خاص لـ”زاد إيران”.. لماذا لا يتوقّف برنامج إيران رغم الاغتيالات والتخريب؟

مقال خاص لـ”زاد إيران” كتبه نويد كمالي، الأكاديمي والمحلل الكبير في القضايا الاستراتيجية والسياسة الخارجية.

إن تحليل الهجوم العسكري الذي شنّته إسرائيل فجر يوم الجمعة الماضي ضد إيران، يستلزم وضع هذا الحدث ضمن إطار استراتيجي أوسع، يقوم على تقييم الأخطاء الحسابية التي وقع فيها المحور المعادي.
فهذا العمل العسكري الإسرائيلي، الذي نُفّذ تحت اسم عملية “الأسد الصاعد”، ليس حادثة منفصلة، بل ينبغي اعتباره الذروة لسياسة خارجية فاشلة قائمة على “الضغط الأقصى”، ومحاولة لإعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي لصالح إسرائيل.
ومن هذه الزاوية، فإن هذا الهجوم لا يُعبّر عن قوة إسرائيل، بل يُعدّ مؤشرا على اليأس الاستراتيجي وانعدام الخيارات الفعّالة في مواجهة “عقيدة المقاومة الفاعلة” التي تنتهجها إيران.

وفي ما يتعلق بدور الولايات المتحدة، فإن التناقض الواضح في الخطاب الرسمي للمسؤولين الأميركيين يُعدّ مفتاح فهم الاستراتيجية الأميركية. فإعلان الرئيس الأميركي معرفته الكاملة بالعملية، مقابل تأكيد وزير الخارجية على أن العمل “أحادي الجانب” من قِبل إسرائيل، يكشف عن استراتيجية معقدة قائمة على “الإنكار القابل للتصديق”.

وبموجب هذه العقيدة، تؤدّي الولايات المتحدة دور الميسّر من خلال منح الضوء الأخضر السياسي والمعلوماتي، وتتهيأ لجني نتائج محتملة من الهجوم، لكنها تتجنب تحمّل المسؤولية القانونية والدولية المباشرة أو الدخول في مواجهة مباشرة مع إيران.

أما توقيت الهجوم، الذي جاء مباشرة بعد انقضاء مهلة الستين يوما من مفاوضات الملف النووي، فيدعم الفرضية التي تقول إن هذا العمل العسكري جاء كأداة ضغط بديلة بعد فشل الدبلوماسية القائمة على الإكراه.
وبالتالي، من الناحية الاستراتيجية، فإن الولايات المتحدة ليست طرفا محايدا، بل هي شريك مسؤول في هذه التوترات الخطيرة، وعليها تحمّل تبعات ذلك.

أما الأهداف المعلنة والضمنية لإسرائيل في هذا الهجوم، فيمكن تحليلها على مستويين، وكلاهما يواجهان شكوكا جدية بشأن إمكانية تحققهما.
الهدف الأول يتمثل في الحدّ من البرنامج النووي السلمي الإيراني وتأخيره، عبر ضرب المنشآت جسديا واغتيال العلماء النوويين.
وهذا خطأ استراتيجي جوهري؛ لأن المعرفة النووية في إيران أصبحت قدرة محلية مؤسّسية متجذرة في البنية العلمية والصناعية للبلاد، ولا يمكن القضاء عليها عبر التخريب، بل إن مثل هذه الإجراءات لا تؤدي إلا إلى تعزيز الإرادة الوطنية لتحقيق الاستقلال التكنولوجي.

الهدف الثانوي كان يتمثل في إرباك بنية القيادة والسيطرة للقوات المسلحة الإيرانية من خلال اغتيال القادة الكبار.
ورغم أن هذه خسارة لا يمكن تعويضها، فإن البنية الدفاعية لإيران، بسبب طابعها المنظومي واللامركزي، تتمتع بقدرة عالية على التحمّل في مواجهة مثل هذه الصدمات.
فهذا النظام الدفاعي لا يعتمد على الأفراد، بل يقوم على عقيدة دفاعية راسخة وآليات فعالة لإعداد القيادات البديلة. وقد كانت الضربة الصاروخية والطائرات المسيّرة الإيرانية الدقيقة والسريعة، دليلا على تماسك هذا النظام وفاعليته، وفشل العدو في تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي.

وبالتالي، قد يكون الاحتلال الإسرائيلي قد حقق بعض المكاسب التكتيكية، إلا أنه فشل في بلوغ أهدافه الاستراتيجية الكبرى.
أما تصريحات المسؤولين الإسرائيليين حول “بداية حرب طويلة”، فهي تندرج في إطار الحرب النفسية، وتهدف إلى إدارة الرأي العام الداخلي وإعادة بناء صورة الردع المتضررة لهذا الكيان.
كيانٌ يواجه ظاهرة “الاستنزاف الاستراتيجي الزائد” في جبهات غزة ولبنان وسوريا، ويعاني من أزمات سياسية واجتماعية داخلية عميقة، لا يملك الإمكانات اللوجستية والبشرية ولا العمق الاستراتيجي الذي يؤهله لخوض حرب استنزاف ضد قوة إقليمية بحجم إيران، صاحبة الإرث الحضاري الممتد لآلاف السنين.

إن معادلة المواجهة بين إيران وإسرائيل هي معادلة غير متناظرة بالكامل.
فقوة إيران لا تكمن فقط في قدراتها العسكرية التقليدية، بل في عناصر أخرى كاتساعها الجغرافي، وعدد سكانها، وصمودها الوطني، وشبكة حلفائها الإقليميين المتمثلة في “محور المقاومة”.
أما العمل العسكري المباشر ضد إيران، فيُعرّض إسرائيل لتهديدات وجودية تتجاوز قدرتها على الاحتواء والإدارة.

وقد كان الرد الأولي لبلادنا، ردا محسوبا ومدروسا، يحمل رسالة استراتيجية واضحة.
غير أن استمرار العدو في أخطائه الحسابية قد يؤدي إلى تفعيل المراحل التالية من عقيدة الردّ المتكافئ والمُوجِع لإيران، وهي عقيدة قد تعيد تشكيل الهيكل الأمني الكامل للمنطقة.

إن الأعمال الإرهابية والخارجة عن القانون التي تستهدف القادة والعلماء الإيرانيين، بطبيعتها تُغلق أي أفق دبلوماسي في المدى القريب.
فهذه الأفعال تُفقد أي عملية تفاوضية مصداقيتها من وجهة نظر طهران.
لقد أثبتت إيران دوما استعدادها للحوار القائم على الكرامة، لكنها لن تدخل أبدا في مفاوضات تحت الضغط أو التهديد العسكري.
وقد أظهر هذا العدوان بوضوح أن المحور الغربي–الصهيوني لا يلتزم بالمعايير الدولية ولا بالحلول السلمية.
وفي ظل هذا المناخ، فإن تعليق المفاوضات كان قرارا منطقيا، يستند إلى المبادئ الأساسية للسياسة الخارجية الإيرانية.
وأي انخراط دبلوماسي مستقبلي مشروط بإعادة تعريف شاملة للأطر القائمة، وتقديم ضمانات فعلية وموثوقة، بالإضافة إلى تحمّل الطرف المقابل مسؤولية أفعاله العدوانية.
كما أن هذا الوضع سيدفع بلادنا إلى مراجعة بعض التزاماتها الاستراتيجية في إطار الأنظمة الدولية، بهدف تعزيز أدواتها لضمان الأمن القومي في مواجهة التهديدات.

وعلى نحو أشمل، فإن تزامن هذا العدوان مع التحرك العالمي للمجتمع المدني من أكثر من ثمانين دولة نحو غزة، يحمل دلالة بالغة ويُبرز روايتين متضادتين على الساحة الدولية:
رواية العدوان والاحتلال في مقابل رواية المقاومة والسعي إلى العدالة.

لقد كشف هذا الهجوم، بصورة أوضح للرأي العام العالمي، عن طبيعة الاحتلال الإسرائيلي كمصدر رئيس لعدم الاستقرار والإرهاب المنظّم في المنطقة.
وفي هذا السياق، فإن رد إيران، لم يكن فقط دفاعا مشروعا عن السيادة الوطنية، بل يُفسّر أيضا كخطوة لمواجهة تهديد مشترك يستهدف السلام والأمن الإقليمي والدولي.

إن هذا الحدث يُسرّع من وتيرة فقدان الشرعية الدولية لإسرائيل، ويُبرز في المقابل عدالة وعمق التوجه الاستراتيجي لإيران في دعم القضية الفلسطينية ومقاومة النزعة الأحادية.
نحن نقف اليوم عند نقطة تحوّل استراتيجية قد تقود إلى إعادة تشكيل النظام الإقليمي، وإضعاف البُنى الأمنية غير الفاعلة التي كانت قائمة في السابق.