إبراهيم قالن وسر اهتمامه بفيلسوف شيعي صفوي

كتب: محمد صادق جمشيدي

يُعدّ إبراهيم قالن (مواليد 1971، إسطنبول)، الدبلوماسي التركي البارز ورئيس جهاز الاستخبارات الوطنية الحالي، شخصية فريدة جمعت بين عالم السياسة وفضاء الفكر والحكمة في مسيرته المهنية. وقد اختاره مركز الدراسات الاستراتيجية الإسلامية في الأردن عام 2025 ضمن قائمة المسلمين الأكثر تأثيرا في العالم، حيث حلّ في المرتبة الثالثة والعشرين.

يُعرف قالن بأنه من أقرب المقرّبين إلى الرئيس رجب طيب أردوغان، وقد ازداد حضوره ودوره على الساحة الدولية، لا سيّما بعد التطورات الأخيرة في سوريا.

شهد المسار الأكاديمي لإبراهيم قالن، في مجال الفكر الإسلامي والفلسفة المقارنة، امتدادا من الجامعة الإسلامية الدولية في ماليزيا إلى جامعة جورج واشنطن، ما يعكس اهتمامه العميق بربط التراث الفكري الإسلامي بالقضايا الكبرى التي يطرحها العصر الحديث. وتُظهر نشاطاته العلمية، من ترجمة أعمال محورية في العرفان النظري إلى تدريسه الفلسفة الإسلامية في جامعات مثل بيلكنت وابن خلدون، علاقته الوثيقة والمستمرة بإرث الحكمة في العالم الإسلامي.

وتجسّد مؤلفاته مثل “العقل والفضيلة” (2014) و”الوجود والإدراك” (2015) هذا التوجّه الفكري، حيث يبرز فيها سعيه إلى تقديم قراءة حيوية، حوارية ومتجددة للحكمة الإسلامية.

غير أن شخصية قالن تتجاوز النطاق الأكاديمي والفكري؛ فقد حققت مقاطع الفيديو التي يظهر فيها عازفا ومغنيا ملايين المشاهدات على موقع يوتيوب. كما أن انتقاله الخاص من مقاعد التدريس والبحث إلى مواقع النفوذ وصنع القرار—بما في ذلك عمله مستشارا كبيرا لأردوغان ورئيسا لجهاز الاستخبارات الوطنية—جعل منه شخصية فريدة في المشهدين الفكري والسياسي التركي.

لكن ما يلفت النظر في شخصيته هو اهتمامه العميق والمستمر بالتراث الحكمائي الإسلامي؛ وهو اهتمام يتجلّى ليس فقط في أبحاثه الأكاديمية، بل ينعكس أيضا في بعض مقارباته السياسية. ويمكن اعتبار هذا الاهتمام نوعا من التعلّق العميق بالفلسفة الإسلامية الإيرانية، وبشكل خاص بحكمة الملا صدرا الشيرازي. ولم يكن هذا الاهتمام مجرد شغف فكري نظري، فقد أنجز قالن أطروحته للدكتوراه حول “نظرية المعرفة عند الملا صدرا”، بإشراف الفيلسوف الإيراني البارز السيد حسين نصر، أحد أهم رواد التيار التقليدي (Traditionalism)، الذي يدعو إلى إحياء الحكمة الخالدة والفلسفات الدينية. ولم يكتفِ قالن بذلك، بل ترجم أيضا إلى اللغة التركية بعض أعمال الفلاسفة الإيرانيين المعاصرين، مثل مهدي الحائري.

هذا التوجّه يطرح أمامنا سؤالا لافتا، قد يبدو في ظاهره متناقضًا: كيف يمكن لأحد أبرز وجوه التيار المعروف باسم “العثمانية الجديدة”—وهو تيار يُنظر في روايته التاريخية إلى إيران بوصفها “الآخر” الهوياتي والمنافس الحضاري، أو على الأقل عقبة كبيرة أمام تحقيق طموحاته—أن يكون بهذا القدر من التعلّق بالفلاسفة الإيرانيين؟
هذا التناقض الظاهري يكتسب دلالة خاصة في السياق الاجتماعي-السياسي الراهن في تركيا، حيث تهيمن الخطابات الهويّاتية على الفضاء العام، وتقوم في كثير من الأحيان على تأكيد الصراعات التاريخية والتموضع على أساسها.

تُعدّ العلاقات بين إيران والإمبراطورية العثمانية من أعقد الفصول وأشدها توترا في تاريخ المنطقة. وقد بلغ هذا التوتر ذروته في عهد الدولة الصفوية (من القرن السادس عشر حتى الثامن عشر الميلادي)، حيث اندلعت بين الطرفين حروب متكررة، وشهدت المنطقة مذابح جماعية، وتغييرات في الحدود ضمن مناطق حساسة مثل القوقاز، وبلاد الرافدين، وشرق الأناضول.
لكن جذور هذا الصراع تتجاوز العوامل الظاهرية كالعِرق أو القومية، إذ كانت كلتا الإمبراطوريتين تتقاسمان تركيبة سكانية تركية الأصل إلى حد كبير، وكانتا تستخدمان اللغتين التركية والفارسية كلغتين رسميتين أو ثقافيتين بشكل واسع.

المذهب كمحور للتقابل

تُظهر تحليلات الوثائق التاريخية أن العامل الأساسي في هذه الصراعات كان تحوّل التشيّع إلى هوية سياسية للدولة الصفوية، في مقابل التسنّن الحنفي الذي تبنّته الدولة العثمانية.
فبعد أن قاد الشاه إسماعيل الصفوي حركة تمرد ونجح في توحيد الأراضي الإيرانية تحت سلطته، قام بإعلان المذهب الشيعي مذهبا رسميا للدولة عام 1501، ما أسّس لحدود أيديولوجية جديدة بين إيران والعثمانيين.

وجاء ردّ السلطان سليم الأول على هذا التحول عبر تشجيع علماء عثمانيين متشددين، مثل ابن كمال باشا، على تأليف كتب وفتاوى تكفّر الشيعة وتعتبرهم مرتدّين. وقد مهّدت هذه الفتاوى لوقوع مجازر مروّعة، كان من أبرزها مذبحة عام 1514، التي راح ضحيتها نحو 40 ألف شيعي في الأناضول، إلى جانب التهجير القسري لعدد كبير منهم إلى ولايات أوروبية خاضعة للعثمانيين.

دور الفقهاء المتشددين

تكشف الوثائق التاريخية أن الخطابات الفقهية الإقصائية كانت مهيمنة على كلا البلاطين، الصفوي والعثماني، في فترات تصاعد التوتر:

  • ففي الدولة العثمانية، كان علماء الدين المرتبطون بالسلطة، مثل أبو السعود أفندي (المفتي الأعظم)، يقدّمون تفسيرات متشددة لمفهوم “أهل السنّة”، مما جعل أي حوار مذهبي أمرا مستحيلا.
  • في المقابل، تأثرت الدولة الصفوية بفقهاء مثل المحقق الكركي، الذين تبنّوا مواقف عدائية علنية تجاه المذهب السنّي، رغم وجود توجهات أكثر اعتدالا مثل أفكار الشيخ البهائي، التي لم تتح لها مساحة كافية للظهور.

وقد كانت هذه العداوات تتصاعد في فترات مختلفة، مع تركيز خاص على الصراعات الدينية. فحرب جالديران عام 1514 بدأت بتحريض من فقهاء الدولة العثمانية السنّية، في حين اكتسبت معارك أخرى، مثل معارك بغداد، شرعية دينية من خلال الفتاوى المتبادلة بين الطرفين.

من هو ملا صدرا؟

المفارقة أن الفضاءات الفلسفية والعرفانية في كلا الإمبراطوريتين، وخلافا للصراع السياسي والمذهبي، كانت تشهد تفاعلات تخصصية وعلاقات عميقة.

ملا صدرا ونموذج الحكمة الإسلامية العابرة للخلافات المذهبية

من أبرز وجوه الحكمة الإسلامية في العصر الصفوي، والتي أسّست مدرسةً فلسفية جديدة ما زالت تُعدّ من قمم الفكر الإسلامي حتى اليوم، يبرز اسم صدر الدين محمد الشيرازي، المعروف بملا صدرا (1572–1640م). وما يثير الانتباه أن فكره أصبح اليوم محطّ اهتمام عدد من المفكرين والمنظّرين المعاصرين الساعين لبناء نموذج حضاري إسلامي، من جنسيات متعددة، من بينهم سياسيون ومثقفون أتراك مثل إبراهيم قالن.

عاش ملا صدرا في فترة مضطربة من تاريخ الدولة الصفوية، تزامنت مع حكم الشاه عباس الأول (1588–1629)، والتي شهدت تصاعد التوترات العسكرية مع الدولة العثمانية، ومنها سلسلة من الحروب للسيطرة على بلاد الرافدين (1603–1618)، ومعارك متكررة في بغداد (لا سيما بين 1623–1638)، ونزاعات حدودية في منطقة القوقاز.
في حين كان فقهاء السلطتين يُصدرون فتاوى متقابلة لتبرير هذه الصراعات، كان هذا العالم الشيعي منشغلا ببناء منظومة فلسفية عميقة، استلهمت كثيرا من تراث محي الدين بن عربي وشُرّاحه السنّة الذين عاشوا في الفضاء العثماني.
وهذا التناقض الظاهري هو من أبرز ملامح المفارقات في تاريخ الفكر الإسلامي، حيث سادت التنافرات السياسية والمذهبية، بينما استمرّ التفاعل الفلسفي والعرفاني في عمق المشهد العلمي.

التفاعل الروحي والعلمي المشترك

كان ملا صدرا في مؤلفاته يستشهد مرارا بابن عربي وشُرّاحه، كما انتقد بعض آرائهم بعمق وتطوير، مستندا إلى مصادر دُرّست آنذاك في بعض المدارس الدينية العثمانية.
وقد برزت المدرسة الصدرائية بتركيزها على المشتركات الكبرى بين المذاهب الإسلامية، وسعيها إلى تعميق هذه المشتركات ضمن مشروع وحدة إسلامية لا يقوم على المجاملة أو الإنكار، بل على الفهم العميق والتكامل بين العقل والنقل والكشف.

هذه الرؤية الحكَمية التي جمعت بين القرآن، البرهان والعرفان، قدّمت نموذجا متوازنا في فهم الشريعة، حيث الإيمان الكامل بالمبادئ الدينية لا يتعارض مع الانفتاح على البعد العقلي والروحي.
كما تؤكّد هذه المدرسة ضرورة هيمنة الدين على شؤون الدنيا، ووجوب إدارة المجتمع وفقا للشريعة الإسلامية.
ففي كتابه “الأسفار الأربعة”، يشير ملا صدرا إلى ضرورة وجود نظام حكم إسلامي، معتبرا أن العدالة والسعادة الحقيقية لا يمكن تحققهما إلا في ظل الشريعة.

الحكمة الصدرائية كطريق للتقريب والوحدة

إن ما يميّز الحكمة الصدرائية هو قدرتها على تحويل التناقضات الظاهرية بين المذاهب إلى أرضية مشتركة للحوار الفلسفي والعرفاني. فهي تقدّم الشريعة في بُعدها الكوني، وتُبرز أن الخلافات الفقهية يجب ألا تحجب وحدة الأفق المعرفي والروحي بين المسلمين.
وكما استلهم ملا صدرا من تراث ابن عربي العثماني في زمن الحروب الصفوية-العثمانية، يمكن اليوم أيضا، عبر إعادة قراءة هذا التراث، الانتقال من صراع الهويات إلى تلاقي الحكمة، ومن تقابل المذاهب إلى تكاملها.

وهكذا، فإن فكر ملا صدرا لا يُعد مجرّد مشروع نظري جامد، بل يحمل في طياته إمكانات حيّة لبناء خطاب إسلامي جامع، ومجتمع يحكمه العقل والنور والشريعة في آن واحد.

تركيا وإيران: وحدةُ قوتين دينيتين على إرثٍ إسلامي أصيل أم تنافسٌ تائه على مصالح قومية؟

لا شك في أنّ الإرثَ الفكري الإسلامي الأصيل- وضمن ذلك التراثُ الحكَمي، والروحي، والتفسيري- يمتلك طاقة هائلة على إرساء الوحدة بين دول العالم الإسلامي، تلك الدول التي تُعدّ جميعها وارثةً لهذا المجد الحضاري المشترك.
ومع ذلك، فإنّ العوائق المذهبية القديمة التي أعاقت هذا الاتحاد عبر القرون لم تَزل، بل ظهرت في عصرنا الحديث عوائق جديدة تُهدّد إمكان نشوء وفاق إسلامي واسع يجمع قوى الأمة على مشروع حضاري مشترك.

في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى معوقَين رئيسيين يهدّدان مسيرة هذه الوحدة، بل قد يُبعدان حتى شخصيات مفكّرة ومنفتحة مثل إبراهيم قالن عن هذا الطريق:

الليبرالية كبديل غير مُجدٍ

إنّ محاولة تجاوز الخلافات المذهبية الفقهية عبر استبدالها بوحدة مبنية على الليبرالية أو العَلمانية، كما ظهر في التحالف الضمني بين أتاتورك في تركيا ورضا خان في إيران، ليست حلا حقيقيا.
بل إنها غالبا ما تؤدي إلى فراغٍ هوياتي وإلى تفكك المعنى في المجتمعات الإسلامية، حيث تصبح الليبرالية نفسها سببا في تعميق أزمة الروح.
في المقابل، ترى الحكمة الصدرائية أن الوحدة لا تتحقق إلا في ظلّ مرجعية الشريعة، لا من خلال إقصائها من الفضاء العام. فهذه المدرسة لا تدعو إلى دولة دينية مغلقة، لكنها تؤمن بأن الشريعة والإيمان يجب أن يكونا الأساس في بناء الاجتماع السياسي والحضاري.

إنتاج مذاهب متعارضة تحت عنوان “إحياء التراث”

إن التسرع في تأويل التراث الإسلامي، خصوصا في جانبه الفلسفي والعرفاني، قد يؤدي إلى بناء قراءات مشوّهة أو متطرفة، تفرّق أكثر مما توحّد.
فبعض من يرفعون شعار “التقريب” يتورطون في تأويلات ساذجة أو انتقائية، أو يؤسسون لخطابات مذهبية جديدة ذات طابع تلفيقي، مما يُضعف الجذور الأصيلة للمذاهب الإسلامية الكبرى.
والوحدة الحقيقية لا يمكن أن تُبنى على النسبية المفرطة أو التفكيك غير المنضبط للتراث، بل تستلزم الالتزام بالأصول المشتركة، وبروح التوحيد التي تجمع ولا تفرّق.

خاتمة:
الطريق إلى وحدةٍ حقيقية بين تركيا وإيران، ومن ورائهما بين سائر الدول الإسلامية، لا يمرّ عبر التغاضي عن الخلافات باسم الحداثة أو عبر تصنيع وحدة سطحية، بل من خلال العودة الجادّة إلى جوهر التراث الإسلامي، واستلهام مشروعات فكرية جامعة كالحكمة الصدرائية، التي تمزج بين العقل والوحي، وتُقدم بديلًا حضاريًا متماسكًا، لا مجرد ردّ فعل سياسي ظرفي أو بحث عن نقاط تقاطع مصلحية عابرة.