تشهد الساحة السياسية الإيرانية تحولات لافتة، ليس فقط على مستوى الأوضاع الداخلية التي تمر بتحديات اقتصادية ومعيشية خانقة، بل أيضا على صعيد العلاقات الدولية، وفي القلب منها العلاقة المعقدة والمتوترة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وبينما تتخذ المؤسسات الرسمية والتيار الأصولي مواقف متشددة إزاء المفاوضات، يأتي التيار الإصلاحي، ليعيد طرح رؤية بديلة، ترى في الحوار مع واشنطن نافذة لإنقاذ الداخل وتخفيف الأزمات. وفي ظل التقدم البطيء للجولة الخامسة من المفاوضات، والتي عقدت في العاصمة الإيطالية روما أمس الجمعة 23 مايو/أيار 2025، والجدل الواسع حول جدواها، عقدت جبهة الإصلاحات الإيرانية اجتماعا عاما بالأمس، لتعرض فيه مواقفها وتقديراتها للمشهد.
اجتماع جبهة الإصلاحات.. نقد داخلي ودعوة إلى التغيير
فقد عُقد في اليوم المذكور الاجتماع العام لأعضاء الجمعية العمومية لجبهة الإصلاحات الإيرانية وأعضاء هيئة الرئاسة في المحافظات، وسط حضور لافت من الشخصيات الإصلاحية البارزة، على رأسها آذر منصوري، الأمين العام لحزب اتحاد ملت، محسن آرمین، الناشط السياسي الإصلاحي، ومحسن أمين زاده، الدبلوماسي السابق، ومحمود صادقي، الناشط الإصلاحي والأكاديمي.

وتضمن الاجتماع عرضا مصوّرا لرسالة محمد خاتمي، الرئيس الإيراني الأسبق وأبرز رموز التيار الإصلاحي، إلى جانب كلمات متفرقة لقادة الجبهة تمحورت حول ثلاثة عناوين كبرى وهي أزمة فقدان الأمل في الداخل، تحديات المفاوضات مع الولايات المتحدة، وتصاعد الضغط من التيار الأصولي على حكومة بزشكيان.
ستُفتح نافذة جديدة في المفاوضات
وحول المفاوضات مع الولايات المتحدة، قال محسن أمين زاده، نائب وزير الخارجية الأسبق، خلال المؤتمر: “إن إيران اليوم، ولأسباب متعددة، في وضع جديد باتت فيه مستعدة لإعادة مسار الدبلوماسية إلى طريقه الصحيح”. وأضاف: “طالما نصحت باتباع نموذج الصين والتوجه نحو التنمية”.

وأكمل أمين زاده: “أنا متفائل بمصير المفاوضات، وهناك احتمال كبير أن تمضي هذه الجولة نحو الأفضل، وتُفتح نافذة جديدة، إن امتلاك القوة العسكرية أمر ثمين، لكنه لا علاقة له بالدبلوماسية. الخطأ في العقدين الماضيين كان في الخلط بين هذين الأمرين”.
وتابع: “لقد باتت إيران مستعدة لتصحيح مسار دبلوماسيتها، نتيجة لتغير الظروف في سوريا ولبنان، مما جعل تحسين العلاقات الدولية أسهل من ذي قبل”، كما أكد خلال كلمته على أنه ” إن جزءا كبيرا من السياسة الخارجية التي كانت قد خرجت من يد وزارة الخارجية، عادت اليوم إليها، وهذا تطور إيجابي”.
كذلك، حذر أمين زاده من “أن البلاد الآن لا تملك صديقا يساعدها في التنمية، فالاتفاقيات الطويلة المدى مثل تلك الممتدة لعشرين أو خمس وعشرين سنة بقيت حبرا على ورق. هذه الظروف دفعت إيران إلى إعادة النظر”.
وحول موضوع تخصيب اليورانيوم، أوضح قائلا: “من غير المرجح أن تتخلى إيران عن تخصيب اليورانيوم، وهذا ما يعرقل المفاوضات، إن مهمة الدبلوماسية هي إيجاد طريق واقعي. وإذا لم نتوصل إلى اتفاق مع أمريكا، فستتأزم علاقاتنا مع العالم كله”.
“من كانت مصلحته أن تُفرض علينا العقوبات؟”
بالشأن ذاته، صرح عباس آخوندي، الوزير السابق للطرق والتنمية الحضارية، خلال المؤتمر، قائلا: “كل المؤسسات الاقتصادية في إيران تعرضت لتحولات بنيوية، ولم تعد تؤدي وظائفها. معظم عمليات الخصخصة عادت إلى الهيئات العامة الحكومية، وبالتالي لم تعد هناك خصوصية حقيقية أو تنافس حقيقي في السوق”.

وأضاف: “حتى لو نجحت المفاوضات، فهل يمكننا العمل بهذا الهيكل المؤسسي؟ المشكلة في الاقتصاد الإيراني ليست نظرية، بل سياسية، فالوضع الحالي لم يأتِ صدفة، بل هو نتيجة لسياسات متعمدة، فبعد العام 2005، دخلت البلاد في مسار قبول العقوبات الدولية، وهو أمر مشبوه، وعلينا أن نعرف من كان يستفيد من فرض العقوبات”.
كما أوضح أن “النتيجة كانت تحول استراتيجية التنمية إلى استراتيجية بقاء، ومن بعد ذلك، لم تعد أي مؤسسة اقتصادية تؤدي دورها. أغلب الخصخصة تمت لصالح هيئات عامة، ولم يعد هناك ما يُعرف بالتاجر أو المنافسة. فهل يمكن فعل شيء بهذه المؤسسات، حتى لو رُفعت العقوبات؟”.
وختم بقوله: “السؤال الأساسي هو: لصالح من فُرضت العقوبات؟ وما هو هيكل القرار الاقتصادي الذي سمح بذلك؟ علينا إصلاح هذه الهياكل لنتمكن من التقدم”، في إشارة منه إلى وجود مستفيد من فرض العقوبات على إيران للسماح للاقتصاد الموازي بالعمل.
الإصلاحيون وترامب.. أمل منذ البداية
منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2025، ظهرت ملامح الموقف الإصلاحي من المفاوضات بوضوح في الصحافة التابعة لهم، وعلى رأسها صحيفتا شرق واعتماد، ففي الوقت الذي سادت فيه نغمة التشكيك في جدوى التفاوض داخل التيار الأصولي، والتي بدورها انعكست على البرلمان الذي تسيطر عليه أغلبية أصولية، انطلقت الصحف الإصلاحية في الدفاع عن منطق الحوار، شرط أن يكون تفاوضا حقيقيا يستند إلى مصالح إيران، لا إلى مناورات داخلية.
فعل سبيل المثال، دعت صحيفة شرق الإصلاحية، في افتتاحياتها خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، إلى ما وصفته بتفاوض الدولة لا تفاوض الحكومة، في إشارة إلى ضرورة أن تمتلك الحكومة تفويضا حقيقيا من المؤسسات السيادية للتفاوض، كما حذرت من تحول المفاوضات إلى أداة لتصفية الحسابات الداخلية، مشيرة إلى أن حكومة بزشكيان، رغم نواياها، مقيدة بإرادة مراكز القوى خارجها.

أما صحيفة اعتماد فقد نشرت عدة تقارير تستعرض مكاسب الاتفاق النووي السابق الذي أبرم في العام 2015 وتنتقد بشدةٍ قرار الانسحاب منه عام 2018، معتبرة أن “الثمن الاقتصادي الذي دفعه الشعب منذ تلك اللحظة لا يزال يتراكم”. وفي تقاريرها، تساءلت الصحيفة عن مدى جاهزية النظام لتوقيع اتفاق جديد بعيدا عما وصفته بعقلية الانتصارات الإعلامية ورفض التنازلات.
وكتبت صحيفة آرمان ملي، تحت عنوان “مفتاح خروج إيران من الأزمة الاقتصادية”، نقلا عن مرتضى أفقه، المحلل السياسي، قوله: “إن اختيارات ترامب تشير إلى تغييرات في نهجه تجاه السياسة الخارجية، حيث لجأ ترامب في اختيار أعضاء حكومته إلى أشخاص لديهم خبرة في مجال الدبلوماسية والمفاوضات الدولية”، وأضافت الصحيفة: “وفقا لمعظم المحللين السياسيين والاقتصاديين قد يكون ترامب يسعى إلى حلول سلمية للقضايا الدولية”.
كما أكملت نقلا عن أفقه: “يجب أن نأخذ في الاعتبار أن إيران تمر هذا العام بظروف مختلفة عما سبق، ولم تعد تمتلك القدرات السابقة للنشاط الاقتصادي أو العائدات النفطية. لذا نحن أمام فترة ظروف خاصة، ما لم يتم التخطيط وفقا للظروف الجديدة والاستفادة من كل فرصة لتقليل التوتر، مع التركيز في الوقت نفسه على دعم الطبقات ذات الدخل المحدود من قبل الحكومة. في الحقيقة، إذا لم نتمكن من التوصل إلى نتائج في قبول FATF أو في المفاوضات، فسيتعين علينا تطبيق سياسات زمن الحرب”.
كما كتبت صحيفة سازندكي في افتتاحيتها أيضا عن التفاوض مع ترامب، حيث قالت: “إن المفاوضات المتعلقة بموضوعات الشرق الأوسط أصبحت أقل تعقيدا مما كانت عليه في السابق. ومع ذلك، فإن الاشتباكات المباشرة التي وقعت بين إسرائيل وإيران، واحتمال وقوع مواجهات أخرى مستقبلا، تُعدّ من القضايا التي تشغل بال الأوروبيين، وسيطلبون من إيران خلال المفاوضات الامتناع عن تنفيذ أي عمليات جديدة ضد إسرائيل، والتي باتت تُعرف باسم ‘الوعد الصادق 3”.
اللافت أن الخطاب الإصلاحي، وإن كان مؤيدا للتفاوض، إلا أنه لا يخلو من تحذير واضح من تكرار أخطاء الماضي. فكثير من الكتاب المحسوبين على التيار، أمثال صادق زيبا كلام، أكدوا أن نجاح التفاوض مشروط بامتلاك رؤية وطنية تتجاوز الانقسام السياسي، وتضع مصلحة الشعب فوق شعارات المواجهة الدائمة.
جدير بالذكر أن ذلك كان نفسه موقف الرئيس الإيراني الحالي، مسعود بزشكيان، منذ توليه السلطة في يوليو/تموز 2024، حيث قال إنه مستعد للجلوس على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة، الموقف الذي لم يتماشَ مع موقف المرشد الأعلى، علي خامنئي، الذي عبَّر عنه بزشكيان نفسه قائلا: “قال قائد الثورة إننا لا نتفاوض مع الولايات المتحدة، وقد أعلنت بدوري أننا لا نتفاوض معها وانتهى الأمر، لكن ينبغي أن نجد السبل التي علينا أن نسلكها، وأن نحلّ المشكلة بالشكل الذي تقتضيه الضرورة. ومع ذلك، فإن الموقف الحالي من أمريكا قد حدده القائد بشكل واضح، وسنظل متمسكين به حتى النهاية، ولن نتصرف إلا وفقا له”.

وفي خضم هذه اللحظة الحساسة، يبدو التيار الإصلاحي في إيران كمن يمشي على حبل مشدود، فمن جهة، هو مدرك تماما لخطورة الاستمرار في السياسات العدائية مع الغرب، ومن جهة أخرى، لا يملك الكثير من أدوات التأثير الفعلي في صناعة القرار، رغم وجود رئيس إصلاحي على رأس السلطة، ورغم ذلك، يحاول الإصلاحيون، عبر منابرهم واجتماعاتهم، دفع البلاد نحو خيار التفاوض المسؤول والمربح.