- زاد إيران - المحرر
- 50 Views
كتب: مهدی سجادي
في مثل هذه الأيام من العام الماضي، ومع سقوط الطائرة المروحية التي كانت تقلّ الرئيس السابق إبراهيم رئيسي في مرتفعات شمال غربي البلاد، أُغلقت صفحة الحياة السياسية له، وقد كان يُعد أحد أبرز المرشحين لتولي قيادة النظام في المستقبل. وكان قد طُرحت في السابق أسماء أخرى مثل محمود هاشمي شاهرودي، ومحمد تقي مصباح اليزدي، وأكبر هاشمي رفسنجاني، لكنها جميعا استُبعدت بسبب وفاتهم.
بل إن بعضهم، مستندين إلى عدم اشتراط الجنسية الإيرانية لتولي منصب القيادة وفقا للدستور الإيراني، طرحوا اسم السيد حسن نصر الله كأحد الخيارات المحتملة، لكن بعد اغتياله من قبل الاحتلال الإسرائيلي في ضاحية بيروت، أُزيل هذا الخيار أيضا من قائمة الاحتمالات.
ورغم أن النظر في الخيارات المحتملة للقيادة من المهام الرسمية الخاصة بلجنة معينة داخل مجلس خبراء القيادة في إيران، فإن التكهنات بهذا الشأن كانت مطروحة سواء بين النخب الإيرانية في الداخل، أو بين المفكرين في الخارج، وقد خضعت سيناريوهات ما بعد خامنئي للبحث والدراسة من قبل مراكز فكرية داخل وخارج المنطقة.

بل إن هذا الأمر أصبح مطروحا حتى بين مؤيدي النظام أنفسهم، لدرجة أن حسن رحيم بور أزغدي، عضو المجلس الأعلى للثورة الثقافية في إيران، ذكر في إحدى خطاباته العامة أنه طرح سؤالا على المرشد علي خامنئي نفسه بشأن قيادة إيران المستقبلية!
ونظرا إلى أنه لم يتم الإعلان رسميا حتى الآن عن أي بديل أو نائب أو قائم بالأعمال، فقد ازدادت الغموضات حول مستقبل إيران وقيادتها، وظهرت بوضوح في مختلف المحافل.
إن التجربة السابقة للنظام في تعيين نائب للإمام الخميني، رغم معارضة الإمام الشديدة لذلك الشخص الذي كُشف عن ذلك لاحقا في رسالة إلى منتظري، جعلت الجميع يتحاشى الحديث عن هذه المسألة. حتى علي خامنئي، الذي كان من المؤيدين لطرح ومتابعة موضوع النيابة في العقد الأول بعد الثورة، وكان يدافع عنه في خطب الجمعة آنذاك، لم يعُد يتناول هذا الموضوع خلال فترة قيادته.
يبقى السؤال الأساسي دون إجابة: هل يمكن من خلال دراسة فترة القيادة السابقة للنظام ومسار اختيار القائد الحالي، الوصول إلى مؤشرات للإجابة؟ كيف جرى تعيين خلف آية الله الخميني؟
من جهود هاشمي إلى نيابة منتظري
بعد انتصار الثورة وتأسيس مؤسسات النظام الرئيسية كالبرلمان، والحكومة، ومجلس صيانة الدستور، وبعد إجراء انتخابات متعددة وإقرار الدستور، تم في عام 1983 تأسيس هيئة تُعرف باسم “مجلس خبراء القيادة”، برئاسة علي مشكيني. ووفقا للدستور الإيراني، فإن مهمة انتخاب القائد تقع على عاتق هذا المجلس. تُجرى انتخاباته كل ثماني سنوات، ويُشترط في أعضائه أن يكونوا مجتهدين في العلوم الإسلامية الحوزوية.
وقد أُسّس هذا المجلس خلال سنوات الحرب الإيرانية العراقية، وتزامن ذلك مع تقدُّم الإمام الخميني في السن ومعاناته من مرض قلبي كان معروفا منذ السنوات الأولى بعد الثورة، وقد تعرض لأقوى نوبة قلبية في فبراير 1980، ما أقلق مؤيدي الثورة وأثار آمال خصومها بسقوط النظام. هذا الوضع دفع بعض أعضاء المجلس إلى البحث في موضوع خلافة القيادة.
رغم أن الدستور لا ينص على تعيين نائب أو قائم مقام للقيادة، فإن المجلس، من باب “التمهيد العقلي للواجب”، قبِل هذا الإجراء، وفي نهاية المطاف، ورغم معارضة آية الله حسين علي منتظري نفسه، تم تعيينه في نوفمبر/تشرين الثاني 1985 قائم مقاما للإمام الخميني. وقد كان من المفترض أن يبقى هذا الأمر سريا، لكن بسبب تسريبه من أحد الأعضاء، ظنا منه أنه ليس سريا، اضطُر مجلس الخبراء إلى تأكيد الخبر ونشره في الصحف الرسمية.
ومنذ ذلك الحين، أصبح آية الله منتظري يُعرف كنائب الإمام الخميني. وبهذا، شعر القائمون على شؤون الجمهورية الإسلامية بنوع من الطمأنينة في إدارة الأوضاع، لكن هذه الطمأنينة تحوّلت اليوم إلى قلق وتحليلات واستشرافات للمستقبل بعد علي خامنئي.

صدمة قاسية
رغم أن الإمام الخميني كان قد أحال كثيرا من الشؤون الفقهية والحكومية إلى منتظري بعد تعيينه، فإن خلافات كثيرة كانت قائمة – سرا وعلنا – بينه وبين بقية أركان النظام، وعلى رأسهم القيادة. وكانت انتقادات منتظري المستمرة لأجهزة الأمن والقضاء من أبرز تلك التحديات. ومع كشف فساد “سيد مهدي هاشمي”، شقيق زوج ابنة منتظري، الذي أُعدم لاحقا، تصاعدت تلك الانتقادات.

رغم أن معارضة الإمام لتعيين منتظري كانت واضحة لبعض الشخصيات مثل محمدي جيلاني وهاشمي رفسنجاني منذ البداية، فإن هذا الأمر لم يُكشف لأسباب معينة. وبعد فشل محاولات الإصلاح، شعر الإمام الخميني في مارس/آذار 1989– كما يُعبّر عنه في الأدبيات السياسية الإيرانية – بـ”التكليف الشرعي” تجاه مستقبل النظام، وكتب رسالة شديدة اللهجة لمنتظري، لم يعزله فيها فقط من منصب نائب القيادة، بل حتى من وكالة استلام الحقوق الشرعية.
“بما أنه تبيّن أنكم ستسلمون هذا البلد العزيز والثورة الإسلامية بعدي لليبراليين ومن خلالهم إلى المنافقين، فقد فقدتم صلاحية وشرعية قيادة النظام في المستقبل… لستم بعد الآن وكيلي، وعلى الطلبة الذين يأتون إليكم بالأموال أن يراجعوا منزل السيد پسنديده في قم أو يتوجهوا إلى جماران في طهران”… صحيفة الإمام الخميني، بتاريخ 26 مارس/آذار 1989
رغم أن هذه الرسالة لم تُنشر في ذلك الوقت، وشكك بعض مؤيدي منتظري في صحتها لاحقا، فإنها أُكدت بعد استعلام حسن الخميني – حفيد الإمام – وتأييد بعض الشخصيات لها. في اليوم التالي كتب منتظري رسالة استقالة، وقبلها الإمام بلغة أكثر هدوءا، لكن هذا العزل شكل صدمة كبيرة للثوار الإيرانيين.
وأورد بعضهم في مذكراتهم عن تلك الأيام أنهم لم يصدقوا ما حدث. وتم إنزال صور منتظري التي كانت معلقة إلى جانب الإمام في المؤسسات دفعة واحدة بعد عزله. وأخرج المخرج محمد علي صدري نيا فيلما وثائقيا بعنوان “النائب” عرض فيه تفاصيل حياة هذا الفقيه الذي سُجن في عهد الشاه وتمت إزاحته في عهد الجمهورية. كما تطرق كتاب “رنج نامه” إلى كواليس علاقته بالإمام من وجهة نظر أحمد الخميني، نجل الإمام الخميني ومسؤول مكتبه آنذاك.
قرار حاسم
بعد أقل من شهر، وفي 24 أبريل/نيسان 1989، كتب الإمام الخميني رسالة إلى الرئيس آنذاك (علي خامنئي) يطلب منه مع لجنة مكونة من عشرين شخصا البدء في مراجعة دستور الجمهورية الإسلامية. وتم خلالها تعديل بعض البنود الثانوية مثل تغيير اسم مجلس الشورى الوطني إلى مجلس الشورى الإسلامي، وإلغاء منصب رئيس الوزراء، وتعديل صلاحيات بعض المؤسسات، والأهم: إلغاء شرط “المرجعية” في القائد.

وفق دستور 1979، كان يجب أن يكون القائد من بين مراجع التقليد. ومع عزل منتظري وتقدم مراجع التقليد الآخرين في السن وافتقارهم إلى شروط المنصب، بدأت مناقشة جدية لإلغاء هذا الشرط. وفي المراسلات بين رئيس لجنة المراجعة والإمام، رأى الإمام أن شرط المرجعية غير ضروري، بل لم يكن ضروريا من البداية، وأن الاجتهاد الفقهي إلى جانب باقي الشروط كافٍ.
بإلغاء هذا الشرط، أصبح أمام مجلس الخبراء مساحة أوسع في اختيار القائد. لكن القلق بشأن مستقبل النظام ظل قائما، لأن اختيار الشخص المناسب ظل يشكل تحديا.
الصدمة الأكبر
قبل بدء أعمال اللجنة، بدأت حالة صحية جديدة لدى الإمام. وفي خضم المباحثات، جاء الخبر الذي لم يهز المجلس فحسب، بل العالم كله: روح الله الخميني، قائد الثورة الإسلامية في إيران، توفي. لم يمت بنوبة قلبية – التي كانت مصدر قلق على مدى أكثر من عشر سنوات – بل بسبب مضاعفات عملية جراحية وسرطان المعدة!

انتهت الحرب مع العراق حديثا، وكانت المفاوضات جارية. منتظري قد أُقيل. الدستور قيد التعديل. والقائد الأعلى توفي. كانت الأنظار كلها تترقب ردة فعل النظام الإسلامي. عدد الوفود المشاركة في تشييع الإمام – والذي استمر ثلاثة أيام – لم يكن كبيرا، لأن كثيرين توقعوا أن تدخل إيران في حالة عدم استقرار قريبا.
مناقشات مكثفة في مجلس خبراء القيادة
قبل الإعلان الرسمي عن الوفاة، تم استدعاء أعضاء مجلس الخبراء من مختلف المحافظات إلى طهران، وهو المجلس الذي أُنشئ خصيصا لهذه اللحظات. في مساء 3 يونيو، توفي الإمام، وفي صباح 4 يونيو، بدأت أولى جلسات المجلس بقراءة وصيته. ومع افتتاح الجلسة، بدأ النقاش. فهل يتم اعتماد الدستور القديم أو المنتظر؟ ماذا عن رأي الإمام في شرط المرجعية؟ صحيح أن الإمام أقال القائم مقام، لكن المجلس – الذي عيّنه – لم يُقِلْه رسميا! لذا، وجب أن يتم عزله أولا.
وبعد تجاوز هذه المراحل، طُرح النقاش حول القيادة الفردية أم الجماعية. كان علي خامنئي من مؤيدي القيادة الجماعية آنذاك، رغم أن اسمه ورد في كل المقترحات لتلك القيادة.
أول مرشح طُرح كان آية الله كلبايكاني، المرجع الأعلى حينها. اقترح البعض أن يكون هو القائد ويكون خامنئي نائبا. لكن بعد رفض القيادة الجماعية، استمر النقاش حول اختيار القائد. من بين من لم يصوّتوا للقيادة الفردية: خامنئي، ومشكيني، وهاشمي رفسنجاني.
ثم طلب رفسنجاني الكلمة ليروي عدة مواقف عن دعم الإمام لخامنئي: أحدها بحضوره مع رؤساء السلطات، وأخرى على انفراد، وثالثة منقولة عن أحمد الخميني. هذه الشهادات أقنعت الأغلبية. ورغم اعتراض خامنئي، لم تؤثر معارضته كثيرا، وفي 4 يونيو، أي أقل من 24 ساعة من وفاة الإمام، تم اختيار علي خامنئي قائدا جديدا بأغلبية تفوق أربعة أخماس الحضور.
وفي المجلس، وليس في الإعلام، قيل إن هذا التصويت مؤقت، وسيُعاد بعد الانتهاء من تعديل الدستور. وبعد شهرين، وبعد إقرار الدستور واستفتاء الشعب عليه، أعاد المجلس التصويت على قيادة خامنئي، وهذه المرة بأغلبية أكبر.

وبإعلان هذا الخبر، أُغلقت واحدة من أعقد مراحل إيران المعاصرة، والتي طالما جرت التحضيرات لها، دون أن تُثمر. لم يمت الإمام بنوبة قلبية، ولم يصبح القائم مقام قائدا، ولم يمنع شرط المرجعية من انتخاب القائد.
والوضع الحالي في إيران، كما أُشير في بداية المقال، مشابه. فكل تلك الجهود والتكهنات، تتلاشى لأسباب شتى. موعد يوم الجمهورية الإسلامية الثاني وتكليف مجلس الخبراء مجددا غير معلوم. فالحياة والموت بيد الله، لكن تجربة اليوم الأول، مليئة بالدروس والعِبر لتحليل اليوم التاريخي المقبل.