- زاد إيران - المحرر
- 83 Views
كتب: أميرعباس هدايت
في قلب بساتين النخيل، بطل صامت في تراب جنوب إيران، حيث تلتقي الأنهار المالحة بأشجار النخيل في حضن حرارة خوزستان الخانقة، نشأ رجل لا يزال اسمه، بعد سنوات من استشهاده، مجهولا لكثيرين.
“علي هاشمي”؛ القائد الذي قلب في منتصف ثمانينيات القرن الماضي المعادلات العسكرية في حرب إيران ونظام البعث العراقي في منطقة الهور العظيم وجزر مجنون. اسمه لم يتصدر عناوين الصحف كثيرا خلال حرب السنوات الثماني وبعدها، وصورته لم تظهر على شاشات التلفاز، لكن اليوم، بعد أربعين عاما من تلك الأيام، تم إنتاج فيلم باسم «اسفند» يروي حياة هذا القائد الشاب، وتحدياته، وانتصاراته على شاشة السينما.
استطاع “دانش إقباشاوي” المخرج الخوزستاني، أن يحوّل «اسفند» من اسمٍ لشهرٍ شتوي في إيران إلى اسم رمزي في تاريخ السينما الإيرانية.
علي هاشمي من خوزستان
وُلد علي هاشمي عام 1961 في مدينة سوسنكرد التابعة لمحافظة خوزستان الإيرانية، في أسرة متدينة ووفية لوطنها. وقد تزامنت طفولته مع مرحلة حرجة في جنوب إيران، حين كانت المنطقة عالقة بين ازدهار الثروة النفطية من جهة، والفقر المحلي والتهميش من جهة أخرى، في حالة من التعليق بين التنمية والعزلة.
على خلاف أقرانه، دخل علي مبكرا عالم المسؤولية. فبعد انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، انخرط في النشاطات الثورية، رغم صغر سنّه، ثم ما لبث أن التحق بالعمل الدفاعي.
مع اندلاع الحرب بين إيران ونظام صدام حسين في سبتمبر 1980، لم يكن علي قد تجاوز التاسعة عشرة، لكنه سرعان ما برز بفضل عزيمته وحنكته الميدانية، ليصبح أحد العناصر الأساسية في تنظيم القوات الشعبية بمحافظة خوزستان. لم يكن مثل كثير من القادة العسكريين القادمين من المؤسسات الرسمية، بل كان ابنا للجبهة، من تلك الأحياء والأزقة التي كانت تتعرض الآن لقصف النار وقذائف الهاون.
بين عامي 1981 و1984 تولّى قيادة مقر «نصرت» السري، وهو أحد المقرات الاستخباراتية المستقلة التي كانت تُخطط لعمليات دقيقة في منطقة الهور وجزر مجنون. وقد لعب دورا بارزا في الإعداد لعملية «خيبر» عام 1984، التي أدّت إلى تحرير أجزاء من جزر مجنون، وتمكّن من تنفيذ منظومة عمليات غير مسبوقة في منطقة مستنقعية بالغة الصعوبة.

بعد تأسيس مقر “نصرت” وتقديم الخطّة العامة لعمليّتَي “خيبر” و”بدر”، تولّى هاشمی قيادة “فيلق الإمام جعفر الصادق السادس”، الذي تمكّن من تنظيم 13 وحدة قتالية ودعميّة في محافظة خوزستان، ومن أجل ذلك أُطلق عليه لقب “قائد الهور”.
في الأيام الأولى من الحرب، ومع التقدّم السريع لقوات جيش البعث العراقي نحو محافظة خوزستان، تصدّى هاشمي بصفته قائدا للواء 37 “نور” لمنع سقوط مدينة الأهواز. وقد شارك هذا اللواء أيضا في عمليّة “بيت المقدس” وتحرير خرمشهر، حيث تمكّن من تحرير المحور الغربي لخوزستان وتطهيره من القوات العراقية.
رغم نجاحاته التكتيكية، كان علي هاشمي من القادة القلائل الذين عملوا في صمت وعزلة، بخلاف الآخرين. نادرا ما ظهر في المقابلات، وحتى لحظة استشهاده، لم يكن كثير من رفاقه يعلمون على وجه الدقة موقعه أو طبيعة المهام التي كان يتولاها.
في صيف عام 1988، وكان عمره آنذاك 27 عاما فقط، فُقد علي هاشمي خلال انسحاب القوات الإيرانية من منطقة هور الحويزة إثر هجوم عنيف شنه جيش البعث العراقي. وقد ظُنّ لفترة طويلة أنه أُسر، لكن تبيّن لاحقا أنه استُشهد في تلك العملية، وعُثر على جثمانه بعد سنوات من البحث والتفتيش، وتم التعرف عليه.

“اسفند” فيلم سينمائي لبطل مجهول
فيلم «اسفند» من إخراج دانش اقباشاوي هو أول فيلم سينمائي طويل في إيران يتناول حياة علي هاشمي. لا يقتصر الفيلم على سرد حياة قائد مجهول، بل يُعد محاولة لإعادة بناء الأجواء، النبرة، وواقع الحرب بين إيران ونظام البعث العراقي من منظور جديد؛ رواية واقعية تحمل أحيانا لمسات فكاهية، تصور جبهات لم تكن مجرد ساحات قتال، بل مختبرات لأشخاص عاديين تحولوا إلى أبطال.
يقول اقباشاوي: «كنت أتساءل هل يمكن تقديم فيلم حربي يدخل قلب المشاهد دون بكاء، دون شعارات، ودون موسيقى بطولية، بل بواقعية ونبرة الحياة؟ وكان «اسفند» هو الإجابة على هذا السؤال.
يتألف الفيلم من ثلاثة فصول رئيسية: دخول علي هاشمي إلى منطقة «فكة» والهزيمة في عملية والفجر التمهيدية، تأسيس مقر نصرت وتخطيط العمليات وفتح جزر مجنون، وفي النهاية استشهاده في الهور العظيم.
اللافت أن الفيلم يسير بأسلوب كلاسيكي لكنه غير نمطي؛ حيث يشارك فيه غالبية الممثلين المحليين، وتُستخدم اللهجة المحلية في الحوارات. أما الموسيقى، التي نال الفيلم عنها جائزة رسمية وحيدة في «مهرجان فيلم فجر» الإيراني، فهي مزيج من الموسيقى العربية المحلية والأنغام الكلاسيكية الإيرانية.
هاجس التصنع في السينما الإيرانية
خلال السنوات الأخيرة، كانت الأفلام التي تناولت الحرب بين إيران ونظام بعث العراق إما تمجد الحرب بشكل مبالغ فيه أو تحاول من خلال لغة اجتماعية ربط الحرب بالحاضر؛ أما فيلم «اسفند» فقد اختار مسارا مختلفا: العودة إلى الواقع مع لمسة من الجماليات السينمائية الكلاسيكية.
يشير اقباشاوي إلى أنه تأثر بالمخرجين الأمريكيين «هوارد هوكس» و«جون فورد»، وفي الوقت ذاته كانت حياته كطفل نزح بسبب الحرب مصدر الإلهام الرئيسي للفيلم. فقد نشأ في مخيم للنازحين واستلهم العديد من شخصيات الفيلم من تجاربه الشخصية.
تم تصوير «اسفند» بصيغة «سينما سكوب»، وهو اختيار جريء لفيلم يتناول جنوب إيران. وقد أقام فريق العمل لأكثر من ستة أشهر في خوزستان، والهور، وفكة، وشوشتر، مستفيدين من البنى المائية القديمة والأماكن الحقيقية للحرب.

لماذا يُعد فيلم «اسفند» مهما؟
حظي فيلم «اسفند» بإقبال جماهيري واسع ونال إعجاب عدد كبير من نقاد السينما. فهو بمثابة استعادة للواقعية التي افتقدتها السينما الإيرانية، حيث يجمع بدقة بين النغمة والسرد والإنسانية. في استفتاء أُجري في عشرة دور عرض حيث عُرض الفيلم، أعرب 95% من الجمهور عن رغبتهم في التوصية به للآخرين، وهو رقم غير مسبوق لفيلم حربي في إيران اليوم.
يشكل «اسفند» نقطة تحوّل مهمة في السينما الإيرانية، حيث يعود إلى سرد بطولي بسيط وغير متكلف عن حرب إيران ضد نظام البعث الصدامي. وعلى الصعيد العالمي، يقدم الفيلم صورة مختلفة عن حرب الخليج، التي غالبا ما رُويت من منظور بغداد أو واشنطن، إذ يرينا الحرب من خلال عيني قائد شاب يبلغ من العمر 27 عاما اتخذ قرارات حاسمة في بساتين النخيل بجنوب البلاد غيّرت مجريات الحدود.
تُظهر أفلام مثل «اسفند» كيف أن المخرج الذي يعبر عن جذوره وصوته الحقيقي قادر على تحويل قصة بطل محلي إلى عمل يحمل أبعادا إنسانية وعالمية.