- محمد علي
- 70 Views
كتب: محمد فتحي النادي
إن الأحداث الجليلة من فتن وصراعات وحروب التي مرت بها الأمة في صدر تاريخها تولَّد عنها آراء وأفكار متباينة، تحزَّب لها أشخاص وجماعات، وتعصَّب لها البعض، وتعصَّب عليها بعض آخر.
وهناك بعض الأفكار قامت عليها دول ورعتها، وعملت على التشنيع على ما سواها من أفكار ورؤى واجتهادات.
وقد تتبدل الأحوال في الدولة الواحدة فيأتي من يعتنق فكرة ويحارب الأخرى، ثم تدور الأيام فيأتي من ينقلب على أفكار سالفيه، ويرفع من كانوا متهمين مهمشين مضطهدين، ويهمِّش من كانوا في الصدارة والوجاهة.
ومن آفات هذه الأمة التعصب والتكفير والتفسيق والتبديع باسم الذود عن حياض الدين، وحفظ جناب التوحيد، والزج بالعوام من المسلمين في قضايا أكبر من عقولهم واستيعابهم وفهمهم، وإلباس الخلافات السياسية لباس الدين، واستخدام بعض الساسة وذوي السلطان لبعض أهل الدين في صراعاتهم، واستخدام بعض أهل الدين لبعض الساسة وذوي السلطان للتخلص من خصومهم أو للتضييق عليهم والتنكيل بهم وهدم صورتهم ووجاهتهم عند العامة والخاصة.
ولم تستطع الأمة إدارة الخلاف بينها؛ فبادرت إلى استخدام السيف والتكفير للتخلص من الخصوم، وقع في ذلك بعض أهل السلطان والشوكة، وبعض أهل الدين، وكان العامة وبعض العلماء وقود تلك المعارك.
وانبنت على تلك الآفة قاعدة قعَّدها الإسفراييني بقوله: “… أنا لا نبدع إلا من بدعنا، ولا نضلل إلا من ضللنا، ولا نكفر إلا من كفرنا”().
وهناك من لم يعمل حسابًا لأمة، ولا لأفكار، ولا لاجتهادات، ولم ير إلا نفسه ورأيه ومنهجه واجتهاده، فلم ير بأسًا من إطلاق التكفير على كل مخالف، بل من لم يوافقه على تكفيره للمخالف أوشك أن يكفره ولو كان على طريقه ومنهاجه؛ فقد “ذَكَرَ ابْنُ حَامِدٍ فِي أُصُولِهِ: كُفْرَ الْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ.
وَقَالَ: مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ كَفَّرْنَاهُ فَسَقَ وَهُجِرَ.
وَفِي كُفْرِهِ وَجْهَانِ”().
وقد أنصف التوربشتي حينما قال: “السبيل ألا يسارع إلى تكفير أهل الأهواء المتأولين؛ لأنهم لا يقصدون بذلك اختيار الكفر ولا الرضا به، وقد بذلوا وسعهم في إصابة الحق، فلم يقع لهم غير ما زعموه، فهم إذًا بمنزلة الجاهل.
والتكفير لا يُطلق إلا بعد البيان والجلاء.
وهذا القول هو الذي يذهب إليه المحققون من علماء الأمة نظرًا واحتياطًا.
وذلك ظاهر أمرهم الذي يهتدي إليه أهل الفتوى، وباطنه موكول إلى علم الله في آخرتهم”().
وكان الإمام البخاري -رضي الله عنه- ممن كان منصفًا في هذه الأمة، ولم يكن من أهل التعصب وضيق الأفق والعطن، أو من الذين يطرحون العلم الذي عند الآخرين لشبهة وقعوا فيها، أو لاجتهاد لم يوافقوا فيه وجه الصواب.
وقد اكتوى البخاري بنيران أهل التعصب الذين حسدوه على علمه ومكانته، وإن لم يكن من المخالفين لهم في العقائد، وإن خالفهم ففي مسائل تُعد على أصابع اليد الواحدة.
وهذا الإنصاف الذي تحراه البخاري، وطرْحه للتعصب دعاه أن يروي عن المخالفين من الفرق والطوائف الإسلامية المختلفة من الشيعة والقدرية والخوارج والمرجئة… إلخ.
وقد كانت الرواية عنهم مشروطة عنده بالدين والعبادة والصدق والأمانة والمروءة وعدم الدعاية لمذهبه().
وهذا كان مذهبًا مستنبطًا من أفعال الصحابة والتابعين من بعدهم؛ قال الخطيب البغدادي: “والذي نعتمد عليه في تجويز الاحتجاج بأخبارهم ما اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهاداتهم، ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل.
ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك؛ لما رأوا من تحريهم الصدق وتعظيمهم الكذب، وحفظهم أنفسهم عن المحظورات من الأفعال، وإنكارهم على أهل الريب والطرائق المذمومة، ورواياتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم، ويتعلق بها مخالفوهم في الاحتجاج عليهم.
فاحتجوا برواية عمران بن حطان وهو من الخوارج، وعمرو بن دينار وكان ممن يذهب إلى القدر والتشيع، وكان عكرمة إباضيًّا، وابن أبي نجيح وكان معتزليًّا، وعبد الوارث بن سعيد وشبل بن عباد وسيف بن سليمان وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة وسلام بن مسكين وكانوا قدرية، وعلقمة بن مرثد وعمرو بن مرة ومسعر بن كدام وكانوا مرجئة، وعبيد الله بن موسى وخالد بن مخلد وعبد الرزاق بن همام وكانوا يذهبون إلى التشيع، في خلق كثير يتسع ذكرهم، دوَّن أهل العلم قديمًا وحديثًا رواياتهم، واحتجوا بأخبارهم، فصار ذلك كالإجماع منهم، وهو أكبر الحجج في هذا الباب، وبه يقوى الظن في مقاربة الصواب”().
ومن ترك هؤلاء وأمثالهم لضاع كثير من العلم نقلاً وعقلاً، وقد لفت علي بن المديني انتباهنا لذلك لما قال: “لو تَركت أهل البصرة لحال القدر، ولو تَركت أهل الكوفة لذلك الرأي -يعني: التشيع- خربت الكتب -يعني: لذهب الحديث”().
وممن روى عنهم الإمام البخاري في صحيحه أقوام من الشيعة، وهم درجات؛ فالتشيع “محبة علي وتقديمه على الصحابة، فمن قدَّمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه، ويُطلق عليه رافضي، وإلا فشيعي.
فإن انضاف إلى ذلك السب أو التصريح بالبغض فغال في الرفض، وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو”().
وقد بيَّن لنا الذهبي فشوَّ التشيع في التابعين وتابعيهم، ثم وضَّح حدوث تطور في معنى التشيع عبر الأزمان فقال: “البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق.
فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.
ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة.
وأيضا فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقًا ولا مأمونًا، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله! حاشا وكلا.
فالشيعي المغالي في زمان السلف وعرفهم هو مَن تَكَلَّم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب عليًّا -رضى الله عنه، وتعرَّض لسبهم.
والمغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين -أيضًا، فهذا ضال معثَّر”().
وسوف نذكر بعضًا ممن روى عنهم البخاري من أهل التشيع والرفض على سبيل الإجمال؛ كـ: إسماعيل بن أبان وجرير بن عبد الحميد وخالد بن مخلد القطواني وسعيد بن فيروز البختري وسعيد بن عمرو بن أشوع وسعيد بن كثير بن عفير وعباد بن العوام وعباد بن يعقوب وعبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الرزاق بن همام الصنعاني وعبد الملك بن أعين وعبد الله بن موسى العبسي وعدي بن ثابت الأنصاري وعلي بن الجعد والفضل بن دكين أبي نعيم وفطر بن خليفة الكوفي ومحمد بن جحادة الكوفي ومحمد بن فضيل بن غزوان ومالك بن إسماعيل أبي غسان.
ولو أحببنا إيراد بعض التفصيلات فسنجد أن بعض شيوخ البخاري كانوا من الشيعة:
فإسماعيل بن أبان الوراق الكوفي هو أحد شيوخ البخاري، وإن لم يُكثر عنه، وقد وثقه النسائي وابن معين، وأثنى عليه أحمد وليس بقوي.
وقال الجوزجاني: كان مائلاً عن الحق، ولم يكن يكذب في الحديث.
وقد قال ابن عدي: يعني ما عليه الكوفيون من التشيع.
وقال ابن حجر: الجوزجاني كان ناصبيًّا منحرفًا عن علي؛ فهو ضد الشيعي المنحرف عن عثمان، والصواب موالاتهما جميعًا، ولا ينبغي أن يُسمع قول مبتدع في مبتدع().
وكذلك خالد بن مخلد القطواني الكوفي أبو الهيثم يعتبر من كبار شيوخ البخاري، روى عنه، وروى عن واحد عنه.
قال العجلي: ثقة فيه تشيع.
وقال ابن سعد كان متشيعًا مفرطًا.
وقال صالح جزرة: ثقة إلا أنه كان متهمًا بالغلو في التشيع.
وقال أبو داود: صدوق إلا أنه يتشيع.
وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه ولا يحتج به.
قال ابن حجر: أما التشيع فقد قدمنا أنه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضره، لا سيما ولم يكن داعية إلى رأيه().
أما عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي مولاهم أبو محمد الكوفي فمن كبار شيوخ البخاري.
سمع من جماعة من التابعين، وثقه ابن معين وأبو حاتم والعجلي وعثمان بن أبي شيبة وآخرون.
وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا حسن الهيئة، وكان يتشيع، ويروي أحاديث في التشيع منكرة، وضعف بذلك عند كثير من الناس، وعاب عليه أحمد غلوه في التشيع مع تقشفه وعبادته().
أما جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي أبو عبد الله الرازي، والذي كان منشؤه بالكوفة فقد روى عنه البخاري، وأجمعوا على ثقته، ولم يكن يدلس، وقال أبو حاتم: يُحتج بحديثه.
ونسبه قتيبة إلى التشيع المفرط().
وروى البخاري كذلك عن سعيد بن عمرو بن أشوع الكوفي، وهو من الفقهاء.
وثقه ابن معين والنسائي والعجلي وإسحاق بن راهويه.
وأما أبو إسحاق الجوزجاني فقال: كان زائغًا مغاليًّا، يعني: في التشيع.
والجوزجاني -كما علمنا- غال في النصَب فتعارضا.
وقد احتج به الشيخان والترمذي.
وروى البخاري عن بعض الرافضة؛ فعباد بن يعقوب الرواجني الكوفي أبو سعيد رافضي مشهور، إلا أنه كان صدوقًا وثقة أبو حاتم.
وكان ابن خزيمة إذا حدَّث عنه يقول: حدثنا الثقة في روايته، المتهم في رأيه عباد بن يعقوب.
وقال ابن حبان: كان رافضيًّا داعية.
وقال صالح بن محمد: كان يشتم عثمان -رضي الله عنه().
أما عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري الصنعاني صاحب المصنف، أحد الحفاظ الأثبات، فقد وثقه الأئمة كلهم إلا العباس بن عبد العظيم العنبري وحده فتكلم بكلام أفرط فيه ولم يوافقه عليه أحد.
وقال ابن عدي: رحل إليه ثقات المسلمين وكتبوا عنه إلا اسم نسبوه إلى التشيع، وهو أعظم ما ذموه به، وأما الصدق فأرجو أنه لا بأس به.
وقد احتج به الشيخان في جملة من حديث من سمع منه قبل الاختلاط().
أما عبد الملك بن أعين الكوفي فقد وثقه العجلي، وقال أبو حاتم: شيعي محله الصدق.
وقال ابن معين: ليس بشيء.
وكان ابن مهدي يحدث عنه ثم تركه.
له في الصحيح حديث واحد().
أما عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي التابعي المشهور فوثقه أحمد والنسائي والعجلي والدارقطني إلا أنه قال: كان يغلو في التشيع.
وقال أبو حاتم: صدوق، وكان إمام مسجد الشيعة وقاضيهم.
احتج به الجماعة، وما أخرج له البخاري في الصحيح شيئًا مما يقوي بدعته().
أما علي بن الجعد بن عبيد الجوهري أبو الحسن البغدادي أحد الحفاظ فقال أبو حاتم: لم أر من المحدثين من يُحدث بالحديث على لفظ واحد لا يغيره سوى علي بن الجعد، وذكره غيره، ووثقه آخرون، وتكلم فيه أحمد من أجل التشيع، ومن أجل وقوفه في القرآن.
روى عنه البخاري من حديثه عن شعبة فقط أحاديث يسيرة().
أما الفضل بن دكين أبو نعيم الكوفي أحد الأثبات فالثناء عليه في الحفظ والتثبت يكثر إلا أن بعض الناس تكلم فيه بسبب التشيع، ومع ذلك فصح أنه قال: ما كتبت عليَّ الحفظة أني سببت معاوية().
أما فطر بن خليفة المخزومي مولاهم كوفي من صغار التابعين فوثقه أحمد والقطان والدارقطني وابن معين والعجلي والنسائي وآخرون.
وقال قطبة بن العلاء: تركت حديثه لأنه روى أحاديث فيها إزراء على عثمان.
وقد قال العجلي: إنه كان فيه تشيع قليل.
وقال أبو بكر بن عياش: تركت الرواية عنه لسوء مذهبه.
روى له البخاري حديثًا واحدًا().
ومما سبق يظهر لنا إنصاف البخاري العملي، وأنه بحث عن العلم من الصادقين، وأن الشبهات تقدَّر بقدرها، فلا يُسقِط صاحبها جملة، بل ينظر في دينه وصدقه وأمانته، ويتحرى الأحاديث البعيدة عن الدعاية لمذهبه.
وأنه نظر للأمة نظرة واسعة، فنسيج الأمة واحد، ولم يعمل على تقسيمها وتفرقتها، وسار مع السواد الأعظم من الأمة، وترك الغلاة المجافين للحق والعدل والإنصاف.
المراجع:
(١) التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، ص(180).
(٢) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي، (10/324).
(٣) الميسر في شرح مصابيح السنة، (1/67).
(٤) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر، (1/385).
(٥) الكفاية في علم الرواية، ص(125).
(٦) السابق، ص(129).
(٧) فتح الباري، (1/459).
(٨) ميزان الاعتدال، (1/5-6).
(٩) فتح الباري، (1/390).
(١٠) السابق، (1/400).
(١١) السابق، (1/423).
(١٢) السابق، (1/395).
(١٣) السابق، (1/395).
(١٤) السابق، (1/395).
(١٥) السابق، (1/395).
(١٦) السابق، (1/395).
(١٧) السابق، (1/395).
(١٨) السابق، (1/395).
(١٩) السابق، (1/395).