- زاد إيران - المحرر
- إيران, ترجمات, متميز
- 65 Views
كتب: مصطفى أفضل زادة، مراسل “زاد إيران” في طهران
ترجمة: علي زين العابدين برهام
تعتبر قضية «كريسنت» من أكثر العقود النفطية إثارة للجدل في إيران خلال العقدين الأخيرين. فقد تم توقيع هذا العقد في عام 2001 خلال فترة حكومة محمد خاتمي، ووزير النفط حينها بيجن زنكنه، بين الشركة الوطنية الإيرانية للنفط وشركة «كريسنت بتروليوم» الإماراتية. كان العقد طويل الأمد ويقضي بتصدير الغاز الإيراني إلى الإمارات، لكنه لاحقا أثار اعتراضات واسعة بسبب اتهامات بالفساد وتلقي الرشاوى، إلى جانب ما تسبّب به من خسائر اقتصادية لإيران.
وقد اعتبر المنتقدون أن سعر الغاز المحدد في العقد كان أدنى بكثير من السعر العالمي، ما اعتبروه انتهاكا للمصالح الوطنية. وتصاعدت القضية إلى نزاع قانوني بين إيران والإمارات أمام محكمة التحكيم الدولية، حيث واجهت إيران تحديات معقدة خلال مختلف مراحل الدفاع. كما خضع عدد من المسؤولين الإيرانيين للتحقيق ووجهت إليهم اتهامات لدورهم في إبرام هذا العقد المثير للجدل.
بدأت المفاوضات الأولية للعقد بين بيجن نامدار زنكنه، و«مهدي هاشمي»، مدير صادرات الغاز بالشركة الوطنية الإيرانية للغاز ونجل الرئيس الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني. تواصلت هذه المفاوضات لاحقًا بقيادة «أحمد رهكذر» مع شركة «كريسنت» النفطية الدولية لبيع الغاز الإيراني. وفي 25 أبريل/نيسان 2001، تم توقيع عقد طويل الأمد بين الشركة الوطنية الإيرانية للنفط وشركة كريسنت، شمل 26 مادة بالإضافة إلى ملحق أول وأربع رسائل جانبية، حيث مثّل الجانب الإيراني أحمد رهكذر بصفته المدير التنفيذي، ووقّع من جانب كريسنت عبد الحميد ضياء جعفر، المدير التنفيذي للشركة، وذلك لمدة 25 عاما، مع التزام يومي بتوريد 330 مليون قدم مكعب من الغاز.

أما فيما يتعلق بالتنفيذ العملي للعقد، فقد تولت إيران مسؤولية عمليات نقل الغاز حتى الحدود البحرية مع الإمارات، بينما لم تتحمل كريسنت أعباء تُذكر على الصعيد التنفيذي. فقد أوكلت معالجة الغاز المستلم إلى شركة أخرى تُدعى «دانا غاز»، ليُباع الغاز في نهاية المطاف إلى حكومة الإمارات عبر شركة إماراتية حكومية. وبهذا، اقتصر دور كريسنت فعليا على دور الوسيط أو السمسار، دون مساهمة حقيقية في الجوانب التشغيلية للعقد.
يُطرح هنا تساؤل جوهري: ما السبب وراء اختيار شركة «كريسنت» تحديدا كطرف في عقد بيع الغاز بين الشركة الوطنية الإيرانية للنفط والإمارات ؟ ولماذا لم يتم التعاقد مباشرة مع حكومة الإمارات أو مع شركاتها الحكومية بدلاً من اللجوء إلى شركة تلعب دور الوسيط فقط؟ من الجدير بالتنويه أن العقود الدولية لبيع الغاز، لأسباب فنية وقانونية وأمنية معقدة، غالبا ما تُبرم بين الحكومات أو الشركات الحكومية.
في هذا السياق، يُعد بيع الغاز لشركة خاصة كما هو الحال في عقد كريسنت استثناء نادرا، دون وجود تفسير واضح أو معلن لسبب اختيار هذا الخيار بالتحديد. وتشير تقارير أخرى إلى أن بعض الشركات الحكومية الإماراتية كانت قد أعربت عن استعدادها لشراء الغاز بأسعار أعلى بنسبة تتراوح بين 30% و40% من السعر المتفق عليه في عقد كريسنت، إلا أن الشركة الوطنية الإيرانية للنفط لم تتجه إلى إبرام عقد معها.
أما من حيث الأسعار، فيُعتبر عقد كريسنت الأرخص على الإطلاق مقارنة بجميع عقود بيع الغاز التي أبرمتها إيران، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي فقد كان السعر المحدد في عقد كريسنت لا يتجاوز 26% من سعر الغاز المتفق عليه في العقد الموقع بين الإمارات وقطر.

من أبرز المآخذ الأخرى على عقد بيع الغاز لشركة كريسنت أنه تم توقيعه في وقت كانت فيه أسعار النفط العالمية تشهد منحنى تصاعديا واضحا. ورغم ذلك، قامت الشركة الوطنية الإيرانية للنفط بتثبيت سعر الغاز المتفق عليه في العقد لمدة سبع سنوات، دون أن تراعي حركة الأسعار الصاعدة في السوق العالمية.
وخلال السنوات الخمس التالية لتوقيع العقد، واصلت أسعار النفط العالمية ارتفاعها بشكل ملحوظ، في حين لم تتخذ الشركة الوطنية الإيرانية أي خطوة لمراجعة أو تعديل سعر الغاز في عقد كريسنت بما يتناسب مع المستجدات. والأدهى من ذلك أن شركة كريسنت، وخلال نفس الفترة، استطاعت أن تفرض تعديلات على بعض بنود العقد لصالحها.
تجدر الإشارة إلى أنه في النسخة الأصلية من العقد، لم تُمنح شركة كريسنت أي ضمانات تُذكر، كما أن التزاماتها كانت خالية من أي صيغ مُلزمة. صحيح أن العقد لم ينص على بدء تسليم الغاز فور التوقيع، إلا أن توقيعه كان يستلزم تحمّل الشركة الوطنية الإيرانية تكاليف باهظة لإنشاء البنية التحتية وخطوط الأنابيب اللازمة.
وبعد مرور قرابة عامين من توقيع العقد، عادت المفاوضات بين الطرفين لبحث مسألة الضمانات، وأسفرت عن توقيع الاتفاقية الجانبية الخامسة في فبراير/شباط 2003، والتي نصت على منح كريسنت مهلة ستة أشهر لتقديم الضمانات المطلوبة. ومع ذلك، لم تلتزم كريسنت بتعهدها خلال المهلة المحددة، وعمدت بعد يومين من انقضاء المهلة إلى تقديم خطاب اعتماد بقيمة 40 مليون دولار لمدة عامين، مرفقا بتعهد بسيط من شركة المياه والكهرباء في الشارقة.
وهنا يبرز جانبان مهمان: أولا، كان من حق الشركة الوطنية الإيرانية للنفط، وفقا لبنود الاتفاق، فسخ العقد بعد انتهاء المهلة دون تقديم الضمانات من قبل كريسنت، لكنها لم تستغل هذا الحق، ولم تتخذ أي إجراء لحماية مصالحها أو لتعديل بنود العقد بما يخدم الأهداف الوطنية. ثانيا، طوال عامين بعد توقيع العقد، استمرت الشركة الوطنية الإيرانية في تعديل شروط العقد بشكل مستمر لصالح كريسنت، في خطوة اعتُبرت تساهلا غير مبرر أضر بمصالح إيران الاقتصادية.
أثناء مفاوضات الشركة الوطنية الإيرانية للنفط مع شركة كريسنت، صادق مجلس إدارة الشركة الإيرانية في 17 مايو/آيار 2003 على تأسيس شركة مشتركة، تمتلك إيران فيها 30% من الأسهم وكريسنت 70%. كان من المخطط نقل عقد بيع الغاز الموقع عام 2001 إلى هذه الشركة الجديدة وتوقيع عقد الشراكة قبل يوليو/تموز 2003، لكن القرار لم يُنفذ عمليا.
لاحقا، بدلا من الالتزام بالاتفاق، عدّلت الشركة الوطنية الإيرانية للنفط الشروط لصالح كريسنت، متجاهلةً مصالحها الوطنية. وبعد ثلاثة أشهر فقط، وافقت على طلب كريسنت بنقل العقد بالكامل إلى شركة جديدة تدعى “شركة غاز كريسنت”، المملوكة بنسبة 100% لكريسنت نفسها، مما أثار المزيد من التساؤلات حول ملابسات هذه التسهيلات.

وفي هذا السياق، أصدرت منظمة التفتيش العامة تقريرا بعنوان «مراجعة عقد بيع الغاز بين الشركة الوطنية الإيرانية للنفط وشركة كريسنت»، أوردت فيه جملة من الانتقادات الجوهرية للعقد، أبرزها ما يلي:
أولا: بعد تطوير الحقل المشترك للنفط والغاز (حقل سلمان) باستخدام أسلوب البيع المتقابل، كان من المقرر أن يُنقل الغاز المستخرج إلى منطقة عسلوية عبر خط أنابيب خاص. إلا أن قرار وزير النفط السابق، بيجن زنکنه، بتغيير مسار خط الأنابيب من عسلوية إلى سيري ومبارك، جاء مخالفا لقرار مجلس الاقتصاد. ويبدو أن السبب الرئيسي لهذا التغيير كان إتمام عقد بيع الغاز لصالح شركة كريسنت.
ثانيا: لم يُعثر أثناء مراجعة العقد على أي تقارير تبريرية تجارية أو اقتصادية تُبرر توقيعه، لا سيما من الناحية القانونية. كما لم تُجرِ الجهات المختصة أي دراسة فنية أو قانونية معمقة تبرر بنود العقد وأهدافه.
ثالثًا: الصيغ المعتمدة لتسعير الغاز في عقد كريسنت، التي تضمنت مرحلتين (سبع سنوات ثم ثمانية عشر عاما)، تفتقر إلى أي أساس علمي أو اقتصادي متين، إذ ثبت السعر لمدة سبع سنوات بسعر ثابت 48 سنتًا للوحدة دون دراسات داعمة، خلافًا للأعراف التي تقصر تثبيت الأسعار لفترات قصيرة. كما غابت عن العقد معادلات التسعير المرتبطة بارتفاع أسعار الطاقة، مما أضعف جدواه وأضر بالمصالح الاقتصادية لإيران.
رابعا: آلية مراجعة الأسعار الواردة في العقد الأساسي وملحقه السادس، افتقرت للشمولية والضمانات الكافية، إذ استخدمت مصطلحًا عامًا وغير محدد لـ”أسعار الطاقة”، وربطت تعديل الأسعار بالظروف الإقليمية المتغيرة، رغم أن قرارات الدول المنافسة تعتمد على اعتبارات سياسية واقتصادية متباينة، ما جعل المعيار غير ملائم للتقييم أو التعديل.
خامسا: منح شركة كريسنت صلاحية إنشاء منصة في منطقة مبارك كنقطة لتسليم الغاز يُعد خارج نطاق صلاحيات وزارة النفط، إذ أن هذا الإجراء يخلق حقًا مكتسبًا للشركة ويُعتبر متعارضًا مع السيادة الإقليمية الإيرانية. فضلًا عن ذلك، لم تُدرج في العقد أي شروط تضمن عودة ملكية المنصة للطرف الإيراني أو تحديد ترتيبات تفكيكها لاحقًا.
سادسا: لم تؤخذ ملاحظات الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي آنذاك بشأن عقد كريسنت بعين الاعتبار من قِبل القائمين على العقد. ومن أبرزها: ضرورة التأكد من وجود ضمانات معتبرة مثل ضمان حكومة الإمارات، التحقق من أهلية ومصداقية شركة كريسنت.
سابعا: رغم أن الاستثمار في إنشاء خط الأنابيب من سلمان إلى سيري ومبارك كان من مسؤولية الشركة الوطنية الإيرانية للنفط وفقًا للعقد، إلا أن العقد خلا من أي ضمانات كافية لتغطية هذا الاستثمار أو تقليل المخاطر المترتبة عليه.
ثامنا: وفقا للملحق رقم 5 من العقد، كانت كريسنت مُلزمة بتقديم خطاب اعتماد بقيمة 40 مليون دولار وتعهد من مؤسسة مياه وكهرباء الشارقة خلال ستة أشهر، لكنها أخفقت في الالتزام، ما منح الشركة الوطنية الإيرانية للنفط حق فسخ العقد. رغم ذلك، لم يُستغل هذا الحق لتصحيح الاختلالات، بل استُكملت المفاوضات مع كريسنت، وتقديم وعود بتأسيس شركة مشتركة، ولقاءات بين مدير كريسنت ووزير النفط زنغنه، مما أدى بعد 16 شهرا إلى إحياء العقد عبر الملحق رقم 6، مع منح كريسنت امتياز احتكار بيع الغاز في الشارقة.
تاسعا: اتسم تعامل وزير النفط الأسبق مع ملف كريسنت بعدة إخفاقات أساسية، شملت تغيير مسار خط الأنابيب، عدم إعداد تقارير تبريرية، غياب التنسيق بين الجهات المختصة، وضع صيغة غير مدروسة لتسعير الغاز، وعقد لقاءات متكررة مع مدير كريسنت دون إشراك المسؤولين المعنيين، مما عكس تغليب القرارات الفردية وتجاهل المصالح الوطنية والكوادر المؤهلة.
أشار تقرير معاون شؤون المعلومات الاقتصادية بوزارة الاستخبارات الإيرانية إلى جملة من الملاحظات الحاسمة حول عقد كريسنت، أبرزها انتهاك السيادة الوطنية، واعتماد آلية تسعير جعلت سعر بيع الغاز أقل من السعر المدعوم للصناعات المحلية، ما ألحق خسائر جسيمة بإيران على مدى مدة العقد.
كما انتقد التقرير تجاهل تعارض العقد مع المصالح الوطنية، وتورّط سماسرة ومسؤولين، منهم سكرتير وزير النفط حسين رضائي، الذي اعترف بتلقي رشوة والحصول على إقامة في دبي، مؤكدا وجود تواطؤ في إبرام العقد.

امتدت تداعيات هذا العقد إلى الأصول الإيرانية بالخارج، حيث صادرت محكمة بريطانية في أبريل/نيسان 2024 مبنى تابعا للشركة الوطنية الإيرانية للنفط في لندن بقيمة 125 مليون دولار، كما تمت مصادرة مبنى آخر في روتردام وبيعه لتسديد ديون تزيد عن 2.6 مليار دولار لصالح كريسنت.
ولا تزال الأخيرة تسعى لملاحقة أصول أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن قضية كريسنت ليست الأولى من نوعها في ارتباطها بالتيار الإصلاحي، حيث سبقتها قضايا فساد مشابهة مثل قضية رجل الأعمال شهرام جزائري عرب، ما ساهم في تراجع ثقة الشارع الإيراني بهذا التيار، رغم محاولاته التركيز على قضايا اجتماعية وثقافية لصرف الأنظار عن هذه الملفات.