فيلسوف السياسة: علي لاريجاني الرجل الثالث وإرث كانط في طهران

كتب: ربيع السعدني 

علي لاريجاني، الوجه الهادئ والمعتدل للسياسة الإيرانية، يجمع بين التدين العميق، الفلسفة الكانطية، والبراغماتية السياسية في مسيرة ثرية طويلة تمتد لأكثر من ثلاثة عقود.

يُعتبر علي لاريجاني شخصية محورية في السياسة الإيرانية، وهو أحد الوجوه الإيرانية المعتدلة الهادئة الذين سعوا خلال سنواتهم في النظام إلى إبقاء أفعالهم أقل علانية ومتابعة سياساته من وراء الكواليس، لكنه واجه تحديات عديدة من التيارات المختلفة.

يتمتع لاريجاني بتقدير من بعض الجهات لدوره كسياسي ودبلوماسي إيراني مُخضرم، بينما يجده آخرون مثيرا للجدل بسبب سياساته وبقايه لعقود طويلة في بلاط الحكم، لكن غالبا ما تُعتبر آراؤه محورية في تشكيل السياسات، خاصةً في مجالات الأمن والسياسة الخارجية لطهران.

تعكس تصريحاته توازنا دقيقا بين الدفاع عن السيادة الإيرانية والمخاوف من القضايا الداخلية، ويمتلك مسيرة سياسية حافلة، تمتد لأكثر من ثلاثة عقود. 

الخلفية والتربية

وُلد علي لاريجاني في 3 يونيو/حزيران 1957 في مدينة النجف بالعراق، لعائلة دينية بارزة، والده كان مرجعا دينيا، مما وفر له بيئة تربوية دينية صارمة ثم انتقلت العائلة إلى مدينة قم الإيرانية حيث واصل علي دراسته.

عاد علي مع عائلته إلى إيران في عام 1961، وفي عامه العشرين تزوج فريدة مطهري، ابنة مرتضى مطهري أحد المقربين المخلصين للإمام الخميني وعمل لفترة في هيئة الإذاعة والتلفزيون بناء على طلب والد زوجته.

قائد بالحرس الثوري 

ولكن بعد ذلك، ولأكثر من عشر سنوات، تخلى عن العمل الثقافي وانضم إلى الحرس الثوري، تدرج في الرتب داخل الحرس حتى وصل إلى منصب نائب رئيس الأركان واستمر في هذا المنصب حتى العام 1992.

حصل لاريجاني على درجة الدكتوراه في الرياضيات من جامعة شريف التقنية عام 1979، وتوجه لاحقا لدراسة الفلسفة، حيث حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة طهران وقدم أطروحته لنيل الدكتوراه عن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط.

تأثر لاريجاني بفلسفة كانط

تأثر لاريجاني كثيرا بفكر الفيلسوف الألماني كانط، وكتب عنه عدة كتب بحثية، أبرزها: “الميتافيزيقا والعلوم الدقيقة في فلسفة كانط” و”المنهج الرياضي في فلسفة كانط”، وكتاب آخر بعنوان “الدولة الحديثة”، وله مؤلفات أخرى في شتى الفروع الأدبية بعنوان “الهواء النقي” و”الحكومة الحديثة: والعهد مع الشعب”، كما نشر 15 مقالا بحثيا في مجالات علمية متنوعة.

آل كينيدي إيران

وتعتبر عائلة لاريجاني واحدة من الأسر الثرية وهي عائلة دينية وسياسية عريقة، كان والد علي لاريجاني ميرزا هاشمي أملي أحد علماء الحوزة العلمية، وكان يعمل مدرسا فيها، ويشغل شقيقه صادق آملي لاريجاني منصب رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، حيث دخل عالم السياسة لأول مرة في عام 1998 ولعب دور ممثل مجلس الخبراء. 

وبعد ثلاث سنوات، وبأمر من المرشد الأعلى، أصبح صادق لاريجاني عضواً في مجلس صيانة الدستور، لكنه حصل على أعلى منصب له من المرشد في أغسطس/آب 2009، عندما تم تعيينه رئيساً للقضاء، وقد تم تمديد مسؤولياته في هذا المنصب في عام 2014.

ومن بين أشقائه أيضا رئيس هيئة حقوق الإنسان السابق محمد جواد لاريجاني، والأستاذ الجامعي باقر لاريجاني، والدبلوماسي فاضل لاريجاني، وقد وصفتها مجلة “تايم” الأمريكية عام 2009 بأنها النسخة الإيرانية من عائلة كينيدي الأمريكية.

كبير مستشاري خامنئي 

ومنذ انتهاء خدمته في البرلمان، أصبح لاريجاني عضوا في مجلس تشخيص مصلحة النظام، وتم تعيينه مستشارا لخامنئي في المجلس الأعلى للأمن القومي لفترة ثلاث سنوات بوصفه رئيسا للجهاز الإعلامي الإيراني المرئي والمسموع، ويعتبر من المنظرين الاستراتيجيين للنظام السياسي في إيران.

في أواخر الثمانينات، بدأ لاريجاني نشاطه السياسي، وارتبط بأوساط الثورة، حيث كان له دور في الحركة الطلابية ثم انضم إلى مؤسسات حكومية مختلفة بعد الثورة عام 1979.

وكان أحد أبرز قادة الحرس الثوري الذين دخلوا تدريجيا إلى الساحة السياسية وشغل عدة مناصب في الجهاز الحكومي، منها:

  • رئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية بين عامي (1997 و2004) وسعى إلى تعزيز المحتوى الذي يتماشى مع قيم الثورة، ليشغل بعدها منصب مدير تحرير صحيفة “كيهان”، أشهر الصحف الإيرانية، ولسان حال الأصوليين.
  • وزير الثقافة والإرشاد الديني بين عامي (1994-1997)، في حكومة الرئيس علي أكبر هاشمي رفسنجاني، حيث كان له دور بارز في إدارة البرامج الثقافية وعزز الرقابة الإعلامية في إيران.
  • عضو في المجلس النيابي عدة دورات عن دائرة قم، ورئيسا للبرلمان خلال 3 دورات في الفترة بين عامي (2008 و2020)، حيث لعب دورا مهما في تشكيل السياسات التشريعية ورسم السياسات الوطنية.
  • خاض لاريجاني عدة انتخابات رئاسية، أبرزها عام 2005، وخسرها في مواجهة الرئيس أحمدي نجاد، ولاحقا ترشح بانتخابات 2024، بعد مصرع الرئيس إبراهيم رئيسي في حادث تحطم مروحية، لكنه لم يحقق النجاح في الوصول إلى كرسي الرئاسة بعد.

من اليمين التقليدي إلى الأصولي المعتدل

منذ العام الماضي (2024)، عندما قرر مجلس صيانة الدستور استبعاد علي لاريجاني من الانتخابات الرئاسية، نادرا ما تحدث إلى وسائل الإعلام، وتركزت كل الأخبار المتعلقة به حول احتجاجه على هذا القرار أو أسباب استبعاده.

هذا التيار الأصولي، الذي لطالما كان من بين قادته المعتدلين في قضايا مختلفة، وضمن ذلك السياسة الخارجية، اتخذ موقفا معتدلا في هذه المرحلة أيضا. 

وعكس الموجة الحالية في هذه الجبهة، التي كانت تميل إلى الصمت أو انتقاد المتظاهرين، انضم إلى صفوف من طالبوا بالإصلاح بين المتظاهرين والحكومة، وانتقدوا تصرفاتها.

قائد فريق التفاوض النووي

كان لاريجاني أحد الشخصيات الرئيسية في مفاوضات الملف النووي الإيراني، وترأس فريق التفاوض في فترة حساسة بين عامي 2005 و2007، ويعتبر مدافعا قويا عن البرنامج النووي الإيراني، معبرا عن “ضرورة امتلاك طهران القدرة على الاستفادة من الطاقة النووية لأغراض سلمية”، معتبرا أن هذا حق مشروع.

كما أشار لاريجاني في برنامج “ميانتيتر” في شهر فبراير/شباط  2025 إلى بعض النقاط بشأن الاتفاق النووي، قائلا: “أنا نفسي كنت مفاوضا بشأن القضية النووية، وأعتقد أنها جزء من قوتنا الوطنية، لكنها ليست كل قوتنا الوطنية”. 

تميزت فترة قيادته للملف النووي بالمفاوضات الصعبة مع القوى العالمية حول برنامج إيران النووي، حيث سعى إلى الحفاظ على حقوق إيران في استخدام الطاقة النووية مع محاولة تجنب العقوبات الدولية.

وكان من الداعمين للاتفاق بشأن برنامج إيران النووي المبرم عام 2015 بين طهران والقوى الدولية، وقال لاريجاني آنذاك: “إن المفاوضات النووية اليوم كانت ناجحة للأمة الإيرانية ووصلت إلى نتيجة بعد سنوات طويلة”، لكن الولايات المتحدة الأمريكية انسحبت أحاديا منه في 2018.

استندت نظرية لاريجاني في توجيه القضية النووية على ثلاث ركائز أساسية: 

  • خلق جو من التوافق الوطني في البلاد من خلال تجنب الصراعات الداخلية.
  • المقاومة الدبلوماسية الذكية من خلال الاستفادة من القدرات الدبلوماسية المختلفة.
  • الحركة النشطة في ساحة القضايا الإقليمية والدولية وخلق تقارب أكبر مع القضية النووية على أساس الركائز المذكورة أعلاه، بالتزامن مع المفاوضات مع الوكالة وممثل مجموعة 5+1 ومع رؤساء الدول المهمة في المنطقة، سعى إلى نظرية التقارب الإقليمي من أجل تحييد المغامرة الأمريكية في المنطقة.

انتقادات في ملف الحريات 

على الجانب الآخر يُنتقد لاريجاني بسبب دوره في القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان والقمع السياسي في إيران، مدعين أنه ساهم في قمع الحريات وضيّق الخناق على الحركات المعارضة.

لقد تعلم علي لاريجاني السياسة على طريق السلطة والمؤسسات الرسمية، وليس من الواقعي أن نتوقع منه حضورا فعالا في ساحة مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والتيارات الديمقراطية.

على الرغم من الانتقادات، تحدث في بعض الأحيان عن ضرورة تحسين وضع حقوق الإنسان في إيران، مع التمسك ببعض السياسات التي تعكس رؤية النظام التقليدي، قائلا: “لا ينبغي لنا أن نتصرف بلا مبالاة تحشد فريق حقوق الإنسان ضدنا”.

التحديات الاقتصادية

يُنظر إليه كجزء من الحكومة التي تواجه انتقادات لعدم قدرته على معالجة الأزمات الاقتصادية، حيث يتهمونه بالاستمرار في السياسات التي تؤدي إلى تفاقم الأزمات في البلاد.

ولا سيما في ما يتعلق بالفساد وسوء الإدارة، ولذلك تحدث مرارا عن ضرورة معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية في إيران، محذرا من تداعيات العقوبات الغربية وتأثيرها على الشعب الإيراني.

التعصب الديني

يُعتبر لاريجاني أحيانا ممثلا للتوجهات المتشددة في السياسة الإيرانية، ويظهر أنه ليس فردا بل هو جزء من هيكل السلطة، مما يثير الجدل حول موقفه من بعض القضايا الاجتماعية والسياسية، وتعكس شخصيته خلفيته الدينية، حيث يحافظ على صورة رجل الدين المحافظ، مع تبني بعض السياسات الإصلاحية عندما يقتضي الأمر.

ورغم التحديات والانتقادات، فإن علي لاريجاني يبقى أحد رموز السياسة الإيرانية المعاصرة، بشخصية سياسية مركبة تجمع بين التدين العميق والبراغماتية السياسية والقدرة الكبيرة على التواصل والتوسط.

هذه “التوليفة” الغريبة مكنته من لعب دور رئيسي في العديد من المحطات السياسية الهامة في إيران، ولا تزال مقولته الشهيرة بعد معاهدة باريس، “لا يمكن لرجل حكيم أن يتاجر بصانع العجين مقابل الحلوى”، عالقة في ذاكرة الإيرانيين.

كلمات مفتاحية: