأزمات الداخلية التي تعاني منها إيران، وضمن ذلك الأزمات الاقتصادية المتزايدة والاحتجاجات الشعبية ضد السياسات الحكومية، ومن ضمنها تلك المرتبطة بالحرس الثوري نفسه. كما أن الفساد الإداري داخل المؤسسات التي يشرف عليها الحرس يزيد من تعقيد المشهد الداخلي، ويقوض من فاعليته ومكانته في المجتمع الإيراني.

“لقد تحول الحرس الثوري الإيراني إلى قوة تهيمن على السياسة والاقتصاد معا، مسيطرا على نحو ثلث الاقتصاد الإيراني. هذه السيطرة أدت إلى تدمير البنية الاقتصادية من الداخل، وأضعفت الشفافية والمنافسة، وأسهمت في تعميق الأزمات الاجتماعية والاقتصادية. فإن الحرس يجني ما يقارب 12 مليار دولار سنويا من التجارة غير المشروعة، تُستخدم في تمويل ميليشيات وتدخلات خارجية، مما يُفقر الشعب الإيراني ويزيد من احتمالية الانفجار الشعبي”.          د/إسماعيل خلف الله، باحث واقتصادي خلال لقاء مع موقع رؤية الإخبارية.

كذلك، فإن استمرار العقوبات الدولية على إيران، إلى جانب الفساد الداخلي وتدهور الوضع الاقتصادي، يضع الحرس الثوري في موقف صعب، فرغم احتفاظه بتأثير كبير في الاقتصاد الإيراني، فإن ارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض قيمة العملة الإيرانية، وزيادة البطالة، كلها عوامل تهدد قدرة الحرس على الحفاظ على استثماراته الداخلية وحلفائه.

 فضلا عن أن الفشل في تحسين الأوضاع الاقتصادية قد يؤدي إلى تآكل الدعم الشعبي للنظام، مما ينعكس مباشرة على شرعية الحرس الثوري وموقعه ضمن البنية السياسية الإيرانية. تزايد الاحتجاجات الشعبية على خلفية الفساد وسوء الإدارة قد يضع الحرس تحت مجهر الانتقاد الشعبي، ويهدد صورته كقوة موجهة لحماية الأمن القومي.

ورغم أن الحرس الثوري يُعد قوة فاعلة في تعزيز استقرار النظام من خلال تدخله الأمني والعسكري، فإن استخدامه للقوة لقمع الاحتجاجات الداخلية يثير كثيرا من التساؤلات حول مستقبله. فبينما أظهر قدرته على السيطرة على موجات الغضب الشعبي سابقا، إلا أن الاحتجاجات واسعة النطاق والمتواصلة قد تشكل تحديا جديدا له، وقد تضر بشرعيته وفاعليته على المدى الطويل.

ومن الناحية الخارجية، يواجه الحرس الثوري تحديات جسيمة في ظل العقوبات والضغوط الدولية المتزايدة. فالعقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة والدول الأوروبية لم تقتصر على الجوانب الاقتصادية، بل استهدفت تقليص النفوذ العسكري للحرس في منطقة الشرق الأوسط. ورغم محاولة إيران إعادة إحياء الاتفاق النووي، فإن الانسحاب الأمريكي منه عام 2018 ساهم في تصعيد العقوبات، مما أدى إلى عزلة اقتصادية متزايدة طالت مؤسسات الحرس ومصالحه الإقليمية.

هذه العقوبات، لا سيما على قطاعات حيوية كالبنوك والنفط والغاز، شكلت عائقا مباشرا أمام قدرة الحرس على توسيع نفوذه الاقتصادي، وجعلت من الصعب عليه الحفاظ على حضوره الإقليمي بنفس الكثافة السابقة.

 كما أن التصعيد العسكري الإقليمي، سواء من قبل إسرائيل أو الولايات المتحدة، يشكل تهديدا دائما للحرس الثوري، خاصة مع تزايد احتمال وقوع مواجهات مباشرة أو غير مباشرة. هذا الضغط العسكري قد يضطر الحرس إلى إعادة تقييم استراتيجياته الدفاعية، والتكيف مع واقع جيوسياسي سريع التغير.

ورغم هذه التحديات، لا تخلو الساحة من فرص يمكن للحرس الثوري استغلالها لتعزيز موقعه. فمع تدهور العلاقات مع الغرب، قد تتجه إيران، عبر الحرس الثوري، إلى تعميق علاقاتها مع قوى كبرى كروسيا والصين، اللتين تبديان دعما أكبر لمواقف إيران في مواجهة العقوبات. هذا النوع من التعاون يمكن أن يفتح أبوابا جديدة للحرس من حيث الوصول إلى الأسواق، والحصول على دعم عسكري وتكنولوجي يعزز قدراته الاستراتيجية.

ومن جهة أخرى، فإن الحرس قد يتجه نحو تنويع مصادر دخله بعيدا عن النفط، من خلال الاستثمار في قطاعات مثل التكنولوجيا والزراعة والصناعات التحويلية. هذا التوجه قد يساعد في الحد من تأثير العقوبات، وفي الوقت ذاته يعزز نفوذه داخل الاقتصاد الإيراني في ظل تراجع دور القطاع الخاص.

كذلك، فإن استمرار النزاعات والصراعات في دول مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن يخلق بيئة مناسبة لاستمرار تمدد الحرس الثوري إقليميا. استغلال الفراغات السياسية والمؤسساتية في هذه الدول يمنح الحرس مجالا لتعزيز نفوذه العسكري والاقتصادي، ولتحقيق مشروعه الإقليمي الذي يهدف إلى توسيع مجال النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.

في النهاية، ستظل سياسة الحرس الثوري جزءا أساسيا من الاستراتيجية الإيرانية في السنوات المقبلة. ورغم العقوبات الدولية والضغوط الداخلية، فإنه يبقى عنصرا محوريا في صياغة السياسات الدفاعية والاقتصادية لإيران، ومؤسسة لا يمكن تجاوزها في الحسابات السياسية للبلاد.

 ومع ذلك، فإن التحديات التي يواجهها قد تفرض عليه إعادة النظر في بعض استراتيجياته، والتوفيق بين طموحاته التوسعية من جهة، والحاجة إلى الحفاظ على الاستقرار الداخلي من جهة أخرى. وقد يكون المستقبل كاشفا لمسار جديد للحرس الثوري، إما بالاستمرار في النهج القائم، وإما بالتحول التدريجي نحو أدوار أكثر براغماتية تتماشى مع التغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة.

كلمات مفتاحية: