- زاد إيران - المحرر
- 76 Views
وسط أزمات اقتصادية متراكمة أثقلت كاهل الإيرانيين لسنوات، يعود إلى الواجهة مشروع نقدي كان طي الأدراج لقرابة عقد ونصف، مشروع لا يتضمن وعودا بخفض الأسعار أو مضاعفة الرواتب، بل يقول بلزوم حذف أربعة أصفار من العملة الوطنية. في ظاهر الأمر، يبدو التغيير رمزيا، شكليا، أشبه بعملية تجميل رقمي لأرقام تضخمت بفعل عقود من الأزمات والتضخم، لكن خلف هذا الإجراء، نقاشات أعمق تجري بين صناع القرار والخبراء حول معاني الرمز النقدي، ومكانة الريال، ومدى جدوى إصلاح شكله دون إصلاح حقيقته.
ففي تطور لافت لإحداث تغيير في شكل العملة الوطنية الإيرانية، أعلن محمد رضا فرزين، محافظ البنك المركزي الإيراني، أن المؤسسة النقدية تعتزم متابعة تنفيذ خطة حذف أربعة أصفار من العملة الوطنية خلال العام الإيراني الجاري، حتى مارس 2026، وجاء هذا الإعلان خلال افتتاح أعمال مؤتمر النظام النقدي والمصرفي الإثنين 12 مايو/ آيار 2025، حيث أكد فرزين أن الخطة تعود إلى سنوات سابقة، إلا أن الوقت قد حان لتفعيلها وتنفيذها على أرض الواقع، خاصة في ظل التحديات الهيكلية والتضخمية التي تعاني منها البلاد.

ويأتي تصريح فرزين كإشارة واضحة إلى أن الحكومة ترى في هذا الإجراء أحد الأدوات لمواجهة المشاكل المتفاقمة في النظام النقدي، من تعقيد الحسابات، إلى ضعف القيمة الاسمية للريال، وصولا إلى الأعباء اللوجستية والإدارية المترتبة على استخدام عملة ذات أصفار كثيرة.
تاريخ حذف الأصفار.. من حكومة هاشمي حتى اليوم
يعود النقاش حول حذف الأصفار من العملة الوطنية إلى ما يقرب من ثلاثة عقود. فقد طُرحت فكرة حذف الأصفار لأول مرة في الأوساط الاقتصادية خلال عامي 1993و1994، في فترة رئاسة أكبر هاشمي رفسنجاني. إلا أن هذا الموضوع لم يدخل مرحلة جدية إلا في عهد حكومة محمود أحمدي نجاد.

فخلال فترة حكومه، تم تكليف محمود بهمني، محافظ البنك المركزي حينها، بإجراء الدراسات الأولية بشأن حذف الأصفار. ومع ذلك، وبسبب تزامن هذا المشروع مع تنفيذ قانون ترشيد الدعم النقدي والظروف الاقتصادية الخاصة بالبلاد، لم يُنفذ هذا المخطط، وقد أعلن محمود بهمني في نهاية المطاف أن حذف الأصفار ليس مدرجا ضمن جدول أعمال الحكومة، ولا يبدو تنفيذه ضروريًا في تلك المرحلة.

هذا وقد أعادت حكومة حسن روحاني طرح موضوع حذف الأصفار من العملة الوطنية، وفي البداية جرى الحديث عن حذف ثلاثة أصفار، إلا أن النقاش تطور تدريجيا ليشمل حذف أربعة أصفار وإصلاح الوحدة النقدية في البلاد بشكل أكثر جدية، وكان الاقتصاديون في تلك المرحلة يرون أن حذف الأصفار سيكون ذا طابع رمزي وشكلي أكثر منه اقتصاديا، ولن يترك أثرا ملموسا على المؤشرات الاقتصادية الكبرى مثل التضخم. ومع ذلك، فإن هذه الخطوة كانت قادرة على تسهيل العمليات المحاسبية والمعاملات المالية والحسابات اليومية للمواطنين.
وفي عام 2014 أكد ولي الله سيف، محافظ البنك المركزي في ذلك الوقت، على ضرورة تنفيذ هذا المشروع، لكنه ربطه بتحقيق معدل تضخم أحادي الرقم واستقرار الأوضاع الاقتصادية في البلاد. كما شدد سيف على أهمية تهيئة البنية التحتية اللازمة، بما في ذلك طباعة أوراق نقدية جديدة، قبل تنفيذ الخطة.

ليأتي ديسمبر/ كانون الأول من العام 2016 وتقرر الحكومة تغيير وحدة احتساب العملة الوطنية من الريال إلى التومان، بحيث يعادل كل تومان عشرة ريالات.، وأوضح وليالله سيف في تفسير هذا القرار أنه لا يعني حذف الأصفار من العملة الوطنية، بل هو مجرد تعديل في وحدة العد، كما وعد بأن الحكومة ستقدّم مشروع قانون مستقل لحذف أربعة أصفار من العملة الوطنية إلى البرلمان.
وقد تحقق هذا الوعد في النهاية في أغسطس/ آب من العام 2019، حيث صادقت الحكومة، في جلسة ترأسها حسن روحاني، على مشروع قانون البنك المركزي لحذف أربعة أصفار وتغيير الوحدة النقدية إلى التومان، ولاحقا، وافق البرلمان الإيراني في مايو/ أيار من العام التالي على الخطوط العامة لهذا المشروع، لكن مسار المصادقة النهائية عليه وتنفيذه توقف لأسباب متعددة، منها الأزمات الاقتصادية الناتجة عن العقوبات، وتفشي فيروس كورونا.
حذف أربعة أصفار، لماذا الآن؟ وكيف سيؤثر على العملة الإيرانية؟
بحسب ما أوضحه جعفر مهدي زاده، المدير العام للسياسات الاقتصادية في البنك المركزي، خلال تصريحات أدلها إلى وكالة أنباء إيرنا الإثنين 12 مايو/ آيار 2025، فإن خطة حذف الأصفار ليست وليدة اليوم، بل ترجع إلى أكثر من 12 عاما، فخلال هذه الفترة، أُجريت دراسات معمقة من قبل مركز الأبحاث النقدية والمصرفية التابع للبنك المركزي، خلصت إلى ضرورة تغيير الوحدة النقدية من الريال إلى التومان، مع حذف أربعة أصفار من العملة.

وقد كان الهدف المعلن من الخطة هو تبسيط النظام النقدي وتخفيف العبء الإداري والمالي الناتج عن استخدام أرقام كبيرة، سواء في المعاملات اليومية أو في السجلات المحاسبية الرسمية، كذلك، من شأن هذا الإجراء أن يُحسن من المظهر الاعتباري للعملة الإيرانية، داخليا وخارجيا، لا سيما بعد عقود من التضخم المستمر الذي أفقد الريال الإيراني معظم قيمته الشرائية.
من الناحية الفنية، يتضمن المشروع مرحلتين، الأولى انتقالية، تعرف بفترة العبور، حيث سيُستخدم التومان الجديد إلى جانب الريال لفترة محددة، مع توضيح القيم المكافئة، أما المرحلة الثانية، فهي الإلغاء الكامل للريال القديم واعتماد التومان كوحدة رسمية موحدة.
ومع أن هذا التغيير قد يبدو بسيطا من الناحية النظرية، إلا أنه وفق تصريحات مهدي زاده، يمثل مشروعا لوجستيا معقدا يتطلب تغييرات واسعة النطاق، منها تحديث الأنظمة المالية والمحاسبية، وتعديل القوانين ذات الصلة، مثل قانون الشيكات والعقود المالية، تغيير برامج المحاسبة في البنوك والشركات، وإعادة تصميم وإنتاج الأوراق النقدية والعملات المعدنية، كذلك إطلاق حملة توعية جماهيرية ضخمة.
وقد أكد مهدي زاده أن البنك المركزي قام فعليا بحذف الأصفار من التصميمات الجديدة للأوراق النقدية، لكن التنفيذ الكامل على مستوى السوق يتطلب جهدا مؤسسيا شاملا.
تنظيم، تبسيط، واستعادة الثقة
يحظى مشروع حذف الأصفار بدعم واضح من البنك المركزي الإيراني ومن عدد من الاقتصاديين والمسؤولين الحكوميين الذين يرون في هذا الإجراء خطوة ضرورية نحو إصلاح المنظومة النقدية المتضخمة. وتتركز دوافع المؤيدين لهذا المقترح في عدة نقاط، أولها تبسيط العمليات المحاسبية، حيث يعتقد المؤيدون أن الأرقام الحالية الكبيرة تُصعّب عمليات الحساب اليومية، وتخلق ارتباكا لدى المواطنين، كما تُعقّد أنظمة المحاسبة الإلكترونية واليدوية، ويُنظر إلى حذف الأصفار كأداة لتنظيم العمليات وتقليص الأخطاء الحسابية.

كذلك، خفض تكاليف طباعة النقود، فيشير البنك المركزي إلى أن استمرار استخدام أرقام كبيرة في الأوراق النقدية يُحمّله عبئا إضافيا من حيث الحبر، التصميم، والمواد الأمنية كالعلامات المائية، ومع التقدم في إنتاج هذه المواد داخليا، ترى الحكومة أن التوقيت مناسب لتقليل أعباء الطباعة.
أيضا تحسين الصورة الذهنية للعملة، فالعملة، من وجهة نظر الاقتصاديين، ليست مجرد أداة تبادل، بل رمز وطني يعكس الثقة بالاقتصاد. حذف الأصفار يُعيد للعملة بعضًا من هيبتها الاعتبارية المفقودة نتيجة التضخم، وغير ذلك فيري المؤيدين لهذا القرار في تنفيذه تمهيدا لإصلاحات اقتصادية أكبر، حيث يرى بعض الخبراء أن نجاح مشروع حذف الأصفار قد يمههد لتطبيق إصلاحات هيكلية أخرى، منها ضبط السياسة النقدية والمالية، والتحكم بالتضخم، وتعزيز الاعتماد على الأنظمة الرقمية للدفع.
دوافع المشككين والمخاوف المطروحة
رغم ما يبدو من منطق اقتصادي وراء المشروع، إلا أن هناك أصواتا معارضة ترى أن حذف الأصفار إجراء شكلي لا يعالج جذور الأزمة، وتنبع معارضة تلك الأصوات من عدة اعتبارات على رأسها غياب إصلاحات اقتصادية حقيقية، حيث يرى معارضو المشروع أن حذف الأصفار دون تحكم فعلي بالتضخم والسيطرة على العجز المالي سيجعل من الإجراء مجرد تجميل رقمي، سرعان ما يزول أثره، ويعود الوضع الاقتصادي إلى ما كان عليه أو أسوأ، وفي هذا السياق، يُستشهد بالتجربة التركية، حيث رُفعت الأصفار عن الليرة، لكن النجاح لم يتحقق إلا بفضل إصلاحات اقتصادية موازية.

كذلك، كلفة التنفيذ الباهظة، حيث سيتطلب المشروع تحويلا واسع النطاق في البنية المالية والإدارية، ما يعني كلفة مالية ضخمة تشمل إعادة طبع الأوراق النقدية، تعديل الأنظمة المصرفية، توعية المواطنين، وتحديث برامج المحاسبة في القطاعين العام والخاص. ويخشى البعض أن تُنفق الحكومة موارد كبيرة على مشروع لا يُفضي إلى نتائج ملموسة.
أيضا إرباك السوق والمواطنين، فتثير المرحلة الأولى من هذا التغيير المالي والمسماة فترة العبور بين العملة القديمة والجديدة مخاوف بشأن الارتباك في الأسعار والمعاملات، خصوصا في غياب توعية كافية، وهو ما قد يؤدي إلى استغلال البعض للوضع، وخلق حالة من الفوضى في الأسواق.
واخير يحذر بعض الخبراء من أن أي خطأ في تنفيذ المشروع، أو فشل في ضبط الأسعار خلال المرحلة الانتقالية، قد يُفقد الناس ثقتهم بالعملة بشكل أكبر، ما يدفعهم إلى الإقبال على العملات الأجنبية أو الذهب كمخزن للقيمة.
خطوة نحو التغيير أم تحايل على الواقع؟
وبين مؤيد يرى في حذف الأصفار مقدمة ضرورية لتحديث النظام المالي، ومعارض يعتبره إجراءً تجميليا لا يمس جوهر الأزمة، يبقى القرار معلقا على قدرة البنك المركزي والحكومة الإيرانية على إدارة العملية بذكاء وشفافية، وربطها بحزمة أوسع من الإصلاحات الاقتصادية الجذرية.
فالمواطن الإيراني، الذي يعاني يوميا من تآكل قدرته الشرائية وتذبذب قيمة الريال، ينتظر أن يرى إن كانت هذه الخطوة ستنعكس إيجابا على حياته اليومية، أم أنها ستكون مجرد فصل آخر في سلسلة من السياسات النقدية الرمزية التي لم تغيّر من الواقع سوى شكله الظاهري، وفي انتظار ما ستؤول إليه الأمور، يبقى التحدي الحقيقي ليس في حذف الأصفار، بل في حذف أسباب التضخم والفقر وعدم اليقين، وهي مهمة تتجاوز حدود الأوراق النقدية.