- محمد علي
- 73 Views
في ظل ظروف اقتصادية دقيقة وتحديات مالية متفاقمة، اتخذت إيران خطوة لافتة تعكس تحولا في مقاربتها للعلاقات الدولية، من خلال السعي إلى تقليص العزلة، والانخراط في أطر التعاون القانوني والمالي العالمي. هذا التحول، الذي يأتي بعد سنوات من التردد والانقسام الداخلي، يُنظر إليه بوصفه محاولة لتخفيف القيود المفروضة على الاقتصاد الإيراني، وفتح قنوات جديدة للتعامل مع المؤسسات الدولية.
وبينما تختلف الآراء حول دوافع هذه الخطوة وتوقيتها، يبقى المؤكد أنها تمثل علامة فارقة في مسار السياسات الإيرانية، وتشير إلى إدراك متزايد بضرورة التكيّف مع المتغيرات الإقليمية والدولية لتجنب مزيد من الانكماش والانغلاق.
حيث صادق مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران، مساء الأربعاء 14 مايو/أيار 2025، على انضمام البلاد إلى اتفاقية مكافحة الجريمة المنظمة، المعروفة باسم اتفاقية باليرمو، بعد التصويت عليها خلال جلسته لتأخذ 27 رأيا “موافق” مقابل 10 “غير موافق”، في خطوة تأتي بعد أعوام من الجدل الحاد بين الأوساط السياسية والقانونية والاقتصادية داخل إيران بشأن الانضمام إلى اتفاقيات مجموعة العمل المالي (FATF)، في ظل العقوبات الغربية والمخاوف من انعكاسات تلك الاتفاقيات على السيادة الوطنية.

وهذا وقد حضر الجلسة عددا كبير من كبار أعضاء المجمع، على رأسهم رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان، ورئيس السلطة القضائية غلام حسين محسني إيجي، في إشارة إلى الأهمية التي أولاها النظام لهذه الخطوة.
يُذكر أن اتفاقية باليرمو قد تم إقرارها عام 2000، ودخلت حيز التنفيذ منذ 2003، وهي ترتكز على التعاون الدولي في مواجهة الجرائم المنظمة والعابرة للحدود، حيث تم تعريف كل نوع من هذه الجرائم على نحو مفصل ضمن نصوص الاتفاقية، فوفقا للخبراء، فإن الاتفاقية تتضمن ثلاثة أطر تنظيمية رئيسية تشمل مكافحة الجريمة المنظمة، وقوانين مكافحة غسل الأموال، ومحاربة الفساد، كما تناولت موضوعات مثل تسليم المجرمين، ومصادرة وإعادة الممتلكات الناتجة عن الجريمة.

ومن الجدير بالذكر أن الحديث عن انضمام إيران إلى هذه الاتفاقية بدأ شفهيا منذ عام 2005، قبل أن يُطرح موضوع FATF، وكان الهدف حينها الاستفادة من المنافع الدولية، وبعد تمرير الاتفاقية في البرلمان، اعترض مجلس صيانة الدستور عليها، غير أن هذه الاعتراضات تمت معالجتها لاحقا، إلا أن هيئة الرقابة العليا بمجمع تشخيص مصلحة النظام رفضتها بدعوى تعارضها مع مبادئ الاقتصاد المقاوم.
وتُعد اتفاقيتا باليرمو وCFT من بين أربع اتفاقيات أوصت بها FATF، وكانت إيران قد انضمت إلى اثنتين منها سابقا، وبهذا تكون قد التحقت بالثالثة، كما تجدر الإشارة إلى أن دولا مثل سوريا واليمن والعراق ولبنان، ورغم حالات الإرهاب والأوضاع الاقتصادية، تُعد من أعضاء هذه الاتفاقية.
يذكر أن بزشكيان كان قد طلب من قائد الثورة الإيراني، على خامنئي، في ديسمبر/كانون الأول 2024K أن يصدر أمرا بإعادة دراسة انضمام إيران إلى اتفاقية باليرمو، وبعد ستة أيام، أعلن القائد موافقته على إعادة دراسة هذا الموضوع في مجمع تشخيص مصلحة النظام، مخاطبا رئيس المجمع.

من البرلمان إلى مجمع التشخيص.. موافقة لكن بشروط
صرح هادي خاني، ورئيس مركز المعلومات المالية، خلال تصريحات أدلى بها لوكالة إيرنا الإخبارية مساء الأربعاء 14 مايو/أيار 2025، بأن الاتفاقية كانت قد تمت المصادقة عليها في الأصل بشروط من قبل البرلمان، على غرار ما تقوم به العديد من الدول عند انضمامها إلى مثل هذه الاتفاقيات، موضحا أن الشرط الأهم الذي تمسكت به إيران هو ضرورة تنفيذ الاتفاقية ضمن الأطر الدستورية للبلاد، بما يحفظ السيادة القانونية والإدارية.

وأوضح خاني، الذي حضر الجلسة حتى لحظة التصويت، أن القرار صدر بعد مناقشات طويلة امتدت لأشهر، وتركزت حول الجوانب الفنية والقانونية للاتفاقية. وأكد أن المجمع، في نهاية المطاف، توصل إلى أن المصادقة على الاتفاقية تنسجم مع مصلحة البلاد في هذه المرحلة الصعبة، كذلك، فقد أكد خاني أن أجواء الجلسة كانت مهنية وفنية بامتياز رغم حساسية الملف، مشددا على أن حتى الأعضاء المعارضين عبّروا عن آرائهم بشكل قانوني مدروس بعيدا عن الشعارات أو النزاعات الحزبية.
كما لفت خاني إلى أن إيران ليست وحدها في ممارسة ما يُعرف بالقبول المشروط للاتفاقيات الدولية، مشيرا إلى أن العديد من الدول قدّمت تحفظات أو تفسيرات تفسيرية أثناء انضمامها إلى اتفاقيتي باليرمو وCFT، كما يعتبر هذا النمط من الانضمام وسيلة لحماية الخصوصية القانونية والسياسية لكل دولة، مع الالتزام بالمبادئ العامة للاتفاقيات الدولية.
أيضا فقد أوضح أن الشروط التي قدمتها إيران تركزت حول الالتزام بتطبيق مواد الاتفاقية في إطار القانون والدستور الإيراني، وليس خارج ذلك. ويهدف هذا إلى الحد من التدخلات أو التفسيرات الخارجية التي قد تتعارض مع المنظومة القضائية والسيادية للجمهورية الإسلامية.
تبليغ القرار والخطوات المقبلة
عقب المصادقة، ينتظر أن يتم تبليغ القرار رسميا إلى وزارة الخارجية الإيرانية، التي ستتولى بدورها تنفيذ الخطوات القانونية اللازمة للانضمام الكامل إلى الاتفاقية، وبهذا الشأن فقد أوضح خاني أن عملية الانضمام الرسمية ستبدأ فور استكمال الإجراءات الإدارية، ما يمثل انتقالا فعليا من مرحلة الجدل الداخلي إلى مرحلة التعامل الخارجي مع الهيئات الدولية المختصة.

وفي هذا السياق، من المنتظر أن يتم قريبا إدراج اتفاقية CFT، الاتفاقية الخاصة بمكافحة تمويل الإرهاب، على جدول أعمال مجمع تشخيص مصلحة النظام، في خطوة تكمل المسار الذي بدأته إيران باتجاه تطبيع علاقاتها مع مجموعة FATF، التي وضعت طهران منذ سنوات على القائمة الرمادية بسبب عدم التزامها الكامل بالمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
الأبعاد الاقتصادية للقرار.. كسر العزلة المصرفية وتسهيل التبادلات
يرى مراقبون اقتصاديون أن التصديق على اتفاقية باليرمو من شأنه أن يرسل إشارات إيجابية إلى الأسواق الإقليمية والدولية، وإلى المؤسسات المالية العالمية التي أحجمت طويلا عن التعامل مع إيران بسبب المخاوف من تورطها في تمويل الإرهاب أو تسهيل الجرائم المنظمة، ويؤكدن المراقبون أيضا أن المصادقة على الاتفاقيتين ستُسقط العديد من الذرائع التي تستخدمها بعض الدول المعادية لتقييد حركة الأموال والبنوك الإيرانية.
هل تكون باليرمو بداية مرحلة جديدة؟
في ضوء هذه التطورات، تتجه الأنظار إلى ما إذا كانت المصادقة على اتفاقية باليرمو تمثل نقطة تحوّل في سياسة إيران الاقتصادية والدبلوماسية، وهل يمكن أن تُترجم هذه الخطوة إلى انفتاح أكبر على النظام المالي العالمي، أم أن العراقيل السياسية والضغوط الخارجية ستُبقي إيران في منطقة رمادية يصعب مغادرتها.

وبينما يرى البعض أن هذه الخطوة تأخرت كثيرا، يعتبرها آخرون قرارا استراتيجيا دقيقا في توقيت حساس، وسط تغيرات داخلية وخارجية عميقة، وإدراك متزايد داخل دوائر الحكم الإيرانية بأن استمرار العزلة المالية لم يعد خيارا قابلا للاستمرار في ظل تعقّد التحديات الاقتصادية والاجتماعية.