“زاد إيران” يفتح ملف اغتيال العلماء في إيران

Ad 4nxcrthubalxskunwhk lgsb9zkk9z awvcgr0ojsg2qehxsvnreq6ihozcb1hksprdoholoh0 9qpl94vwqplaekyylngmsuddm4iv4sj 17x hh5udgmofl28jvvworrl9m31 jkey66rfcdt7cjbnqhyqeu1ygw

منذ مطلع الألفية الثالثة، تحولت إيران إلى ساحة معركة خفية تدور أحداثها بعيدا عن الجبهات العسكرية، تستهدف نخبة من العلماء والخبراء في الفيزياء والكيمياء والهندسة النووية، حيث بدأت سلسلة اغتيالات بهجمات دقيقة ومفاجئة، وتطوّرت إلى استخدام تقنيات بالغة التعقيد، من القنابل المغناطيسية إلى الأسلحة الذكية المُسيّرة عن بُعد. وبينما تكتفي السلطات الإيرانية باتهام الموساد الإسرائيلي وأجهزة استخبارات غربية، تتشابك الخيوط في هذه القضايا لتشير إلى صراع أكبر، عنوانه من يحق له احتكار المعرفة النووية؟

 في هذا التحقيق الاستقصائي، نعيد تتبع أبرز عمليات الاغتيال التي استهدفت علماء إيران على مدى قرن، نستعرض الأساليب والتقنيات المستخدمة، ونحلل الأبعاد السياسية والعلمية، في محاولة لفهم: من يُقرِّر مصير العقل الإيراني؟ ولماذا تُستهدف العقول أكثر من الأسلحة؟

الاغتيالات في عهد الدولة البهلوية

 رغم أن الاغتيالات السياسية كانت جزءا من الحياة العامة في إيران في العقود السابقة للثورة الإيرانية، فإن استهداف العلماء بشكل محدد لم يكن شائعا، فخلال فترة حكم الشاه رضا بهلوي في الأعوام 1925 إلى 1941، ثم ابنه محمد رضا بهلوي أعوام 1941–1979، تركزت معظم عمليات القتل والاعتقال على المعارضين السياسيين أو القادة الدينيين، وخاصة أولئك الذين عارضوا مشروع الدولة المركزية أو تحدوا الخطاب القومي الرسمي.

 وعلى الرغم من أن الاغتيال كان أداة حاضرة في تصفية الخصوم، فإن النخبة العلمية والأكاديمية بقيت بمعزل نسبي عن هذه التوترات، لعدم انخراطها المباشر في قضايا ذات طابع أمني أو عسكري، ولأن مشاريع التطوير العلمي في تلك الفترة لم تكن مرتبطة بمسائل حساسة كالتكنولوجيا النووية أو التطبيقات العسكرية.

مع ذلك، فإن العهد البهلوي شهد عددا من الاغتيالات السياسية البارزة، خاصة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد انقلاب 1953 ضد حكومة محمد مصدق عقب قراره بتأميم النفط الإيراني، فقد نشط جهاز الاستخبارات والأمن القومي المعروف بالسافاك والذي تأسس في منتصف الخمسينات، في ملاحقة واعتقال وتصفية معارضين من مختلف التيارات، بما في ذلك القوميين، والماركسيين، والإسلاميين، كما شهدت تلك الفترة حالات اختفاء واغتيالات لمعارضين داخل إيران وخارجها، بعضها وثقتها مصادر مستقلة، وبعضها الآخر بقي في دائرة الشكوك.

في الخارج، سجلت حالات اغتيال بحق معارضين إيرانيين في أوروبا ولبنان وتركيا خلال السبعينات، استهدفت شخصيات محسوبة على الحركات الإسلامية اليسارية أو القومية، كان من بين الأسماء التي أثارت جدلا كبيرا في أواخر عهد الشاه، المفكر علي شريعتي، الذي توفي عام 1977 في بريطانيا في ظروف غامضة بعد الإفراج عنه من السجن، ووجهت اتهامات غير رسمية حينها إلى جهات أمنية بالضلوع في وفاته، دون أدلة قاطعة، كما تعرض بعض رجال الدين البارزين، مثل آية الله مطهري وآية الله طالقاني، إلى ضغوط أمنية متكررة، وإن لم يُغتالوا في عهد الشاه.

على الرغم من هذه الأمثلة، فإن الاغتيالات في العهد البهلوي لم توجه بشكل منهجي نحو النخبة العلمية أو الأكاديمية غير المنخرطة سياسيا، ولم تكن هناك عمليات تصفية لعقول علمية بسبب نشاطها المهني. وهذا ما يميز تلك المرحلة عن الحقبة التي تلت الثورة، حيث تحوّلت شخصيات علمية، خصوصا المرتبطة بالملف النووي أو الصناعات الاستراتيجية، إلى أهداف مباشرة في صراعات إقليمية ودولية. وعليه، فإن الطابع السياسي الصِرف كان السمة الأبرز لعمليات الاغتيال في الدولة البهلوية، بينما بقيت ساحات العلم، في معظم الحالات، خارج دائرة الاستهداف الأمني المباشر.

عهد الثورة وبداية عصر الاغتيالات

مع قيام الثورة الإيرانية في العام 1979، أصبح لإيران توجه مختلف فيما يتعلق بسياسات الحكم والتوجهات العسكرية، تلك السياسات ساهمت في جعل علماء ومفكري وحتى مسؤولي النظام على رأس قائمة الاغتيالات لدى أطراف عديدة، منها ما هو داخلي وخارجي.

وسم تلك المرحلة اغتيال طال محمد مفتح، رجل الدين والمفكر الإيراني، في ديسمبر/كانون الأول 1979، بعد الثورة مباشرة، ورغم أنه لم يكن عالما نوويا أو عسكريا، فإن صفته كأستاذ وفيلسوف مؤثر تشير إلى أن الاغتيال الأيديولوجي كان حاضرا في الثقافة السياسية الإيرانية. ولا توثق المصادر اغتيالات ممنهجة لعلماء في مجالات علمية تطبيقية خلال هذه المرحلة، ما يُظهر أن استهداف النخبة العلمية لم يكن جزءا من الصراع السياسي حتى ذلك الوقت.

ففي صباح 18 ديسمبر/كانون الأول 1979، صُدمت إيران بحادث الاغتيال، على يد تنظيم الفرقان المصنف كجماعة إرهابية من قبل إيران في ظل فراغ أمني أعقب سقوط النظام الملكي، حيث استغل التنظيم ضعف المؤسسات الأمنية لتنفيذ سلسلة من الاغتيالات التي استهدفت قادة الثورة.

 مفتح، الذي كان يتمتع بتأثير واسع في الأوساط الأكاديمية والدينية، شكل هدفا مثاليا للجماعة بسبب دعمه للثورة ومشاركته في الحياة العامة، كذلك فقد كان التنظيم ينفذ عملياته بسرعة دون تخطيط طويل، مما صعّب على الأمن مواجهته، غير أن اغتيال مفتح شكل نقطة تحول، إذ أطلق الحرس الثوري حملة أمنية سريعة أسفرت عن اعتقال عشرات من عناصر فرقان، بينهم زعيم التنظيم أكبر جودرزي، الذي اعترف سريعا بكل أسرار التنظيم، ما أدى إلى تفكيكه بالكامل.

الاغتيالات بعد الثورة ومرحلة الثمانينيات

في عقد الثمانينيات، وبينما كانت إيران تخوض حربا دموية ضد العراق، خلال سنوات 1980 إلى 1986، برز التهديد الأمني الداخلي عبر منظمات مسلحة مثل منظمة مجاهدي خلق.

وجماعة مجاهدي خلق هي منظمة إيرانية معارضة تأسست في العام 1965، جمعت في بدايتها بين الإسلام بنظرته الثورية والأفكار الماركسية، وشاركت في الثورة ضد الشاه قبل أن تتحول إلى خصم عنيد للنظام في طهران بنسخته الجديدة، فقد اتهمت بتنفيذ عمليات مسلحة والتعاون مع نظام صدام حسين خلال الحرب العراقية الإيرانية، ما أفقدها الحاضنة الشعبية داخل إيران.

 ومع ذلك، لم تكن عمليات الاغتيال موجهة ضد العلماء، بل ضد شخصيات أمنية أو دينية أو قادة سياسيين بارزين داخل النظام الجديد. البرنامج النووي الإيراني في ذلك الوقت كان في بداياته، ورث منشآت متهالكة من مشروع الشاه، ولم يكن قد وصل إلى مستوى يبرر عمليات تصفية عالية المستوى.

 وحتى بدايات الألفية الجديدة لم تسجل عمليات اغتيال لعلماء مرتبطين مباشرة بمشاريع نووية أو صناعية متطورة، وكانت الأنظار موجهة نحو الحرب الداخلية بين الثورة وأعدائها، أكثر من مواجهة مع أجهزة استخبارات خارجية.

العلماء النوويون في مرمى النار

منذ العام 2007 وحتى عام 2025، تعرض البرنامج النووي الإيراني لسلسلة من الاغتيالات التي استهدفت أبرز علمائه، ضمن ما تصفه طهران بحرب الظل التي تقودها إسرائيل والولايات المتحدة لإعاقة تقدم القدرات النووية الإيرانية. وبين عمليات تفجير دقيقة، وعبوات لاصقة، وهجمات جوية، تبدو هذه الحملة المستمرة منسقة، وتستهدف العقول المحورية في المشروع النووي.

أولى هذه العمليات تعود إلى يناير/كانون الثاني للعام 2007، عندما توفي العالم أردشير حسن ‌بور في ظروف غامضة بمدينة شيراز، وكان حسن‌ بور خبيرا في الكهرومغناطيسية والفيزياء النووية، ومرتبطا بمركز الأبحاث النووية في أصفهان، حينها، تحدثت الرواية الرسمية عن وفاته نتيجة تسرب غازي، لكن تقارير استخباراتية غربية زعمت أنه قُتل نتيجة تسمم إشعاعي بتدبير من الموساد الإسرائيلي، خاصة بعد رفضه التعاون في الجانب العسكري من البرنامج.

بعدها بثلاثة أعوام، وفي 12 يناير/كانون الثاني 2010، استهدف الدكتور مسعود علي محمدي، أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة طهران، بعبوة ناسفة زرعت في دراجة نارية قرب منزله في حي جيتارية شمال العاصمة، وقد عرف محمدي بتخصصه في فيزياء الجسيمات، وكانت له صلات غير مباشرة بالبرنامج النووي، وأعلنت السلطات الإيرانية لاحقا أن المنفذ درب في إسرائيل ونُفذ فيه حكم الإعدام عام 2012.

وفي 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2010، وقع تفجيران متزامنان في طهران استهدفا عالمين بارزين، أودى أحد التفجيرين بحياة الدكتور مجيد شهر ياري، الأستاذ في جامعة الشهيد بهشتي والمتخصص في نقل النيوترونات، والذي كان يعمل مع منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، والتفجير الآخر استهدف العالم فريدون عباسي دواني، الذي نجا من العملية، رغم إصابته بجروح، وقد استخدمت في العمليتين عبوات مغناطيسية لاصقة ثبتت على سيارات المستهدفين بواسطة دراجات نارية.

في 23 يوليو تموز 2011، اغتيل الدكتور داريوش رضائي نجاد، الباحث في الإلكترونيات، أمام منزله بطهران بإطلاق نار مباشر من مسلحَين على دراجة نارية، ورغم النفي الرسمي الذي صدر من الحكومة بخصوص علاقته بالبرنامج النووي، فإن تقارير غربية قد أفادت أن أبحاثه تتعلق بالمفاتيح الكهربائية عالية الجهد المستخدمة في الرؤوس الحربية.

وفي 11 يناير/كانون الثاني 2012، طالت يد الاغتيال الدكتور مصطفى أحمدي روشن، أحد المهندسين المشرفين على منشأة نطنز، وكان متخصصا في الهندسة الكيميائية، وتحديدا في تكنولوجيا الأغشية، وقد اغتيل بواسطة عبوة لاصقة وضعت على سيارته، في عملية مشابهة تماما لعمليات استهدفت علماء قبله.

هذا وقد جاء أخطر وأهم هذه الاغتيالات في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، حين تم اغتيال الدكتور محسن فخري زاده، الذي يُعد بمثابة أبو المشروع النووي العسكري الإيراني، حيث استهدف فخري زاده في عملية معقدة قرب بلدة آب سرد في محافظة دماوند، عبر إطلاق نار من رشاش آلي يُتحكم به عن بُعد، وأكدت الرواية الإيرانية أن العملية نُفذت دون تدخل بشري مباشر، باستخدام تقنيات متطورة يُعتقد أنها إسرائيلية.

أما فريدون عباسي دواني، الذي نجا من محاولة اغتيال عام 2010، فقد لقي حتفه في الساعات الأولى من يوم 13 يونيو/حزيران 2025، ضمن موجة الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مواقع حساسة في طهران، وقد شغل عباسي كان رئيسا سابقا لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية، وكان يُعد من أبرز العقول التقنية في البلاد.

في الهجمات ذاتها، قُتل أيضا الدكتور محمد مهدي طهرانجى، الرئيس السابق لجامعة آزاد الإسلامية والخبير في فيزياء البلازما والليزر، والذي يُعتقد أنه لعب دورا مهما في دعم البنية الأكاديمية للبرنامج النووي، وكان من بين ضحايا الغارات كذلك الدكتور أحمد رضا ذو الفقاری، عميد كلية العلوم النووية بجامعة الشهيد بهشتي، والذي كان مسؤولا عن تدريب وتطوير أجيال من الباحثين النوويين، كما لقي الدكتور عبد الحميد منوشهر، رئيس قسم الهندسة النووية بجامعة الشهيد بهشتي، حتفه خلال القصف ذاته، حيث تشير التقارير إلى استهداف مباشر للمباني التي تضم كوادر علمية نووية.

تحليل الأساليب والتقنيات المستخدمة

شكلت سلسلة اغتيالات العلماء النوويين الإيرانيين نموذجا متقدما لما بات يعرف بالاغتيالات الذكية، حيث تداخلت فيه العمليات الميدانية الدقيقة مع أدوات الحرب التكنولوجية المتقدمة، فقد اعتمد المنفذون على تنوع تكتيكي واضح في الأساليب المستخدمة، ما يعكس قدرة عالية على التخطيط، والتنفيذ، والاختراق الأمني.

ففي المراحل الأولى، بين 2010 و2012، كانت العبوات اللاصقة أبرز أدوات التنفيذ، حيث جرى تثبيتها بسرعة على سيارات المستهدفين باستخدام دراجات نارية في شوارع طهران المزدحمة، كما في اغتيال مسعود علي محمدي ومجيد شهر ياري ومصطفى أحمدي روشن. تم اختيار التوقيت بعناية، أثناء مغادرة الضحايا لمنازلهم أو في طريقهم للعمل، بما يضمن التأثير المعنوي الأقصى بأقل خسائر جانبية.

لاحقا، تطورت الأساليب إلى استخدام أسلحة تُتحكم بها عن بعد، كما في عملية اغتيال محسن فخري زاده عام 2020، حيث استخدم رشاش ذكي يعمل عبر الأقمار الصناعية، دون وجود عنصر بشري مباشر في موقع الهجوم، وهو ما اعتُبر قفزة نوعية في أدوات الاغتيال.

وفي يونيو/حزيران 2025، اتخذت العمليات طابعا عسكريا مباشرا من خلال غارات جوية إسرائيلية دقيقة على مواقع تضم علماء نوويين، ما يشير إلى انتقال من أسلوب الضربات الفردية إلى الاغتيال الجماعي، هذا التدرج في الأساليب يكشف عن استراتيجية متكاملة تستهدف تفكيك البنية البشرية للبرنامج النووي الإيراني دون الانزلاق إلى مواجهة تقليدية.

اتهامات داخلية وخارجية.. الموساد، مجاهدي خلق، أجهزة أجنبية

في كل عملية اغتيال تقريبا طالت علماء نوويين إيرانيين، سارعت طهران إلى توجيه أصابع الاتهام نحو إسرائيل، وتحديدا إلى جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد، بوصفه الجهة المخططة والمنفذة لهذه العمليات المعقدة، فيما عززت تقارير صحفية غربية هذه الرواية، لا سيما ما نشرته صحيفة نيويورك تايمز وعدة وسائل أخرى، أكدت أن الموساد نفذ بالفعل عددا من هذه العمليات، مستخدما تقنيات عالية التطور، وبدعم لوجستي واستخباراتي على الأرض.

ومن اللافت أن الاتهامات الإيرانية لم تقتصر على إسرائيل وحدها، بل طالت أطرافا أخرى لعبت أدوارا مساعدة، فقد وُجهت أصابع الاتهام مرارا إلى منظمة مجاهدي خلق، بوصفها طرفا شارك في توفير معلومات ميدانية عن تحركات العلماء، أو حتى ساعدت بشكل مباشر في رصد الأهداف وتنفيذ الاغتيالات. وتستند هذه المزاعم إلى شهادات بعض المتهمين الذين اعترفوا بتلقي تدريب ودعم من المنظمة، رغم أن الأخيرة تنفي أي صلة لها بتلك العمليات.

من جهة أخرى، لم تغفل طهران الإشارة إلى ما تصفه بالدور الأمريكي غير المباشر، والذي يتمثل، وفق الرواية الإيرانية، في تقديم دعم استخباراتي أو تسهيل تنسيق عملياتي بين إسرائيل وأطراف أخرى. وفي السياق نفسه، تزايدت التكهنات بشأن وجود اختراقات أمنية داخل المؤسسات العلمية الإيرانية نفسها، حيث تُطرح فرضية وجود متعاونين من الداخل سهّلوا الاستهداف، وهي نقطة باتت تشكل هاجسا كبيرا لأجهزة الأمن، وتثير تساؤلات حول مدى تأمين البنية البشرية للمشروع النووي الإيراني.

هل ساهمت الاغتيالات في تضرر المشروع النووي الإيراني؟

منذ اغتيال أول عالم نووي إيراني في 2007 وحتى الآن ظل السؤال مطروحا، هل نجحت هذه العمليات في إبطاء مسار المشروع النووي الإيراني؟ ورغم تعقيد الإجابة، فإن الوقائع الميدانية، وردود الفعل الرسمية، والتأثيرات العلمية والسياسية مجتمعة، ترسم صورة أوضح لما خلفته هذه العمليات من أثر ملموس على المشهد النووي الإيراني.

فبعد كل عملية اغتيال تقريبا، كان النظام الإيراني يتبنى رد فعل نمطيا ومتشابها، بين الشجب الرسمي، وتشييع جنائزي ضخم، وتعهدات بالرد الحاسم، يتبعها صمت طويل أو وعود غير محققة. وبالتوازي، كانت أجهزة الأمن تعلن عن اعتقال ما تسميهم بالخونة أو مشتبهين بتعاونهم مع أجهزة استخبارات أجنبية، والذين غالبا ما يربطون بالموساد أو بمنظمة مجاهدي خلق، لكن نادرا ما قُدمت للرأي العام أدلة موثقة أو روايات شفافة حول كيفية تنفيذ الاغتيالات، أو عن الثغرات الأمنية التي سمحت بتكرارها، كذلك فإن الملفت أن غالبية العمليات نُفذت في قلب العاصمة طهران أو في مناطق يُفترض أنها تخضع لحراسة مشددة، ما فتح المجال أمام انتقادات داخلية صريحة حول فعالية الجهاز الأمني والاستخباراتي.

ردود الفعل السياسية لم تكن أقل التباسا، ففي اغتيال محسن فخري زاده مثلا، تصاعدت أصوات تطالب برد عسكري فوري، فيما دعا تيار آخر إلى التروي وعدم الانجرار نحو التصعيد، خصوصا أن العملية جاءت في لحظة حرجة من المفاوضات النووية مع الغرب. هذا التباين كشف عن انقسام داخل بنية القرار الإيراني بين من يرى في الرد العسكري ضرورة لحفظ هيبة الدولة، ومن يفضل استيعاب الضربات في سبيل تحقيق مكاسب دبلوماسية طويلة المدى.

أما على المستوى العلمي، فقد تسببت كل عملية اغتيال بخسائر تفوق فقدان شخص بمفرده. كثير من العلماء المستهدفين كانوا يشرفون على مشاريع حساسة، أو يقودون فرقا بحثية تضم عشرات الباحثين الشبان، وغيابهم أدى إلى حالة ارتباك داخل المؤسسات البحثية، وتطلب شهورا لإعادة هيكلة الفرق أو نقل المهام إلى كوادر بديلة. كما أن بعض هذه العمليات دفعت علماء إلى مغادرة البلاد، أو رفض العمل في البرامج النووية خشية التعرض لمصير مماثل، وهكذا تحوّل القلق الأمني إلى عامل ضغط نفسي مستمر داخل الوسط العلمي، ما أثّر سلبا على وتيرة الإنجاز والإبداع.

في الموازاة، أدى تصاعد الاستهداف إلى تعزيز حضور المؤسسة الأمنية في إدارة الملفات العلمية، بحيث لم تعد الجهة الرقابية فقط، بل باتت شريكا أساسيا في رسم السياسات والتوجيهات. هذا التداخل بين الأمن والعلم أضعف استقلالية المؤسسات البحثية، ورسخ مناخا من التوجس والمراقبة، ما يُضعف بدوره بيئة الابتكار والتجريب الحر التي تُعدّ شرطا لأي تقدم علمي حقيقي.

وبينما يصعب قياس الأثر بدقة، فإن تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية وغيرها تشير إلى أن بعض مراحل المشروع النووي تأثرت فعلا، خاصة بين 2010 و2012، وهي الفترة التي شهدت تكثيفا في عمليات الاغتيال. التأثير لم يكن فقط تقنيا، بل نفسيا أيضا، إذ ولّد شعورا دائما بالتهديد في أوساط الباحثين.

في العمق، لا يبدو أن هذه الاغتيالات كانت مجرد ردود فعل انتقامية أو عمليات فردية معزولة، بل تدخل في سياق استراتيجية مركزة لتقويض مشروع علمي يُنظر إليه كتهديد استراتيجي. من يقف وراء هذه العمليات يدرك أن قتل عالم واحد قد يؤخّر مشروع دولة كاملة، وأن الرسالة التي تصل إلى باقي الباحثين قد تكون أبلغ من الرصاص أنتم مستهدفون. ومع استمرار هذا النهج، يبقى السؤال مفتوحا هل تستطيع طهران حماية عقولها العلمية من أدوات الاغتيال، أم أن ساحات المختبرات ستظل امتدادا لساحة الحرب؟

كلمات مفتاحية: