- دنيا ياسر
- 21 Views
كتب: محمد مهدي زماني
في الثامن والعشرين من شهر مايو/أيار 1980، سُجل منعطف مهم في تاريخ إيران ما بعد الثورة؛ حيث انطلقت رسميا أعمال أول دورة للبرلمان الإيراني. لم يكن الحدث مجرد افتتاح بروتوكولي، بل مثّل رمزا لمحاولة ترسيخ مؤسسات الدولة في ظل مناخ ثوري حافل بالغموض والتقلبات.
المجلس، الذي أُنيطت به مهمة التشريع والرقابة في الجمهورية الفتية، وُلد وسط أجواء من التوتر، والتجاذبات، والشكوك، والصراعات الداخلية.
تسرد هذه المقالة حكاية تلك الولادة العسيرة، بدءا من الجذور التاريخية والأسس الفكرية، وصولا إلى تجارب الواقع بتعقيداته، ما بين حلوه ومرّه.
تاريخ البرلمان في إيران
يعود مفهوم الهيئات الاستشارية في إيران إلى العصور القديمة، ومن أبرزها “مجلس مهستان” في عهد الإشكانيين، والذي كان يتألف من قسمين: “مجلس الأقارب” (يضم الذكور من العائلة المالكة)، و”مجلس الكهنة” (يضم كبار رجال الدين والكهنة الزرادشتيين). وقد كان لهذا المجلس دور في بعض القرارات المهمة.
إلا أن الشكل الحديث للمجلس بدأ مع “الثورة الدستورية” عام 1906م، وتأسيس “مجلس الشورى الوطني”. وعلى الرغم من فترات تعطيله والقيود التي فُرضت على صلاحياته – خاصة في عهد الشاه – فقد شكّل هذا المجلس قاعدة لمشاركة الشعب في عملية التشريع. هذه التجربة التاريخية مهدت الطريق لتحولات ما بعد ثورة 1979، ولكن برؤية مختلفة تماما.
تأسيس البرلمان بعد الثورة بعام واحد تقريبا
بعد انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، أصبحت الحاجة إلى تثبيت مؤسسات الحكم الجديدة ضرورة لا تحتمل التأجيل. وقد أولى الإمام الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية، أهمية قصوى لتشكيل سلطة تشريعية في أسرع وقت ممكن. وكان يؤكد:
“في الإسلام، الحكم هو حكم القانون. حتى حكومة رسول الله وأمير المؤمنين عليه السلام كانت حكومة قانون… فالحُكم للقانون؛ والقانون هو الذي يحكم في الدولة الإسلامية، ولا شرعية لأي سلطة سوى القانون.” صحيفة الإمام الخميني، ج 8، ص 281
هذا الإيمان بضرورة القانون تُرجم إلى خطوات عملية سريعة: ففي غضون عام واحد فقط من انتصار الثورة 11 فبراير/شباط 1979 حتى افتتاح البرلمان 28 مايو/أسيار 1980، أُجريت خمس انتخابات مهمة في البلاد:
- الاستفتاء على تأسيس الجمهورية الإسلامية
- انتخابات مجلس خبراء الدستور
- المرحلتان الأولى والثانية من انتخابات أول دورة للبرلمان
- انتخابات رئاسة الجمهورية
وهذه الإحصائيات تعبّر بوضوح عن أهمية صوت الشعب وسرعة النظام الجديد في ترسيخ المؤسسات الدستورية.
من منظور الإمام الخميني، كان البرلمان مؤسسة نابعة مباشرة من إرادة الشعب. وقد شدد مرارا على أن:
“كما قلت مرارا، الشعب حرّ في اختيار ممثليه ولا يحتاج إلى وصاية من أحد، ولا يحق لأي فرد أو جماعة أو جهة فرض مرشحين على الشعب. فالمجتمع الإسلامي في إيران، الذي قبل النظام الإسلامي وقيمه السامية وسلطة قوانين الله، يمتلك بالتأكيد القدرة على التمييز واختيار الأصلح. والمشورة من تعاليم الإسلام، ويمكن للناس أن يستشيروا الثقات في محيطهم، كما يمكن للأفراد والجماعات والعلماء أن يرشحوا من يرونه مناسبا، ولكن لا يجوز لأحد أن يتوقع منع الآخرين من إبداء آرائهم أو الترشح.”
صحيفة الإمام الخميني، ج 21، ص 10
كما وصف الإمام الخميني البرلمان بأنه: “في رأس جميع الأمور”
صحيفة الإمام الخميني، ج 18، ص 282
مفهوم المصلحة في فكر الإمام الخميني
من الأفكار اللافتة في فلسفة الحكم لدى الإمام الخميني، كان مفهوم “المصلحة” في إدارة الدولة. فرغم أن الأحكام الشرعية تشكل أساس التشريع، إلا أنه كان يرى أن مواجهة المتغيرات والحاجات الاجتماعية تستدعي إدخال مفهوم المصلحة في العملية التشريعية.
هذا يعني أن البرلمان، انطلاقا من المصلحة العامة، يمكنه سنّ قوانين، حتى وإن تعارضت ظاهريا مع بعض الأحكام الأولية في الشريعة، طالما أن الضرورة الاجتماعية تقتضي ذلك.
ومن أبرز الأمثلة على هذا النهج، الجدل الذي دار في أوائل الثورة حول “قانون الأراضي الحضرية”، حيث اعتبر بعض الفقهاء أن القانون يتعارض مع مبدأ الملكية الخاصة. لكن الإمام الخميني، مراعاة لحاجة المجتمع إلى السكن، أذن للبرلمان بسنّ القانون على أساس “مصلحة المجتمع”.
رسالة رقم 4453 من مجلس صيانة الدستور، بتاريخ 20 مارس/آذار 1982
هذا الموقف يكشف عن مرونة النظام التشريعي في مواجهة تحديات الواقع، وسعيه إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بما يتلاءم مع روح الإسلام ومصالح الأمة.

الجذور الشرعية للجمهورية في عهد الثورة الدستورية
كان لعلماء الحوزة في النجف وطهران دور بارز في بلورة الفكر السياسي للثورة الدستورية، لا سيّما في طرح فكرة “الجمهورية ذات الطابع الشرعي”.
المرجع الكبير محمد حسين النائيني، أحد أبرز مؤيدي فترة الثورة الدستورية ومن كبار مراجع التقليد في النجف، أصبح من أهم منظّري نظام الحكم الدستوري من خلال كتابه القيّم “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”. هذا الكتاب، الذي حظي بتأييد مراجع كبار في النجف أمثال محمد كاظم الخراساني، تناول بالتفصيل أسس الحكومة الإسلامية وعلاقتها بالمشروطة.
النائيني كان يرى أن النظام الدستوري لا يتعارض مع مبادئ الإسلام، بل يمكن أن يكون وسيلة لتحقيق العدالة وتطبيق الأحكام الشرعية في المجتمع. كما كان يعتبر ولاية الفقيه في هذا السياق تعني الإشراف على تنفيذ الشريعة وليس الحُكم المباشر من قِبل الفقهاء، وهو ما اعتبره قابلا للتطبيق ضمن إطار المشروطة.
هذا التوجه يمكن اعتباره شكلا من أشكال “الجمهورية الشرعية”، التي تسعى إلى بناء حكومة قائمة على العدل الإسلامي ومشاركة الشعب، مع الحفاظ على مكانة الشريعة والأحكام الإلهية.
بمعنى آخر، لم يرَ العلماء الشرعيون تعارضا بين الفهم الديني والجمهورية، بل اعتبروهما مكملين لبعضهما، وأن الشرع هو الضامن الحقيقي للجمهورية الأصيلة.
هذا الجزء يُظهر بوضوح أن التوتر أو التفاعل بين “الشرع” و”الجمهورية” أو بين “القانون الوضعي” و”القانون الديني” ليس وليد ما بعد ثورة عام 1979، بل تعود جذوره إلى عهد الثورة الدستورية، حيث نوقش بعمق في الفكر السياسي الشيعي.

تقرير عن المجلس الأول: سير الانتخابات، تأييد الصلاحيات، تكوين الأعضاء
بدأت أعمال الدورة الأولى لمجلس الشورى الإسلامي في 28 مايو/أيار 1980). وقد جرت الانتخابات على مرحلتين، الأولى في 14 مارس/آذار 1980، والثانية في9 مايو/أيار 1980م، وشارك فيها قرابة 11 مليون ناخب، وأسفرت عن انتخاب 234 نائبا.
تميّز هذا المجلس بتنوع غير مسبوق في التيارات الفكرية والسياسية، ليكون بذلك من أكثر المجالس تنوعا في تاريخ الجمهورية الإسلامية. ومن أبرز التحالفات التي شاركت فيه:
- الائتلاف الكبير الذي ضمّ “جمعية رجال الدين المجاهدين” وحزب الجمهورية الإسلامية
- مجموعة “همنام” المرتبطة بحركة “نهضة الحرية”
- مكتب تنسيق تعاون الشعب مع رئيس الجمهورية “المؤيد للرئيس أبو الحسن بني صدر”
رغم أن هذا التنوع عكس اتساع رقعة المشاركة السياسية، إلا أنه أدى في الوقت نفسه إلى خلافات حادة وتوترات داخل البرلمان.
تأیید الصلاحيات والجدل حول أهلية المرشحين
من النقاط الحساسة والمؤثرة في تشكيل المجلس الأول كانت قضية تأیید صلاحية المرشحين. في البداية، وافقت “لجنة الرقابة على الانتخابات في طهران” على ترشيح أعضاء من الأحزاب اليسارية والماركسية، لكنها عادت وغيرت موقفها بعد الرجوع إلى مجلس صيانة الدستور.
أرسل لطف الله صافي كلبايكاني، أمين عام المجلس آنذاك، خطابا إلى وزارة الداخلية بتاريخ 28 20 يوليو/تموز 1981 جاء فيه:
“فقط الأشخاص الذين يعتنقون الإسلام ويلتزمون بمبادئه، أو ينتمون إلى الأقليات المذكورة في المادة 64 من الدستور، يحق لهم الترشح للبرلمان.”
وبناء على هذا القرار، تم استبعاد 23 مرشحا من حزب توده الشيوعي، ما شكّل بداية دور مجلس صيانة الدستور في فحص أهلية المرشحين – وهو الدور الذي استمر لعقود لاحقة، وشهد الكثير من الانتقادات المتعلقة بتقليص التنوع السياسي وحدود حرية الاختيار لدى الشعب.
تحديات تأسيس المجلس الأول
تأسس المجلس الأول في ظل ظروف شديدة الاضطراب بعد الثورة، وفي خضم بداية الحرب المفروضة مع العراق. وقد واجه هذا الكيان التشريعي الوليد طيفا واسعا من التحديات منذ يومه الأول، منها:
- المواجهات المسلحة والاغتيالات (منظمة مجاهدي خلق)
في الوقت الذي سعت فيه الجمهورية الإسلامية إلى ترسيخ مؤسساتها المنتخبة، اختارت مجموعات راديكالية – وعلى رأسها “مجاهدي خلق” (المنظمة التي تُعرف في إيران بـ”المنافقين”) – اللجوء إلى السلاح ورفض خيار صناديق الاقتراع. وبلغ هذا التصعيد ذروته في كارثة 28 يونيو/حزيران 1981، حيث استُهدف مقر حزب الجمهورية الإسلامية بتفجير أدّى إلى استشهاد الدكتور بهشتي و72 من كبار المسؤولين والنواب. - هذه الهجمات الإرهابية لم تسلب البرلمان نخبة من أعضائه (فقد استشهد 32 نائبا خلال الدورة الأولى)، بل أظهرت أيضا الثمن الباهظ الذي دُفع لتأسيس هذا الكيان الدستوري.

الانتقادات الأيديولوجية الراديكالية: اليسار وأفكار المجالس العمالية
في موازاة تشكيل البرلمان، كانت هناك جماعات يسارية راديكالية، مثل منظمة فدائيي خلق (جناح الأقلية) ومنظمة بيكار، ترفض من الأساس فكرة “الديمقراطية البرلمانية” ومؤسسة البرلمان. هذه التيارات كانت تعتبر المجلس أداة “برجوازية” تهدف إلى حماية النظام الرأسمالي وقمع الطبقة العاملة.
في منشوراتهم مثل “كار” و”بيكار” في أوائل الثمانينات، قدّموا انتقادات جذرية للمجلس، وطرحوا “المجالس العمالية والفلاحية” كبديل سياسي واجتماعي.
هذا التوجّه مثّل رفضا لمبدأ “التمثيل الوطني” عبر البرلمان، ودعا بدلا منه إلى “السلطة المباشرة الطبقية”، ما خلق تحديا أيديولوجيا عميقا أمام البرلمان الوليد في بداياته.
القلق بشأن الاستقلالية والفعالية (الليبراليون والقوميون)
في الجهة المقابلة، عبّرت التيارات القومية والليبرالية – التي كانت فاعلة في مراحل الثورة الأولى – عن مخاوف جدية، ليس من وجود المجلس بحد ذاته، بل من استقلاليته وقدرته على تمثيل حقيقي لكافة فئات الشعب.
كان أبرز هذه التيارات نهضة الحرية (حركة الحرية في إيران)، وعلى رأسها مهدي بازركان، الذي عبّر في خطاباته وبياناته في أوائل الثمانينات عن قلقه من اتجاهات سياسية وانتخابية قد تؤدي إلى تضييق الحريات وتقليص التمثيل الحقيقي داخل البرلمان.
أشار هؤلاء إلى ممارسات مثل:
- إلغاء نتائج الانتخابات في بعض الدوائر (مثل أقلید، كرمانشاه، ودركز حيث فاز مرشحو الجبهة الوطنية)
- عدم المصادقة على أهليّة بعض النواب (مثل أحمد مدني وخسرو قشقائي)
وعدّوها دليلا على تدخلات تحدّ من التعددية السياسية.
الإنجازات وسط التحديات:
ورغم كل تلك التحديات والظروف العصيبة، بما في ذلك الحرب، كان المجلس الأول من أنشط الدورات البرلمانية.
فقد ناقش وأقرّ 804 مشروعات قوانين (لوائح ومقترحات)، ولعب دورا محوريا في تشكيل واستقرار الحكومة، حيث نُوقش موضوع التشكيلات الوزارية 31 مرة، ومنح البرلمان الثقة لـ 102 وزير، في حين رفض 12 مرشحا للوزارة.
كما اتخذ قرارات مصيرية في تلك المرحلة، من أبرزها:
- المصادقة على عدم الكفاءة السياسية للرئيس أبو الحسن بني صدر،
- واتخاذ قرار إطلاق سراح رهائن السفارة الأمريكية.

البرلمان الحالي: الهيكل، المهام، الصلاحيات، الهيئات التابعة
بعد مرور أكثر من أربعة عقود، ما زال البرلمان يُعدّ من الأركان الأساسية للنظام السياسي في إيران، ويواصل نشاطه كمؤسسة تمثيلية يُنتخب أعضاؤها مباشرة من الشعب لولاية مدتها أربع سنوات. كما يتمتع ممثلو الأقليات الدينية المعترف بها بمقاعد مخصصة داخل المجلس.
تُعقد جلسات المجلس في الغالب بشكل علني، وتكون متاحة للاطلاع من قبل عامة الناس.
المهام الأساسية للمجلس:
- التشريع:
للمجلس الحق في سن القوانين في مختلف المجالات، شريطة عدم تعارضها مع الشريعة والدستور، حيث يُناط تقييم هذا التعارض بـ مجلس صيانة الدستور. - الرقابة:
يستخدم المجلس أدوات متعددة لمراقبة ومحاسبة السلطات الأخرى، لا سيما السلطة التنفيذية، مثل:- التحقيق والتفحص
- منح أو حجب الثقة
- الاستجواب
- الخطابات أثناء الجلسات
الحصانة البرلمانية:
من أبرز ما يتمتع به النواب هو الحصانة القضائية، وفقا للمادة (86) من الدستور الإيراني، والتي تنص على أن:
“النواب يتمتعون بحرية إبداء الرأي في أداء مهامهم، ولا يمكن ملاحقتهم قضائيا بسبب الآراء التي يطرحونها داخل المجلس.”
وهذا يُعدّ ضمانا لحرية التعبير وقدرتهم على طرح قضايا الشعب بكل صراحة ودون خوف.
الهيئات المساعدة للمجلس:
لتعزيز البعد الفني والتخصصي في عمله، يستفيد المجلس من هيئات مستقلة واحترافية، مثل:
- مركز الأبحاث البرلماني
- ديوان المحاسبات (الذي يتولى مراقبة الأداء المالي للدولة)
سبعة خرداد: تاريخ يحمل رمزية أكثر من مجرد يوم تقويمي
إن تاريخ 7 خرداد، الذي يصادف ذكرى افتتاح أول دورة لمجلس الشورى الإسلامي، ليس مجرد محطة زمنية، بل يمثل رمزا لمسار طويل ومعقد من بناء المؤسسات في أعقاب الثورة الإسلامية.
منذ انطلاقه وسط أزمات وتحديات جسيمة، وحتى اليوم كمؤسسة دائمة، بقي المجلس محورا للنقاشات والانتقادات والتحليلات. ورغم ما مرّ به من مطبّات وتحديات سياسية واجتماعية، يواصل لعب دوره المحوري كصوت للإرادة الشعبية ضمن بنية النظام السياسي الإيراني.