نواي “بخشو”: تقاطع الثقافات الإيرانية والهندية والعربية والأفريقية

 كتب: سيد نيما موسوي

ترجمة: دنيا ياسر نور الدين 

الموسيقى هي اللغة العالمية التي يمكن أن تتجاوز إرادة القوى الكبرى، وتشكّل ساحة للتشارك من أجل بناء هوية هجينة ومركبة. فالموسيقى، إلى جانب كونها ناتجا عن صراع الإنسان مع الجغرافيا، هي مجالٌ لتعاون البشر معا لبناء هوية جديدة. ومن هنا، فإن الحياة الاقتصادية لقوم ما، تلعب دورا مهما جدا في جودة هذا المزج الثقافي.

حضارة الفينيقيين، على سبيل المثال، نشأت في حوض البحر الأبيض المتوسط، وكانت تُعرّف في سياق الحياة التجارية على السواحل الشرقية للمتوسط، ما جعلها تمثل بوتقة انصهرت فيها تجارب جميع الأقوام، وبالتالي كان لها تأثير بالغ في التشكيل الثقافي لكثير من شعوب العالم. في الإقليم الإيراني، تلعب مدينة بوشهر دورا مشابها.

 فقد كانت هذه المنطقة، ولمدة قرون متعاقبة، مركزا للتجارة البحرية بين الإيرانيين والبلدان العربية والأفريقية والهندية، ومن هنا نلمس ملامح هذا التمازج الثقافي واضحة في موسيقى بوشهر، الواقعة في جنوب إيران، والتي تمثل مزيجا من موسيقى تلك الشعوب التي ذُكرت أعلاه.

لفهم سبب التداخل الثقافي في موسيقى بوشهر، لا بد من النظر إلى الموقع التاريخي لهذه المنطقة. ففي القرون الأولى من العهد الإسلامي، كان “ميناء صيراف” الميناء التجاري الأهم في الخليج العربي، ومركزا للملاحة البحرية مع الصين والهند وزنجبار. وقد بلغ صيراف ذروته في عهد حكم “آل بويه”، الذين كانوا مناهضين للخلافة العباسية. ومع ضعف الدولة البويهية، تراجع دور صيراف، في حين أصبحت جزيرة “كيش”، التي كانت تحظى بعلاقات جيدة مع الخليفة العباسي، القطب التجاري الجديد للخليج.

كما ساهم الزلزال الكبير الذي ضرب صيراف في القرن العاشر الميلادي في دفن المدينة وتحويلها إلى خراب، رغم أنها كانت منذ القرون الميلادية الأولى جزءا لا يتجزأ من الملاحة البحرية الإيرانية. ومع ذلك، فإن العناصر الثقافية المشتركة بين بوشهر وصيراف بقيت حية بفضل تلك العلاقات.

ودراسة موسيقى بوشهر، بوصفها إحدى أبرز رموز هذا التمازج الثقافي، تُعد أمرا مثيرا للاهتمام.

فمن جهة، تأثرت موسيقى بوشهر بموسيقى القشقائيين في منطقة شيراز. حيث تتجلى موسيقى القشقائيين، إلى جانب أناشيدهم الحزينة، في حفلات الزفاف أيضا. كما أن نمط حياتهم البدوي والرعوي يترك أثرا واضحا في موسيقاهم، وتُعرف نغَماتهم الحزينة باسم “كوروشي‌خواني”، وهي انعكاس مباشر لذلك النمط. وبالتالي، فإن الموسيقى البوشهرية وُلدت في الأصل من رحم موسيقى القشقائيين في فارس.

ومن جهة أخرى، فإنها متأثرة أيضا بألحان “دشتي” و”دشتستاني”، وهي ألحان حزينة أيضًا، وتُعرف باسم “شروه‌خواني”، حيث يتغنى بها أهالي بوشهر بأشعار “فايز دشتستاني”، الشاعر الذي عاش بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وتُشبه هذه النغمات إلى حد كبير نغمات “اللوري” في غرب إيران.

إلى جانب ذلك، هناك نوع موسيقي يُعرف بـ”ليوا” في بوشهر، يتميز بإيقاعه الراقص السريع، وله جذور في موسيقى زنجبار الأفريقية. كما أن أغلب الآلات الإيقاعية في بوشهر لها أصول أفريقية، مثل “دم‌دم”، و”بيبه”، و”كخن”، وهي آلات محلية إيقاعية دخلت المنطقة من الثقافة الأفريقية. 

بل إن آلات معروفة أكثر مثل “السنج” و”الدمام” ذات أصول أفريقية أيضا، وتُستخدم ليس فقط في الرقص، بل أيضا في طقوس العزاء. ويُقال إن هذا النوع من الموسيقى كان يُستخدم في السابق لأغراض علاجية، خاصة لعلاج حالات التلبس بالجن. وفي مراسم “ليوا”، تُستخدم بالإضافة إلى اللهجة المحلية البوشهرية، أشعار بلغات عربية وسواحلية أيضا.

أما الآلات النفخية في بوشهر، فقد تأثرت كثيرا بالموسيقى العربية، حيث تُستخدم أنواع مختلفة من “الناي” و”الني‌أنبان”، وهي آلات موسيقية دخلت إلى بوشهر من العالم العربي، وتُستعمل في مناسبات العزاء والفرح على السواء.

وإلى جانب ذلك، فإن رقصة بوشهر الشهيرة تعكس العلاقات التاريخية بين الهند وبوشهر منذ قرون بعيدة. فمثلا، رقصة “يزله” التي تؤديها جماعات الغجر الهنود منتشرة في الأناضول، وجنوب إيران، والعراق، بل حتى في بعض مناطق إسبانيا. وهذه الرقصة تنحدر من الثقافة الهندية، وانتشرت إلى مختلف أنحاء العالم عبر إيران.

وفي هذا السياق، فإن تقاليد العزاء في بوشهر، خاصةً الطقوس الدينية الخاصة بذكرى حادثة كربلاء، تحوي في طياتها رواسب من جميع الثقافات المذكورة آنفا.

ولا شك في أن أبرز مظهر من مظاهر ثقافة العزاء الديني في بوشهر يتجلى في أعمال الفنان “جهانبخش كردي‌زاده”، المعروف باسم “بخشو”.

كان “بخشو” مطربا أسود البشرة من بوشهر، وُلد في عام 1936 في هذه المدينة، وكان منذ طفولته وشبابه عنصرا دائم الحضور في مراسم العزاء الديني فيها. وكان متخصصا في “شروه‌خواني” و”نوحه‌خواني”، وقد اكتسب شهرة واسعة في إيران والبلدان العربية بفضل هذه المهارة. بل إن جزءا من نوحته ظهر في الفيلم الأمريكي “آرغو” من إخراج “بن أفليك” عام 2012.

وما يميز “بخشو” بشكل خاص، هو أنه كان تجسيدا حيا لجميع الثقافات المحيطة ببوشهر. فإلى جانب تأثره بألحان “دشتي” في بوشهر، كان الإيقاع في أعماله مستمدا من موسيقى منطقة زنجبار الأفريقية. وتُعد أشهر نوحاته “ليلى بكفتا…”، وهي قصيدة في رثاء واقعة كربلاء واستشهاد الحسين بن علي .

في هذه النوحة، يمكننا أن نلمح عناصر من الألحان “اللورية” في دشتستان، إلى جانب النغمة الحزينة العربية، إلا أن اللحن، خاصةً الإيقاع، أفريقي في جوهره. وفي ما بعد، استُخدمت هذه النوحه على يد “حسين فخري” و”غلام كويتي‌بور” خلال الحرب الإيرانية-العراقية كنشيد حماسي.

وفي النهاية، لا بد أن نرى عاشوراء باعتبارها حدثا ثقافيا واجتماعيا وحضاريا. فعاشوراء، لكونها أعظم تجمع للإيرانيين، تمثل فرصة التقاء ثقافات متباينة، حيث يسعى كل فرد إلى التعبير عنها بأسلوبه الخاص.

فالرجل الجيلاني في شمال إيران يمزج عاشوراء بعاداته المحلية، والإيراني الأذري في تبريز وأردبيل يربط النوح بالألحان الحماسية التركية، والكردي الإيراني يسكب تقاليده في قالب عاشوراء، وهكذا، فإن كل إيراني، مهما كانت لغته أو ثقافته أو قوميته، يخلط عاشوراء بعادات منطقته.

وتُعد نماذج النوح البوشهري، إلى جانب بعدها الروحي المرتبط بواقعة كربلاء، من أبرز الأمثلة النادرة على التمازج الثقافي العالمي في منطقة بوشهر، نظرا إلى موقعها التاريخي والتجاري، وثقافتها التي تتجذر في التقاليد الإيرانية والزنجبارية والهندية والعربية، وتَجعل من سرد واقعة عاشوراء في هذا القالب المبتكر فعلا فنيا فريدا، وأبرز تجلياته تتجسد في أعمال الراحل “بخشو”.