الملف المفتوح للأصول الإيرانية المجمدة.. رواية غامضة عن الأموال المصادَرة

Oplus 131072

 تقرير لـ: أميرعباس هدايت، مراسل ” زاد إيران” في طهران

على مدى العقود الأربعة التي أعقبت الثورة الإسلامية، تحوّلت أصول إيران في الخارج إلى واحدة من أكثر القضايا غموضا وإثارة للجدل في الاقتصاد الدولي. فقد طُرحت أرقام وصلت أحيانا إلى 130 مليار دولار، بقيت عُرضة لمجموعة معقدة من العقوبات، والنزاعات القانونية، وانعدام الشفافية المؤسسية، وسوء الفهم السياسي. ورغم حدوث بعض حالات الإفراج المحدود عن هذه الأموال في السنوات الأخيرة، فإن الجزء الأكبر منها لا يزال إما مجمدا بالكامل وإما غير قابل للاستخدام بِحرية.

ففي أعقاب الثورة الإسلامية في فبراير/شباط 1979، سارعت حكومة الولايات المتحدة إلى تجميد أصول وأموال الحكومة الإيرانية الجديدة على أراضيها. وقد اكتسب هذا الإجراء طابعا رسميا في أبريل/نيسان  1980 من خلال أمر تنفيذي أصدره الرئيس الأمريكي آنذاك “جيمي كارتر”، مما أدى إلى تجميد أكثر من 12 مليار دولار من الأصول النقدية والذهب والسندات الإيرانية في البنوك الأمريكية.

ورغم أن جزءا من هذه الأموال أُفرج عنه بموجب “بيان الجزائر” عام 1981، فإن عددا من الأصول، لا سيما تلك التي ارتبطت لاحقا بدعاوى قضائية رفعها ضحايا عمليات إرهابية، لا تزال محتجزة في الولايات المتحدة حتى اليوم.

في قضية بارزة عام 2016، أصدرت المحكمة العليا الأمريكية حكما يقضي بتخصيص نحو 2 مليار دولار من أموال البنك المركزي الإيراني المحتفظ بها في المؤسسات المالية الأمريكية، لتعويض أسر ضحايا تفجير عام 1983 في مقر مشاة البحرية الأمريكية في بيروت؛ وهو تفجير تنفي إيران على الدوام أي دور لها فيه.

وقد طعنت إيران بهذا الحكم أمام محكمة العدل الدولية، التي أصدرت في عام 2023 حكما أوليا جاء جزئيا لصالح إيران، إلا أن تنفيذ القرار لا يزال يواجه عقبات.

من أبرز العراقيل في تحليل ملف الأصول الإيرانية المجمدة، غياب رقم دقيق وشفاف لحجم هذه الأصول. فخلال العقد الماضي، طُرحت تقديرات متباينة تراوحت بين 20 إلى 130 مليار دولار من قبل مسؤولين إيرانيين، والبنك المركزي، ووسائل إعلام، وحتى مؤسسات دولية.

في عام 2020، قدّر تقرير صادر عن مركز الأبحاث في البرلمان الإيراني قيمة الأصول المجمدة بين 100 و120 مليار دولار. بينما في عام 2023، صرّح بعض المسؤولين الحكوميين بأن إيران لا تمتلك أصولا مجمدة، أو أن الأموال الإيرانية لا يمكن سحبها. 

هذا التباين في التصريحات يرجع جزئيا إلى غياب اتفاق حول تعريف “الأصول المجمدة”: هل يُقصد بها فقط الأموال المصادَرة رسميا، أم تشمل أيضا الموارد التي يتعذر استخدامها نتيجة العقوبات المصرفية والتهديدات الثانوية؟

كما أن عدم الكشف بشفافية عن العقود النفطية، والحسابات الخاصة لإيران في البنوك الأجنبية، وآلية التسوية مع دول مثل الصين والعراق، جعل من الصعب تحديد حجم الأصول بدقة.

ورغم أن الولايات المتحدة تُعد من الناحية القانونية والرمزية الدولة الأهم في مسألة حجز الأصول الإيرانية، فإن دولا مثل كوريا الجنوبية، والصين، والعراق، واليابان لعبت أدوارا أكثر أهمية من حيث حجم الأموال.

فحتى عام 2019، كانت إيران قد جمعت نحو 7 مليارات دولار من مبيعات النفط إلى كوريا الجنوبية، وكانت هذه الأموال مودعة في بنكي “ووري” و”البنك الصناعي الكوري”، وهما من أكبر بنوك البلاد.

لكن بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في مايو/آيار 2018، واستئناف العقوبات النفطية، سارعت البنوك الكورية إلى تجميد هذه الأموال، وصرّحت بأن الخطوة جاءت تحت ضغط من وزارة الخزانة الأمريكية.

وفي 2023، جرت عملية نقل جزء من هذه الأموال إلى حسابات إيران في بنوك الدوحة بوساطة قطرية وأمريكية، لكن وِفقا للاتفاق، كانت هذه الأموال مخصصة فقط للأغراض الإنسانية مثل الأدوية، والغذاء، والمعدات الطبية، ولم يُحوّل أي مبلغ نقدي مباشر إلى إيران. وبحسب البنك المركزي الإيراني، فإن الخلاف حول سعر الصرف وتراجع قيمة الدولار مقابل الوون الكوري أدّى إلى أن تعتبر إيران أن جزءا من أموالها قد فُقد.

أما الصين، فهي الشريك التجاري الأكبر لإيران، حيث استوردت الجزء الأكبر من النفط الإيراني خلال سنوات العقوبات. ورغم وجود تقارير تشير إلى بيع النفط بأسعار مخفضة وتسويته باليوان أو عبر شركات وسيطة، تبقى أصول إيران المجمدة في البنوك الصينية من أكثر الجوانب غموضا في هذا الملف. 

ويقدّر بعض الخبراء أن ما لا يقل عن 20 مليار دولار من أموال إيران في البنوك الصينية غير قابلة للاستخدام، بسبب امتناع هذه البنوك عن تحويل الأموال مباشرة إلى إيران خشية العقوبات الثانوية الأمريكية.

أما العراق، فهو من أبرز الدول المعنية باحتجاز الأصول الإيرانية. إذ تصدّر إيران سنويا مليارات الدولارات من الغاز والكهرباء إلى العراق، لكن سداد هذه المستحقات يواجه دائما مشاكل قانونية ومصرفية وسياسية. وقد قامت الحكومة العراقية، بموجب اتفاقيات مبرمة، بتحويل ديونها لإيران بالدينار العراقي إلى “بنك التجارة العراقي”، حيث يمكن لإيران استخدام هذه الأموال فقط لشراء السلع الإنسانية. 

وعلى الرغم من الإفراج الجزئي عن بعض هذه الأموال عام 2023، أعلن المسؤولون الإيرانيون أن الجزء الأكبر من عوائد تصدير الكهرباء والغاز لا يزال محتجزا في العراق.

وبالنسبة لليابان، فقد كانت أحد زبائن النفط الإيراني قبل العقوبات الأمريكية، وهناك تقارير عن تجميد بضعة مليارات من الدولارات من الأصول الإيرانية في البنوك اليابانية. إلا أن طوكيو، بحكم سياستها الحذرة وحرصها على علاقاتها مع واشنطن، امتنعت عن الإدلاء بأي تصريحات علنية بشأن هذه الأموال.

وعلى خلاف ما يعتقده البعض، فإن جزءا من الأصول الإيرانية في الخارج ليس نقديا. بل يشمل ممتلكات دبلوماسية، واستثمارات سابقة في شركات أجنبية، وسندات دين، وودائع طويلة الأجل تعرضت للتجميد. ففي قضية حديثة في كندا، قامت الحكومة هناك بمصادرة عدة عقارات مرتبطة بإيران ووضعتها للبيع لتعويض ضحايا الإرهاب، وفق ما زعمت.

هذا المزيج من الأصول النقدية وغير النقدية زاد من تعقيد الوصول إليها. إذ يتطلب تحويل هذه الأصول إلى موارد قابلة للاستخدام متابعات قانونية، ورفع العقوبات المصرفية، وإنشاء قنوات مالية موثوقة، وهي أمور غالبا ما تكون رهينة لضغوط سياسية.

وعند توقيع الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة، المعروف باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة”، في يوليو/تموز 2015 ودخوله حيّز التنفيذ في يناير/كانون الثاني 2016، أعلنت إدارة أوباما أن نحو 50 مليار دولار من أموال إيران سيتم الإفراج عنها. إلا أن التقارير الرسمية أظهرت أن إيران لم تتمكن سوى من استرداد نحو 30 مليار دولار.

ويعود هذا الفشل إلى تردد البنوك الأوروبية الكبرى في التعامل مع إيران، وغياب أنظمة مالية مستقرة، وضعف الإرادة السياسية لدى الغرب، وعدم إنشاء قنوات قانونية لبيع النفط.

وفي السنوات الأخيرة، لعبت بعض الدول الوسيطة مثل سويسرا، وعُمان، وقطر أدوارا مهمة في عمليات الإفراج عن أموال إيران. فقد استضافت سويسرا سابقا قناة مالية إنسانية توقفت لاحقا لأسباب فنية. وفي عام 2023، لعبت قطر دورا محوريا في نقل الأموال الإيرانية من كوريا الجنوبية، كما استضافت عمان عدة جولات من المفاوضات غير الرسمية بين إيران والولايات المتحدة.

أما على صعيد القانون الدولي، فإن إيران يمكنها اللجوء إلى هيئات مثل “محكمة العدل الدولية” أو “لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية” لمتابعة مطالباتها القانونية. إلا أن فاعلية هذه الآليات تظل محدودة في مواجهة الإرادة السياسية الأمريكية.

وفي ظل متغيرات الساحة السياسية العالمية، واستئناف المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة ، قد يشكّل الإفراج عن الأصول المجمدة خطوة لبناء الثقة. ومع ذلك، فإن تجنّب تكرار تجربة الاتفاق النووي الفاشلة يتطلب وضع آليات قانونية وشفافة. ويظل ملف الأصول الإيرانية المجمدة مرآة لتعقيد علاقة الجمهورية الإسلامية بالنظام المالي العالمي.