غرفة تفكير النيوليبراليين الإيرانيين

 كتب سيدنيما موسوي

ترجمة دنيا ياسر نورالدين 

بدأت حكومة بهلوي في إيران في السنوات الواقعة بين الحربين العالميتين وانتهت في أواخر السبعينيات. يرى العديد من مفكري الاقتصاد السياسي أن حكومة بهلوي كانت تجسيداً لانتشار أفكار “جون ماينارد كينز” بين الحربين العالميتين، لا سيما في ظل أزمة العشرينيات. 

فهذه الأزمة، التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، أدت إلى التخلي عن نظرية الليبرالية الكلاسيكية، حيث اضطرت الرأسمالية إلى التفكير في بعض القواعد الاجتماعية مثل التأمين، وتحسين قوانين العمل، وتعزيز البيروقراطية الحكومية، وزيادة الضرائب من أجل الحيلولة دون اندلاع ثورات شيوعية في العالم. وكان “جون ماينارد كينز”، الاقتصادي البريطاني، هو مؤسس نظرية “دولة الرفاه”.

تأثرت حكومة بهلوي، أكثر من أي شيء آخر، بالتيار الكينزي العالمي من أجل التصدي للثورة الاشتراكية المحتملة في إيران، حيث كانت جمهورية غيلان الاشتراكية بقيادة إحسان الله خان تسعى للسيطرة على طهران وتأسيس حكومة جديدة. لقد بدأ عهد بهلوي متأثراً بكينز وتعاليم “دولة الرفاه”، وانتهى بانتهاء أفكار كينز ونظام “بريتون وودز” عام 1976. 

ولهذا السبب، يرى كثيرون أن قسماً من التاريخ السياسي والاقتصادي الإيراني بعد سقوط بهلوي تأثر بالتيار النيوليبرالي الذي انطلق من فرنسا في عهد “جيسكار ديستان” في السبعينيات، وامتد إلى “التاتشرية” في بريطانيا و”الريغانية” في الولايات المتحدة.

في إيران، لا سيما بعد انتهاء الحرب الإيرانية-العراقية وبدء رئاسة “أكبر هاشمي رفسنجاني”، أصبحت إدارة الاقتصاد بيد المؤسسات الدولية. وكان إقصاء الأحزاب اليسارية من السلطة تمهيداً لإجراء تغييرات لصالح السوق وخلق طبقة وسطى جديدة في المجتمع الإيراني. 

نفذ هاشمي، ضمن سياسة الانفتاح على الغرب، البرامج الاقتصادية التي أوصت بها مؤسسات دولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ومع وصول هاشمي رفسنجاني إلى الحكم، تم تعيين “مسعود نيلي”  الذي كان شابا يبلغ من العمر 34 عاماً آنذاك مستشاراً للرئيس، وشارك إلى جانب “مسعود روغني زنجاني” و”محسن نوربخش” رؤساء منظمة التخطيط والبنك المركزي  في تنفيذ سياسات التحرير الاقتصادي.

تسببت الصدمات الاقتصادية المتكررة، بالتزامن مع خروج المجتمع من أهوال الحرب، في إثارة اضطرابات اجتماعية في مدن مثل قزوين، مشهد، إسلام‌شهر، مباركة وأراك في أوائل التسعينيات، وبلغت ذروتها عندما وصلت معدلات التضخم إلى 50%. وقد أدت حدة الاحتجاجات الاجتماعية إلى تراجع رفسنجاني عن سياسات “التعديل الاقتصادي” واللجوء إلى سياسة “الاستقرار الاقتصادي” في عام 1995. الفريق الاقتصادي لرفسنجاني كان بمعظمه من خريجي جامعة شريف الصناعية. 

وتُعرف هذه الجامعة في إيران بأنها جامعة للعلوم الهندسية، وقد أدى نهجها الهندسي والرياضي في التعامل مع العلوم الإنسانية إلى اعتناقها لمذهب “علاج الصدمة” الاقتصادي. فحلقة جامعة شريف كانت تعتبر علم الاقتصاد فرعاً من فروع الرياضيات، ولم تكن تؤمن بالتعريفات التقليدية للعلوم الإنسانية. وبخلاف جامعة “بهشتي”، التي كان يغلب على اقتصادييها الطابع اليساري، كانت حلقة شريف تكنوقراطية وتؤمن بالبرامج النيوليبرالية، بل وتمكنت – عبر مجموعة “نياوران” – من التقرب إلى السياسيين، وهو أمر لم تحققه أي كلية اقتصاد أخرى في إيران.

خلال فترات رئاسة رفسنجاني، روحاني، رئيسي، وبزشكيان، لعبت حلقة جامعة شريف دوراً محورياً في التخطيط الاقتصادي، وفي ظل جميع هؤلاء الرؤساء الأربعة شهد الاقتصاد الإيراني صدمات تضخمية كبيرة.

من عام 1995 حتى 2006، تم تعليق السياسات النيوليبرالية في إيران بفعل ضغوط المؤسسات الدولية، وفي هذه الفترة سعت إيران لتحقيق الاستقرار الاقتصادي لتفادي الاضطرابات. ولكن مع صعود “محمود أحمدي‌نژاد” إلى الرئاسة، عادت هذه السياسات إلى الواجهة. كان فريقه الاقتصادي يتألف في الغالب من خريجي جامعة “العلامة طباطبائي”، وكان “جمشيد بژويان” أبرز مستشاريه الاقتصاديين، فيما كان تلامذته مثل “شمس‌الدين حسيني” و”محمدرضا فرزين” من كبار المسؤولين الاقتصاديين في حكومته. 

إلى جانب ذلك، كان لحلقة جامعة “علم وصنعت” – التي تخرج منها أحمدي‌نزاد ووزراؤه – دور مهم، وقد عُرفت هذه الحلقة حتى في الثمانينيات كمركز للطلاب الليبراليين المسلمين، وكانت من معارضي اقتحام السفارة الأمريكية في 1979.

تمحورت السياسات العامة لأحمدي‌نژاد حول رؤية أصولية للسوق وتقليص حجم الدولة. ومن أبرز سياساته التي نُفذت في إطار التغييرات النيوليبرالية خلال العقد الأول من الألفية: إلغاء الدعم، تقليص عدد الوزارات، تحرير سعر الصرف، وخصخصة الصناعات الأساسية.

أدى فوز “حسن روحاني” بالرئاسة إلى عودة فريق اقتصادي جديد إلى السلطة، وهو فريق مزيج من خريجي جامعتي “شريف”، “طهران” و”الشهيد بهشتي”، ولذلك كانت سياساته مزيجاً من البرامج المؤسسية (النهادية) وسياسات التحرير الاقتصادي. في ولايته الأولى (2013–2017)، كان للمؤسسيين وزن أكبر في الحكومة، بينما في ولايته الثانية (2017–2021)، ازدادت هيمنة مؤيدي التحرير الاقتصادي. ضم فريقه الاقتصادي كلاً من “مسعود نيلي” من جامعة شريف، “محمدحسين نوبخت” و”فرهاد دزبسند” من جامعة بهشتي، بالإضافة إلى “محمد نهاونديان” و”علي طيب‌نيا” من جامعة طهران.

من يناير/كانون الثاني 2018 حتى نوفمبر 2019، اندلعت موجة احتجاجات في إيران نتيجة الضغوط الاقتصادية التي أثّرت بشدة على الطبقات الفقيرة. وقد أدّت هذه السياسات إلى تراجع شديد في شعبية الفريق الاقتصادي لروحاني. وأدى فشل سياسات روحاني في ولايته الثانية إلى إخفاق “عبدالناصر همتي” رئيس البنك المركزي  في الانتخابات الرئاسية عام 2021.

في عهد “إبراهيم رئيسي”، كان الفريق الاقتصادي الرئيسي مؤلفاً من اقتصاديين مقربين من جامعة “الإمام الصادق”، مثل “احسان خاندوزي”، “حجت عبدالمالكي”، “حسين قربان‌زاده”، و”علي صالح‌آبادي”. ومع ذلك، لا يمكن اعتبار هذا الفريق موحداً من حيث الفكر الاقتصادي، إذ ضمّ بين صفوفه مؤيدين للسوق الحر ومناصرين لسياسات الرفاه الاجتماعي. 

خلال السنوات الثلاث لرئاسته، من سبتمبر 2021 إلى فبراير 2023، منح رئيسي زمام الأمور لمؤيدي التحرير الاقتصادي، لكن مع تصاعد التضخم وتدهور قيمة العملة الوطنية، اضطر للعودة إلى مؤيدي سياسات الاستقرار. 

ومن فبراير/شباط 2023 حتى مايو/آيار 2024، سيطر التيار المؤيد للاستقرار على إدارة البلاد. وكان أبرز مؤشر على هذا التحول هو إقالة “علي صالح‌آبادي” من رئاسة البنك المركزي في يناير /كانو الثاني 2023. ومع ذلك، واصل بعض المسؤولين، مثل “حسين قربان‌زاده” – من المخططين الاقتصاديين لحكومة رئيسي – تنفيذ مشاريع مثل “تفعيل الأصول” التي تضمنت بيع ممتلكات الدولة، تأكيداً منهم على نهج التحرير الاقتصادي.

لا يمكن الجزم بوجود فكر اقتصادي موحد في الجامعات الإيرانية، لكن هذا الوصف ينطبق إلى حد كبير على جامعتي “شريف” و” بهشتي”. إذ تهيمن في جامعة شريف النظرة الليبرالية والسوقية، وقد استطاعت هذه الجامعة على مدى العقود الثلاثة الماضية إيصال أفراد إلى مراكز اتخاذ القرار الاقتصادي، كما حافظت على وجودها عبر شبكات علاقات مع أرباب العمل والساسة في مجموعة نياوران. ومن بين أبرز الاقتصاديين المرتبطين بهذه الحلقة: “مسعود نيلي”، “علي مدني‌زاده”، “علينقي مشايخي”، “علي مروي”، وغيرهم، وقد لعبوا دوراً كبيراً في تخطيط السياسات الاقتصادية في جميع الحكومات بعد الحرب.

في المقابل، كانت حلقة جامعة الشهيد بهشتي قوة معارضة بارزة لهذا التيار. ومن أبرز شخصياتها: “برويز داوودي” – نائب أحمدي‌نزاد السابق، “حسين صمصامي” – النائب الحالي وأحد أهم معارضي سياسات التحرير، “محمد نوبخت” – الاقتصادي المؤسسي ورئيس منظمة التخطيط والموازنة سابقاً، و”فرهاد دژپسند” – وزير الاقتصاد في حكومة روحاني الثانية.

أما باقي الجامعات مثل “طهران”، “الإمام الصادق”، “العلامة طباطبائي” وغيرها، فلم يكن لها اتجاه فكري موحد في الاقتصاد، بل ضمت طيفاً متنوعاً من الآراء. ومع ذلك، فإن الساحة الرئيسية لصنع القرار الاقتصادي في مستقبل إيران تبدو محصورة بين حلقة جامعة شريف وحلقة جامعة  بهشتي.